الخصائص النفسية للتخلف

يؤسفنا جداً أن يكون التخلف سمةً من السمات التي تلتصق بمجتمعاتنا العربية، كما بأغلب مجتمعات دول العالم الثالث، ولأنَّنا حريصون في فريقنا "النجاح نت" على البحث والتقصي بهدف فهم الأبعاد النفسية والاجتماعية لكل ظاهرة حولنا؛ بحثنا في الخصائص النفسية للتخلف لمعرفة الأساس الذي جاء منه.



يعني التخلف عامة الاستلاب الاقتصادي والاجتماعي من الناحية المادية؛ ومن ثَمَّ لا بدَّ لهذا التخلف أن يولِّد استلاباً نفسياً على المستوى الذاتي للفرد، وحتى نتمكن من احتواء ظاهرة التخلُّف وفهمها جيداً لا بدَّ من الدخول في هذا الاستلاب الذاتي للأفراد، وفهم كل القوى الفاعلة والمؤثرة والمسببة له.

التخلف ظاهرة كلية ذات جوانب متعددة تتفاعل فيما بينها جدلياً، والتخلف النفسي في أحد جوانبه هو نمط من الوجود، وأسلوب في الحياة ينبت في كل حركة أو تصرُّف، وفي كل معيار أو قيمة، ويمكننا ببساطة أن نرى على أرض الواقع كيف تتشابه تصرفات وسلوكات شعوب بأكملها، وكيف تُنعَت مجتمعات كاملة دون غيرها بالتخلف، حتى بات من الصعب جداً إزالة هذه الفكرة عنها.

الخصائص النفسية للتخلف موضوع مقالنا لهذا اليوم.

الشعور بالقهر أخطر مخلفات التخلف:

يعيش الإنسان مقهوراً في الطبيعة، فلا يستطيع رد مخاطرها، كالجفاف والفيضانات والحرائق والأمراض والأوبئة، فيبقى دائماً في حالة من القلق والخوف على أمانه وصحته ورزقه، ويشعر بالعجز أمام قوة الطبيعة وأخطارها.

هذا العنف الذي تشكله الطبيعة وتقوم به، يجعل الإنسان يعيش في عالم الضرورة، عالم فقدان السيطرة على مصيره؛ لأنَّه ببساطة لا يملك سلاحاً للمواجهة، وكلَّما تضخمت أهوال الطبيعة تضخم داخل الإنسان الشعور بالعجز، واحتلته المشاعر القلقة الخائفة من الواقع والوجود، وهذا حقيقةً هو بداية صنع إنسان متخلف.

يعيش الإنسان المتخلف حالة تهديد دائم وترقب، ويتساءل عن الطبيعة كثيراً، هل ستحمل له الخير أم أنَّها ستقسو عليه لتحمل له الشقاء والعذاب؟ لذلك يبقى الخوف على الأمن والرزق والصحة مستمراً داخل نفسه، وهذا يقوده بدفع من شعوره بالعجز إلى الإيمان بالماورائيات، وهنا يمكن أن نستذكر أمثلة كثيرة من الحضارات القديمة التي كانت تقدِّم قرابيناً للشمس والمطر والريح بهدف حماية نفسها ورزقها.

إذاً تجعل الطبيعة العنيفة الإنسان المقهور يؤمن بالغيبيات التي تشكِّل من وجهة نظره قوانين الكون، وهذا ما يدفعه إلى التقرب من هذه القوة الحاكمة ليؤمِّن بعضاً من مشاعر الأمان.

نجد أيضاً لدى الإنسان المقهور ميلاً سحرياً لأنسنة الطبيعة، فهو تارة يصفها بالأم الحنون التي توهب كل شيء من الطعام والأنفاس والصحة، وتارة يصفها بالأب القاسي الذي يفرض قوانينه بكل قوة ولا يأبه لأحد طالما أنَّ في ذلك مصلحة الجميع؛ ومن ثَمَّ الإنسان المقهور يعيش حالة تقبُّل الألم والعجز كأنَّه عقاب هو يستحقه لذنب ما قد اقترفه سابقاً.

إقرأ أيضاً: ما هو نمط الحياة الخامل؟ وما هي طريقة التخلص منه؟

هذه العلاقة الممثلة بعلاقة العنف والقسوة والتسلط بين الإنسان المقهور وبين الطبيعة، يمكن إسقاطها على علاقة أخرى هي علاقة الإنسان الضعيف والإنسان القوي، الذي يملك أدوات الطبيعة القاسية، والذي يمثل أيضاً القوة التي لا يمكن مواجهتها، وهنا تنشأ العلاقة الاضطهادية بين الساكن الضعيف والمتسلط القوي، وهذه العلاقة غير المتوازنة وغير المتكافئة هي البذرة الأساسية لنشوء التخلف.

إنَّ الشعور بالقهر هو أخطر ما يمكن أن يولِّده التخلف، بسبب قدرته على تجديد نفسه كأنَّنا ندور في حلقة مفرغة؛ فالجميع سيكونون جاهزين لقهر غيرهم بمجرد تغيير أدوارهم، والجميع في نهاية المطاف يبحثون عن التوازن والاستقرار، ويبحثون عن حلول فردية، وهذه السمة أكثر سمة تميز المجتمعات المتخلفة. 

وإذا عدنا إلى مجتمعاتنا العربية التي عاشت أغلبها تحت حكم السلطات الديكتاتورية القمعية، نجد أنَّ هذا شكَّل بيئة خصبة لانتشار التخلف، وترسيخ علاقة الضعيف مع القوي التي لن ينتج عنها بطبيعة الحال، إلا إنساناً مقهوراً وعاجزاً ومتخلفاً.

الخصائص النفسية للتخلف:

تتلخص الخصائص النفسية للتخلف من خلال العلاقة بين الساكن الضعيف والمتسلط القوي، وتمر بثلاث مراحل سنتحدث بالتفصيل عنها، وبالطبع، فإنَّ ملاحظة آثار هذه الخصائص ليست صعبة؛ بل يمكن ببساطة مشاهدة تأثيراتها بوضوح من خلال العلاقات والسلوكات المنتشرة داخل مجتمع من المجتمعات.

شاهد بالفديو: 20 أمراً يندم عليها المرء في حياته

المرحلة الأولى: الرضوخ

أبرز الخصائص النفسية في مرحلة الرضوخ ما يحدث من تبخيس للنفس وازدراء لها، ويظهر هذا من خلال العقد الآتية:

1. عقدة النقص:

التي يغرسها المُتسلِّط في نفسية الإنسان المقهور أو الجماهير المقهورة، فتظهر هذه المشاعر التي يفرضها المتسلط على شكل دونية وإثم وشعور بالعار، وبهذا فإنَّ إنسان العالم المقهور يزدري نفسه، ويتمنى لو يستطيع الهرب من مواجهتها؛ لأنَّه يخجل منها، كما ينقم عليها في الوقت نفسه، فتراه يصف نفسه بأشد الصفات السلبية والدونية، ويميل إلى إنزال العقاب بنفسه، ويرى في القسوة والظلم المُسلَّط عليه من قبل القوي الحاكم له، كما قوة الطبيعة أمراً غيبياً لا يستطيع رده، حتى يصل في نهاية الأمر إلى أنَّه يستحق العقاب لذنب ما لا يعرفه، ولا يستطيع تحديده.

هنا يتحول إنسان العالم المقهور المتخلف إلى الحليف الأول للمتسلط في الحرب على نفسه، ولقهر وجوده أكثر، وفي هذه الحالات تكثر الميول الانتحارية؛ الحقيقية أو الرمزية، على أنَّ الميول للانتحار الرمزية أكثر بكثير مثل التعرض للحوادث أو الإصابة بالأمراض.

عقدة النقص التي تميز الإنسان المقهور والمتخلف عن غيره تجعله عاجزاً عن المواجهة، فمن خلال قناعته بعجزه وخوفه من الطبيعة والقوة المتسلطة عليه، وأيضاً عجزه عن تحقيق أمانه، يؤكد لنفسه عدم قدرته على المواجهة والشجاعة لأيِّ طارئ أو تدخُّل أو تهديد، يعتقد دائماً أنَّ قوته ضعيفة أمام الظاهرة التي يتعامل معها؛ ومن ثَمَّ سرعان ما يتخلى عن المواجهة، فيفقد موقفه العام من الحياة، ويتحول إلى منتظر لا مبالٍ وغير مكترث، بدلاً من العمل على إحداث التغيير الذي يحتاج إليه في نفسه وفي المجتمع.

2. عقدة العار:

ترى الإنسان المقهور المتخلف خَجٍلاً من ذاته، فهو يشعر بأنَّ وضع العار الذي يعيشه لا يُحتمل، فيسعى هارباً منه بالخوف من افتضاح أمره؛ لذلك يسعى دائماً إلى السترة؛ فالسترة هي إحدى هواجسه الضرورية والأكثر أهمية، فهو يخاف من الخارج، ومن صورته أمام الخارج حتى يصبح هذا الشعور جزءاً من الموروث الشعبي لثقافة مجتمع من المجتمعات، فمن منا لم يستخدم المثل القائل: "أمشي الحيط الحيط وبقول يا رب السترة".

اضطراب الديمومة؛ فالقهر الذي يعانيه الإنسان المتخلف والعجز وانعدام الضمانات المستمرة ماضياً وحاضراً تصبغ المستقبل بالتشاؤم، فيفقد الإنسان الثقة بإمكانية الخلاص؛ فاليأس من الخلاص هو ما يميز الإنسان المقهور؛ ولذلك فإنَّ قلق الحاضر ومصاعبه يأخذ شكل المشكلة المتأزمة دائماً في حياته، وإزاء هذه المشكلة لا يجد الإنسان المقهور إلا الهروب إلى الماضي الخرافي أو الواقعي، فتحمل أمجاده بعض العزاء له، كما يمارس بعض السلوكات الضارة التي تتيح له الهرب قليلاً من الخوف من المستقبل والاستمرار في الشقاء مثل الكحول والمخدرات.

المرحلة الثانية: الاضطهاد

يُشكِّل الموقف الاضطهادي مرحلة وسطى بين القهر والرضوخ، وبين حالة التمرد والثورة، كما يتداخل في الحالتين السابقتين كلتيهما، وتتوقف شدة هذه الرحلة بحسب طبيعة المجتمع، إضافةً إلى خصائص التركيبة النفسية للشخص نفسه.

مع بروز الحالة الاضطهادية للإنسان تكون الحالة النفسية للإنسان المقهور قد بلغت درجة عالية من التوتر الوجودي والقلق، قد يدخل فيها الفرد حالة من الغليان الداخلي التي توصله إلى العدوانية، التي كانت فيما سبق مقموعة ومكبلة بعوامل كثيرة مثل الخوف وعدم المواجهة، ويخرج رد الفعل العدواني إلى الخارج بعد أن كان مرتداً إلى الداخل، وكل ذلك يحدث لأنَّ الإنسان لا يستطيع تحمل التبخيس الذاتي والقهر لفترة طويلة؛ لذلك لا بدَّ من الخروج منه بطريقة عنيفة.

إنَّ لبَّ الشعور الاضطهادي هو التفتيش عن مُخطِئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخلياً؛ فالإنسان الاضطهادي يصاب بذعر لا يمكن احتماله نتيجة شعوره بالذنب، وهذا ما يوصلنا إلى أنَّ الإنسان الذي يشعر بالاضطهاد لا يستطيع أن يكتفي بإدانة ذاته فقط؛ بل إنَّه بحاجة إلى إدانة الآخرين ووضع اللوم عليهم.

بعبارة أخرى الإنسان المقهور المضطهد يملك وسيلة يعدُّها نافعة، وتؤمِّن له الهرب قليلاً من بشاعة الشعور السلبي لديه، وهي إلقاء عقدة الذنب على غيره من المستضعفين، فهو لا يستطيع تحمل الذنب وحده؛ لذلك يتحول عدوانياً إلى الآخرين.

شاهد بالفديو: 9 استراتيجيات فعّالة لتحفيز ذاتك عندما تفتقد إلى الحماس

المرحلة الثالثة: التمرد

العنف المسلح يصبح هو السبيل الوحيد ليتخلص الشعب المقهور من عقدة الذنب والنقص والجبن، التي غرسها المُتسلِّط القوي في نفسه، فمن خلال هذا العنف يحقق الشعب ذاته، وينقي نفسه من الكسل والجبن والاتكالية، ويصل الشعب من خلال مراحل تطور القهر داخله إلى هذه المرحلة بعد فترة طويلة من تعرضِّه للاضطهاد، وهنا يتوجه العنف ضد القوة المسؤولة عن القهر، كالمستعمر مثلاً في حالات الاحتلال.

تحدث هذه المرحلة بعد أن يدرك الشعب أو الإنسان المقهور أنَّ السلمية والرضوخ لن تصلا به إلى تحقيق ذاته، أو التطور للخروج من عقدة العجز والنقص والاضطهاد؛ وبذلك تترسخ ضرورة العنف التي صارت بنظرهم الوسيلة الوحيدة التي يجب للناس أن يستخدموها كي لا يتحولوا إلى ضحية دائمة، ولا سيما أنَّ المواجهة تُشعر الفرد والمجتمع والشعب المقهور بالقوة التي تصبح رمزاً للحياة ووسيلة التغلب على القوة المُتسلِّطة.

من خلال السلاح يحدث انقلاب جذريٌ في الأدوار؛ إذ يتحول الضعف إلى قوة، ويتخذ السلاح دلالة مبالغ فيها تكاد تكون سحرية وغير واقعية، فهو الردع والحماية وهو رمز الوجود الجديد، ومن هنا تبدأ مباهاة الإنسان باستعراض سلاحه وكيانه الجديد الذي قضى نهائياً على الرضوخ، وعلى أرض الواقع دفعت أغلب الشعوب المتطورة ثمن هذا التطور والحضارة دماءً كثيرة، مثل فرنسا؛ فالثورة الفرنسية التي قامت ضد الظلم والطغيان هي من مهدت الطريق للقضاء على التخلف، وبدء مرحلة جديدة في حياة الشعب الفرنسي.

تتعقد الأمور عندما يبدأ الناس الاعتقاد بأنَّ حمل السلاح هو سحر خالص وبه تُحلُّ كل المشكلات، وبهذا تنحسر قيمة العمل الصامت طويل النفس لحساب القتال؛ لأنَّ الحاجة إلى التحرر واستعادة الاعتبار الذاتي ملحة ومزمنة لدى الشعب المقهور الذي لا يستطيع الانتظار فهو يريد نتائج عاجلة.

لكن توجد ظواهر سلبية كثيرة تنتج عن هذا التمرد وهذه المواجهة، فعندما ينتفض الشعب المقهور، ويحمل السلاح بما يعنيه من معاني الخلاص السحري وقهر الموت والانتصار، تتغير الصفات، فبدل عقدة النقص تبرز عقدة التفوق والاستعلاء، وبدل عقد الاستسلام تبرز عقدة الجبروت، كما يشعر الفرد بازدراء القيم السابقة، ويشعر بأنَّ كل شيء متاح له.

إقرأ أيضاً: التطور والنهضة العمرانية وتأثيرها على المجتمع

في الختام:

يبدو واضحاً أنَّ التخلف ظاهرة كلية، وعلاجها يجب أن يكون شمولياً، ولا بدَّ للعلاج حتى يكون ناجحاً أن ينطلق من بنية الإنسان النفسية والتركيبة الداخلية له؛ فكل المحاولات التي تقوم بها الدول من دعم اقتصادي وتعليم تقليدي وغيرها للأسف دون جدوى؛ لذا فالتركيز يجب أن يكون على النفوس ومحاولة بناء إنسان واعٍ ومُقدِّر لذاته ومحترم لنفسه أولاً، ثم يبدأ الحديث عن الاقتصاد والتعليم وغيره.

الاستمرار في خنق الشعوب ومحاربتها بلقمتها سيؤدي إلى المزيد والمزيد من التخلف والمزيد والمزيد من العقد النفسية التي تجعل الإنسان مُحبَطاً وعاجزاً عن التفكير إلا في كيفية تأمين مستلزماته الأساسية، وبصرف النظر عن القهر الذي تحسه الشعوب في البلدان المتخلفة لن يوصل إلا إلى مرحلة التمرد، وهنا الكارثة لأنَّ التمرد سيكون من قبل أشخاص غير مؤهلين، ومليئين بمشاعر الغضب والسخط على السلطات، وهذا ما يفاقم المشكلة ويزيد الأوضاع سوءاً.




مقالات مرتبطة