الحب غير المشروط: مفهومه وأهميته، ولمن نمنحه؟

تبدأ القصة من الطفولة إلى حيث تعود جذور كل شيء، من اللحظة التي تقول فيها الأم لطفلها: "لماذا لم ترتب ألعابك؟ ماما حزينة ولن تحبك إذا لم تُعِد كل شيء إلى مكانه"، وبالنسبة إلى الطفل أي شيء أهون بالنسبة إليه من أن يفقد حب أمه، فيهرع المسكين مسرعاً إلى غرفته يلملم شتات الوقت الممتع الذي قضاه في اللعب فماما لن تحب طفلاً لا يرتب ألعابه.



ثم تقول الأم في موقف آخر: "ماما تحبك لأنَّك حافظت على ملابسك نظيفة؛ ولأنَّك تفوقت في امتحانك وحصلت الدرجة الكاملة" وهنا يدرك الطفل أنَّ أيَّة بقعة شوكولا على ملابسه وأي نقص لجزء من الدرجة في علامة امتحانه يعني خسارة الحب الذي تمنحه ماما، ويشعر إذا ما تكرر نقصان الدرجات واتِّساخ الملابس بأنَّه لا يستحق حب أمه.

يكبر هذا الطفل ويصبح رجلاً يقول لزوجته أو خطيبته: "لا تتحدثي إلى زميلك في العمل"، "سنتزوج بشرط أن تتركي الجامعة"، وهذا الرجل قد يُلام للوهلة الأولى لكن بعد إلقاء نظرة على ماضيه نكتشف أنَّ مفهوم الحب في نظره مشوَّه؛ وذلك لأنَّه مرتبط بشروط ترضي الطرف الذي يمنحه إياه، وفي حال لم ينفِّذ الطرف الآخر هذه الشروط فهذا يعني أنَّه لا يحبه؛ وذلك لأنَّ الحب بالنسبة إليه مقترن بالطاعة.

وما أكثر الأمثلة التي تشهد في حياتنا على انتشار هذا النوع من الحب، لكن هل جربنا مرَّة منح الحب دون أيَّة شروط؟ هذا النوع من الحب الذي يدعوه المتخصصون "الحب غير المشروط" والذي يُعَدُّ من أهم خطوات التعبير عن مشاعر الحب والاحترام، دعونا نغوص في مفهومه وأهميته ونعرف لمن نمنحه في هذا المقال.

مفهوم الحب غير المشروط:

إنَّ مفهوم الحب غير المشروط مستوحى من حب الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته كلها وللبشر جميعاً على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعمالهم وحتى المذنبين منهم، فهو جل جلاله يفتح باب رحمته والتوبة إليه أمام جميع العاصين بمجرد التماس صدقهم.

تشجع الأديان جميعها على نشر المحبة بين البشر، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم جعل المحبة شرطاً من شروط الإيمان حين قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهو تصريح بأنَّ هذا الحب غير مشروط، فحب الإنسان لنفسه هو شيء فطري، وهو يقدِّم لها الأفضل والخير مهما أخطأت أو أساءت ويفعل كل شيء من أجل مصلحتها.

والنبي الأكرم يدعونا إلى أن نحب الآخرين كما نحب أنفسنا، فنغفر لهم أخطاءهم ونسعى إلى أن نقدم لهم كل ما نتمنى أن نحصل عليه، ورفعَ من منزلة الآخرين بوصفهم بالأخوة من أجل رفع استحقاقهم بالحب الذي يمنحه الإنسان لهم.

والقرآن الكريم يحتوي أيضاً على إشارات للحب غير المشروط وتحديداً في العلاقة بين الأزواج؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم، الآية 21]، والمودة تعني الحب، أمَّا الرحمة فتعني الغفران والمسامحة على الزلات، فيكون هذا الحب رحيماً متسامحاً وغير مشروط بكون الطرف الآخر مثالياً وبعيداً عن الأخطاء والعيوب التي تُعَدُّ جزءاً من التركيبة البشرية.

يستند مفهوم الحب غير المشروط إلى أساسيات في علم النفس البشرية، فالمحبة غير المشروطة تنطوي على وصول الفرد إلى حالة عقلية لزيادة رفاهية الآخر، ومصطلح الحب غير المشروط منتشر على نطاق واسع في كتيبات الإرشاد الأسري وإرشادات الزواج، وهو يعني تحرير شعور الحب من جميع القيود التي قد تعوقه عن الانتشار.

شاهد بالفيديو: 10 طرق للتعبير عن الحب دون استعمال الكلمات

تقديم الحب غير المشروط:

لا بدَّ لنا من التأكيد على أنَّ تقديم الحب غير المشروط يعود بالسعادة على الشخص المانح له بالقدر المكافئ الذي حصل عليه الشخص المتلقي، فعلى سبيل المثال يشكو الكثيرون من الرجال من تغيُّر مشاعر زوجاتهم تجاههم بعد تردي أوضاعهم المادية أو في أثناء مرورهم بضوائق مالية، ففي أيام عزهم وعندما كانوا يستطيعون تقديم الأفضل لأُسرهم من طعام وشراب وملابس وهدايا كانت علاقة الحب في أوجها، أمَّا عند التقصير في تقديم هذه الأشياء فتتصاعد الخلافات والمشكلات، وهذا إن دلَّ على شيء، دلَّ على حب الزوجة المشروط لزوجها؛ فهي تربط حبها له بقدرته على تأمين مستلزمات الحياة لها ولأبنائها، وعند تقصيره في هذا الجانب تفتر مشاعرها تجاهه، ويحدث ذلك دون وعي منها، أمَّا في حالة الحب غير المشروط، فهي تلتزم معه بالصبر وتقدِّم له الدعم والمساندة وتحاول أن تكون الكتف الذي يتكِئ عليه كلما أتعبته الأيام.

من جهة أخرى، تكثر الخلافات بين الأزواج في حالة مرض الزوجة مثلاً، ويلجأ بعض الرجال إلى الزواج بأخريات بمجرد أن تعجز الزوجة عن تلبية متطلبات الرجل الجسدية والنفسية، ونحن هنا لسنا نناقش في مشروعية هذا الأمر وأحقية الرجل، ولكنَّنا نحاول التنويه إلى أنَّ حب الرجل لزوجته حب مشروط في مثل هذه الحالات، فهو يربط حبه لها بأهليتها الجسدية والنفسية.

في حال كان الرجل يحب زوجته حباً غير مشروط، فهو يقف إلى جانبها ويقدم لها الدعم النفسي والمعنوي الذي تحتاج إليه لتتعافى من مرضها، وكثُر هم الرجال الذين اتبعوا مع زوجاتهم الحميات التي تفرضها إصاباتهم المرضية؛ كاتِّباع حمية داء السكري والامتناع عن تناول الحلوى دعماً لهن، فضلاً عن آخرين حلقوا شعرهم تضامناً مع إصابة شخص عزيز عليهم بمرض السرطان الذي يسبب علاجه تساقط الشعر للمرضى.

قد يبدو الحب غير المشروط شيئاً مثالياً، ولكنَّه في حقيقة الأمر شيء موجود، ويحتاج إلى الكثير من الوعي والتنور الروحي لبلوغه، فالسيد المسيح نادى به عندما قال: "إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن، فدِر له خدك الأيسر"، وهي دلالة على التسامح والغفران وتبرير الإساءة للطرف الآخر، وهذه الأفعال لا يمكن أن تصدر إلَّا بدافع الحب غير المشروط الذي ينطوي على محبة عظيمة لله تعالى وجميع مخلوقاته.

إقرأ أيضاً: أجمل 30 مقولة وحكمة عن الحب

أهمية الحب غير المشروط:

  1. إنَّ أهمية الحب غير المشروط تكمن في أنَّه يكون الجذر الذي تتفرع عنه أغصان المحبة والمودة الأسريَّة والعاطفية؛ فهو يساهم في خلق جو من المودة والسلام والتقدير، ولعلَّ حب الأم لأطفالها هو المثال الأكثر انتشاراً عن الحب غير المشروط، وهو مثال حقيقي وواقعي، لكن في بعض الحالات يكون كلامها لا يعبِّر عن ذلك، وإنَّ الأطفال بطبعهم يتأثرون بالكلام الذي يُقال لهم، ويبنون على أساسه آراءهم الشخصية ومعتقداتهم الذاتية.
  2. في مثال طرحناه آنفاً عن تعبير الأم لابنها عن مشاعر الحب في حال حصل على تفوق دراسي، فإنَّها بذلك تربط وبشكل غير واع شعور استحقاقه للحب بالتميُّز والتفوق الدراسي، ومن ثم في حال فشل دراسياً، فسيجد نفسه لا يستحق الحب.
  3. يعزز من هذا الشعور قيام الأم بالتمييز بين الأبناء، فتمنح الهدايا والعطايا والمعاملة المميزة لأبنائها المتفوقين؛ مما يخلق لدى الأقل تحصيلاً نوعاً من الشعور بالغيرة والدونيَّة وانعدام تقدير الذات، ونحن هنا لا نشكِّك في محبة الأم لأبنائها غير المتعلمين؛ بل نركز في ضرورة التعبير عن حبها لهم في جميع الحالات، وحتى لو أخطؤوا أو قصروا.
  4. هنا تبرز أهمية الحب غير المشروط؛ فالطفل الذي تقدم له أمه الحب في جميع الحالات، سينشأ متوازناً ومقدراً لنفسه، ويشعر باستحقاق ذاتي عالٍ، فلا يدخل في علاقة سامة تستنزف طاقته ومشاعره، ويضطر إلى فعل أي شيء مقابل الحصول على الحب.
  5. من أهمية انتشار مفهوم الحب غير المشروط هي تعزيز التفاهم والتراحم بين الأزواج، فيتسابق كل منهما إلى تقديم الحب للآخر والتعاطف معه وغفران زلاته والأخذ بيده نحو الأفضل، وهذا ينعكس بالتأكيد على جو الأسرة إيجاباً؛ فالإنسان كائن عاطفي بطبعه، ومن ثم يتربى الأبناء في ظل عائلة يسودها الوئام والتراحم والإشباع بالحب والتعبير عنه، فإذا ما استطعنا استنبات هذا الشعور بالدفء والتقبُّل والحب غير المشروط في الأسرة التي تُعَدُّ اللبنة الأساسية في المجتمع، فأي مجتمع متوادٍّ متآخٍ ومتراحمٍ سنحصل عليه؟
  6. من أهمية الحب غير المشروط أنَّه يساعد على تقبُّل الآخر واستيعاب اختلافه الشكلي أو العرقي أو الديني؛ مما يكون سبباً في خلق مجتمعات يسودها الوئام، ولا يحصل فيها أي نوع من أنواع التمييز، ولو كان الحب غير المشروط منتشراً في أميركا، لما تعرَّض الزنوج للاضطهاد والمعاملة السيئة، ولا عانى المسلمون من النبذ والتنكيل في بورما.

شاهد بالفيديو: كيف تكون محبوباً بين الناس وتجذبهم إليك

لمَن نمنح الحب غير المشروط؟

قد يظن بعضنا أنَّ الحب غير المشروط ينطوي على الذوبان في الآخر، والتقليل من قيمة النفس أمام الآخرين وتفضيل الآخر عليها، وهذا أمر خاطئ جداً؛ إذ إنَّ أَولى الناس بالحصول على الحب غير المشروط هي نفسنا، ذاتنا الإنسانية التي قد تُخطِئ أو تصيب كجزء من فطرتها، وهذا الأمر لا يُنقص منها شيئاً، فلنتقبلها ولنتقبل ضعفنا وإنسانيتنا وتقلبنا وحقنا في الخطأ، ولنحب أنفسنا حباً غير مشروط بالإنجاز أو التفوق أو الكمال الشكلي أو أيَّة اعتبارات أخرى.

كما يستحق أبناؤنا أن نمنحهم الحب غير المشروط، فلا نربط إظهار الحب لهم بنظافة ثيابهم أو ترتيب ألعابهم أو دراستهم الفرع الذي نرغب فيه، أو طاعتهم لنا بوجوب الزواج من شخص محدد أو العمل في مجال محدد؛ فالحب غير المشروط يسمح لنا بتقبُّل اختلافهم عنا، وانعدام كونهم نسخاً عن أحلامنا.

يستحق الشريك أن نمنحه الحب غير المشروط، فهو الرفيق لنا في رحلة الحياة بحلوها ومرها، فلا يجب أن نضع الشروط لتقديم حبنا له، وإنَّ أي فرد في الحياة يستحق أن نحبه حباً غير مشروط مهما اختلف عنا أو شابهنا؛ فهو أخ لنا في الإنسانية؛ إذ لا يجب أن نحصر الحب بالأفراد الذين ينتمون إلى ديننا أو عرقنا فالمحبة دين الجميع.

إقرأ أيضاً: كيف نحيي الحب من جديد؟

في الختام:

إنَّ الحب غير المشروط هو رسالة نادت بها الأديان والرسائل السماوية جميعاً، وهو القيمة التي يجب أن تُغرَس في قلب كل إنسان من أجل أن يرفع استحقاقه بذاته ويقدر قيمته، وينسجم مع المكان والزمان والآخرين، ويتحول إلى مرآة تعكس حبه لذاته على شكل إغداق للحب على الآخرين، فلا يبقى للضغائن والحروب مكان في المجتمعات الإنسانية، ويسود الوئام والسلام كل رحاب الأرض.




مقالات مرتبطة