الدوافع: المحركات الخفية وراء كل أفعالنا

"دفعه الحزن للانتحار"، "كان سلوكه العنيف بدافع الانتقام"، "دفعه الغضب للتصرف بهذا الشكل"، "الحب كان وراء سلوكه الغريب هذا".



نحن نسمع مثل تلك العبارات كثيراً، حتى إنَّنا نستخدمها شخصياً في عدد من المرات، وإذا ما فكرنا قليلاً بهذه العبارات لاكتشفنا أنَّها تؤدي جميعاً إلى فكرة واحدة، وهي أنَّ وراء كل سلوك يقوم به الإنسان دافع خفي يحركه ويجعله يتصرف بطريقة معينة تميزه عن غيره.

الدوافع هي المحركات الخفية والأساسية لكل سلوك نقوم به، فلا يمكن لإنسان القيام بأي فعل دون وجود دافع يوجهه ويقوده، ومن الهام جداً التعرف إلى دوافعنا وإلى دوافع الآخرين؛ لأنَّنا بذلك سنتفهم جذور السلوكات المختلفة التي نقوم بها ويقوم بها المحيطون بنا، وهذا يساعدنا على تقبلها وتغييرها إن لزم الأمر.

أولاً: ماذا يعني الدافع؟ وأين تكمن أهميته؟

الدوافع هي عبارة عن استعدادات موجودة لدى الكائن الحي عموماً، ولكنَّها كامنة لا تتحرك إلا بفعل مثير خارجي أو حاجة داخلية، فعندما تتحرك تلك الدوافع تجعل الكائن الحي يقوم بسلوك مناسب لتلك الحاجة، ولا يتوقف النشاط هنا؛ بل يستمر حتى يصل الإنسان إلى الحافز الذي يشبع الحاجة.

هنا لا بد من التفريق بين الحاجة؛ أي المثير والحافز؛ إذ يخلط الكثير من الناس بينهما، فالمثير يثير السلوك ولكنَّه لا يشبع، بينما يثير الحافز السلوك ويرضيه في الوقت ذاته، ومثلاً نقص الطعام هو حاجة أو مثير، في حين أنَّ الطعام بحد ذاته هو الحافز.

بعبارة أخرى يمكن القول إنَّ الدافع هو حالة من التوتر الداخلي التي تحدث نتيجة لمثير، وتثير هذه الحالة الفاعلية لتبحث في البيئة الخارجية عن الحافز الذي يزيل التوتر ويشبع الحاجة، وبهذا المعنى فإنَّ الدافع هو محرك السلوك وليس السلوك نفسه.

  • ليس لكل سلوك نقوم به دافع محدد، فأحياناً يكون خلف سلوك واحد عدد كبير من الدوافع، ومثال عن ذلك سلوك القتل فأحياناً يكون بدافع الاغتصاب أو السرقة أو الانتقام أو الغضب أو غير ذلك.
  • قد يؤدي دافع واحد إلى مظاهر متعددة من السلوك، فدافع إثبات النفس مثلاً قد يؤدي إلى العمل أو الدراسة أو السفر أو غير ذلك.

شاهد بالفيديو: 6 نصائح للحصول على الدافع والبقاء متحفزاً

أين تكمن أهمية الدافع؟

تكمن أهمية الدافع في:

  • الدافع هو المحرك الأساسي لكل سلوك يقوم به الإنسان، ولذلك فإنَّ معرفة الدوافع أحد الشروط الأساسية لدراسة الشخصية وتفسير السلوكات المختلفة ومعرفة أسباب هذه السلوكات وأهدافها.
  • معرفتنا بدوافع الآخرين تزيد من قدرتنا على التعامل معهم بشكل يتناسب مع حاجاتهم وشخصياتهم، وهذا ما يزيد من قدرتنا على التوافق معهم، فمثلاً عندما تعرف أنَّ تدقيق أهلك على تصرفاتك بدافع الحب سيسهل عليك تقبُّل هذا السلوك لو كان مبالغاً فيه بعض الأحيان.
  • معرفتنا وفهمنا لدوافعنا الخاصة تجعلنا أكثر قدرةً على السيطرة عليها وتوجيهها، وهذا من شأنه تحقيق الكثير من التوازن النفسي لنا، فمثلاً عندما ندرك أنَّنا نتخذ قرارات هامة في حياتنا بدافع الغضب وهذا ما يجلب لنا الكثير من المتاعب دائماً، سنتدرب كثيراً على التحكم بهذه الانفعالات حتى نتمكن من ضبطها.
  • معرفة الدوافع وراء الجرائم تفيد في وضع القوانين والعقوبات الرادعة المناسبة، فمعرفة القاضي بدوافع المجرم وانفعالاته تساعده كثيراً على التحقيق وعلى إصدار الحكم المناسب.
  • فهم الدوافع يساعد المرشدين والمعالجين النفسيين كثيراً على علاج المجرمين والمضطربين نفسياً وإعادة تأهيلهم.

ثانياً: أنواع الدوافع وتصنيفاتها

يصنِّف العلماء الدوافع بطرائق مختلفة، فمنهم من يصنفها على أساس المصدر ومنهم من يصنفها على أساس وعي الفرد بها أو عدمه ومنهم من يصنفها حسب المصدر والهدف معاً، وهذا التصنيف هو الذي سنأتي على ذكره فيما يأتي:

1. الدوافع العضوية:

تتعلق هذه الدوافع بالحاجات العضوية الأساسية لاستمرار حياة الكائن الحي، وتُعَدُّ هذه الدوافع الأساس لكل الدوافع الأخرى، وتختلف عن باقي الدوافع بأنَّ لإثارتها أساساً عضوياً، قد يكون هرمونياً أو عصبياً أو عضلياً، كما أنَّها شعورية وغريزية؛ أي إنَّها مشتركة بين جميع الكائنات الحية، ومن الأمثلة عنها دافع الجوع والجنس والأمومة.

2. الدوافع الاجتماعية:

تنشأ هذه الدوافع عن الدوافع العضوية، إلا أنَّها تستقل عنها؛ إذ تشبع هذه الحاجات من خلال الجماعة أو الآخرين؛ أي إنَّها مكتسَبة من البيئة الاجتماعية، وتتكون الدوافع الاجتماعية في أثناء قيام الفرد بتلبية حاجاته العضوية نتيجة عجزه عن ذلك أو بسبب حاجته ليشاركه أحد في إشباعها.

بعض الدوافع الاجتماعية تنشأ لدى الفرد في أي مجتمع كان كالدافع للاجتماع ودافع تأكيد الذات، في حين أنَّ بعضاً من الدوافع الاجتماعية تنشأ في مجتمع دون غيره كدافع العدوان مثلاً، وقد يختلف العلماء في شأن فطرية هذه الدوافع أو عدمها، وسنذكر فيما يأتي مثالاً عن الدوافع الاجتماعية بشيء من التفصيل لتكون أوضح.

دافع المقاتلة هو أحد الدوافع الاجتماعية؛ إذ يشعر الفرد بالغضب عندما يعجز عن تحقيق ما يريد فيلجأ إلى القوة لتحقيق هذه الرغبة محفزاً دافع المقاتلة، وقد ادعى "فرويد" فطرية هذا الدافع؛ إذ يقول إنَّ الإنسان بطبعه عدواني، وبذلك لا مفر من الحروب؛ وذلك لأنَّ الإنسان يولد بدافع المقاتلة، في حين أنَّ "ماسلو" وغيره من أنصار الاتجاه الإنساني يعتقدون أنَّ المقاتلة ليست دافعاً فطرياً، وقد استشهدوا على كلامهم بوجود قبائل لم تعرف الحرب يوماً وهم الإسكيمو، وبذلك عدوانية الإنسان تنشأ من عوامل خارجية.

3. الدوافع الذاتية أو الفردية:

الدوافع الفردية أو الذاتية خاصة بكل فرد، ولا يعني انتماء الأفراد لجماعة محددة ذات ثقافة واحدة أن يتشابهوا بالدوافع الفردية كما يحدث في حال الدوافع الاجتماعية؛ إذ تعطي الدوافع الذاتية لكل شخص سماته التي تميزه عن غيره، فمنها ما يكون شعورياً يشمل اتجاهات الفرد وميوله ومستوى طموحه، ومنها ما يكون لا شعورياً، ونظراً للأهمية الكبيرة للدوافع اللاشعورية سنتناولها بشيء من التفصيل.

شاهد بالفيديو: 10 قواعد في الحياة للمحافظة على الدافع

ثالثاً: ما هي الدوافع اللاشعورية؟

الدوافع اللاشعورية هي تلك الدوافع التي لا نشعر أنَّها موجودة لدينا، ولا تظهر في شعورنا ولا حتى في وعينا، لذلك فإنَّ إنكارنا لوجودها أمر طبيعي، كما تؤثر هذه الدوافع اللاشعورية تأثيراً كبيراً في سلوكاتنا، ولكل شخص منا دوافع لا شعورية خاصة به.

كيف تتشكل الدوافع اللاشعورية؟

تتشكل في أثناء التفاعل مع بيئتنا الاجتماعية التي نوجد ونسعى فيها إلى إشباع حاجاتنا العضوية والنفسية والاجتماعية، لكن في كثير من الأحيان نواجه العقبات التي تمنعنا من تحقيق حاجاتنا سواء أكانت عقبات اجتماعية أم عادات أم تقاليد أم قوانين أم أنظمة أم عقبات ذاتية ناتجة عن اختلافنا في القيم والمعايير والظروف المادية والاجتماعية.

قد يختلف الناس في مواجهة هذه العقبات والمشكلات الناتجة عنها، فبعض الناس مثلاً يعدِّلون دوافعهم لتصبح أكثر توافقاً مع طبيعة مجتمعاتهم ومعاييره كما يحدث مع الدافع الجنسي مثلاً، ويحاول بعضهم الآخر البحث عن طرائق واقعية أخرى تحل مشكلاتهم وتشبع دوافعهم وتتفق بنفس الوقت مع قيم مجتمعهم ومعاييره، كما يفعل الطالب الذي رسب عندما يعيد المحاولة مع بذل الكثير من الجهد لتحقيق نتائج مُرضية تشبع دافعه للنجاح.

في حين بعض الناس يلجؤون إلى تحقيق هدفهم وإشباع حاجتهم بطرائق ملتوية كالطالب الذي يغش مثلاً لينجح، وفي حال عجز الناس عن إيجاد طرائق وأساليب واقعية لحل أزماتهم، وعندما يخافون من النتائج المترتبة على إشباع حاجاتهم المختلفة ينقلون هذه الدوافع والحاجات والرغبات آلياً إلى اللاشعور.

تسمى هذه العملية الكبت، ومنها تتشكل العديد من الدوافع والعقد اللاشعورية التي تسيطر على الكثير من سلوكاتنا وتوجِّه أفعالنا دون أن ندري، حتى إنَّ الكثير من علماء النفس وفي مقدمتهم "فرويد" يرون أنَّ معظم السلوك البشري ناتج عن الدوافع والمشاعر المكبوتة والمقموعة.

نحن مثلاً نحتاج إلى الدخول في علاقة حب، ولكنَّنا بدلاً من الاستمرار بها نقرر إنهاءها أو الانسحاب منها باختراع حجج واهية غير منطقية لإخفاء مشاعرنا الحقيقية وخوفنا المدفون في لا وعينا.

تحاول الدوافع اللاشعورية في كل فرصة أن تصبح شعورية وأن تتحقق، ولكنَّها تواجَه مجدداً من قِبل الضمير فتُكبَت من جديد وتظهر على شكل عقد نفسية وحيل وآليات دفاعية نلجأ إليها لتحقيق أكبر قدر من التوافق مع المحيط.

سنتكلم عن كل واحدة على حدة فيما يأتي:

1. العقد النفسية: 

العقد النفسية هي مجموعة من الدوافع والرغبات التي تم كبتها لأنَّها مؤلمة وغير منسجمة مع الحياة الاجتماعية لمجتمع ما، وهي مشحونة بكثير من الانفعالات والمشاعر كالخوف والغضب والغيرة والحقد، وتتشكل العقد النفسية نتيجة تكرار التعرض للمواقف والخبرات المؤلمة من قِبل الفرد؛ إذ يقوم الأخير بإبعاد المشاعر المؤلمة الناتجة عنها إلى اللاشعور بواسطة الكبت، والأمثلة كثيرة جداً عن هذه العقد مثل عقدة الأب وعقدة النقص وعقدة الذنب.

إقرأ أيضاً: العقد النفسيَّة الأكثر انتشاراً في المجتمع

2. أساليب التوافق اللاشعورية:

تسمى أيضاً آليات الدفاع أو حيل التوافق، وهي مجموعة من الطرائق والأساليب اللاشعورية التي يلجأ إليها جميع الناس لحل أزمتهم والمشكلات التي تواجههم، وتساهم هذه الآليات بخفض التوتر والقلق والدفاع عن الذات.

سنذكر فيما يأتي أشهر خمس حيل:

1. الإسقاط:

"تصرف معي هكذا بدافع الكراهية"، هل فكرت مرة أنَّ دافع الكراهية هذا يخصك أنت وأنَّك حقيقة أنت من تكره وليس الشخص الذي تتكلم عنه؟ الإسقاط وسيلة لا شعورية يلجأ إليها الشخص لحل الصراع القائم بينه وبين دافع ما بإسقاط هذا الدافع على شخص آخر كما في المثال السابق؛ إذ نستخدم شخصاً ما لنسقط عليه كل ما يجول في نفسنا، فنحن عندما نحاكمه أو نرفضه نكون في الواقع رافضين لأنفسنا.

2. التبرير:

عملية لا شعورية أيضاً يستخدمها الشخص لتبرير دوافعه التي لا يرضى عنها هو أو المجتمع، فيلجأ إلى تقديم أدلة وحجج منطقية ليقنع نفسه والآخرين أنَّه لا يوجد لوم عليه في إحدى المسائل، كما يحدث مثلاً عندما يقول أحد الطلاب إنَّ سبب رسوبه يرجع إلى صعوبة الأسئلة أو ظلم المعلم.

3. النكوص:

عودة الشخص إلى أنماط سلوك لا تتلاءم مع عمره لإشباع دوافعه، مثل بكاء الراشد لتحقيق أحد طلباته، وغالباً ما يلجأ الشخص إلى النكوص عندما يكون من المستحيل إشباع حاجته بطريقة سوية.

4. التقمص:

وهو تبني وامتصاص سلوك وحركات وطريقة شخص ما دون وعي منا لإشباع النقص الذي لدينا، ويحدث ذلك دون أن نشعر ودون وعي منا.

5. الأحلام:

إحدى الطرائق الأساسية التي يلجأ إليها الإنسان لإشباع دوافعه الملحة، وخاصةً عندما يكون تحقيق مثل هذه الدوافع صعباً جداً في الواقع.

إقرأ أيضاً: 4 استراتيجيات لتعزيز الدوافع الداخلية

في الختام:

لا بد من التأكيد على أنَّ الأساس في تحقيق تكيف الفرد النفسي والاجتماعي والشخصي الصحيح مع بيئته هو مدى إشباعه لحاجاته ودوافعه والطريقة التي استخدمها لتحقيق هذا الإشباع، فلكل شخص منا العديد من الحاجات المختلفة ونحن نسعى إلى إشباعها جميعاً بما يتلاءم مع واقعنا الذي نعيشه، وفي حال فشلنا في مواجهة العقبات التي تواجهنا في أثناء سعينا إلى هذا الإشباع يسوء تكيفنا، وهذا ما يوقعنا في كثير من المشكلات والأزمات النفسية ويجعلنا نلجأ إلى أساليب ووسائل لا شعورية لنستعيد هذا التكيف.




مقالات مرتبطة