التنويم المغناطيسي: بداياته وحقيقته بين العلم والخرافة

ثمّة مريض متمدّد ما أمكن له أن يتمدد... وجو هادئ... وصوت خفيض، رتيب، نافذ، متعب، وهو صوت المنوّم يردّد: (ستنام.. لديك رغبة كبيرة جداً في النوم... انظر في عيني...) وفي الوقت ذاته، يحدّق المريض في شيء لامع موضوع فوق عينيه على بعد ما يقارب العشرين سنتمتراً إلى الأمام. ويردد الصوت الخفيض دائماً: (ستنام لديك رغبة في النوم).



يغلق المريض أجفانه. إنه لا يرغب في شيء، لا أن يفتح أجفانه الثقيلة، ولا في أن يحرّر دماغه الذي أصبح مخدّراً ودون قوّة.. كذلك فإنّ مُقلتيه مضغوطتان، فيما أنّ تنفّسه عميق، وذو إيقاعٍ بطيء.. والصوت الذي يُقدّم العون دائماً، الصوت الحار، الصوت النّافذ، يضاف إلى تأثير المنوّم، ويبدأ (الإيحاء) بالتنويم المغناطيسي.

والتنويم المغناطيسي هو: وصول الجسم والعقل إلى مرحلة من مراحل الاسترخاء، والتي تجعل الشخص الذي يدخل تحت تأثير التنويم المغناطيسي أكثر مسالمة وتلبية للأوامر التي تعطى له من قبل المعالج، والمنوِّم المغناطيسي هو الشخص الذي يقوم بعملية التنويم، وهنالك أدلة علمية تشير إلى فائدة التنويم المغناطيسي إذا تم على أيدي محترفين أكفاء. كأن يستخدم بعضهم التنويم المغنطيسي لمعالجة المرضى الذين يعانون مشاكل عضوية أو نفسية.

بدايات التنويم المغناطيسي:

أول من اهتدى إلى التنويم المغناطيسي هو العالم (مسمر) وكانت تسمى طريقته بالمسمرزم نسبة إليه. واشتهر أمره في القرن الثامن عشر وهو طبيب ألماني، كان صاحب نظرية المغناطيسية الألمانية ولد عام 1734م في رادولفزل وتوفي عام 1814م. كان مسمر يتصف في ذلك العصر بأنه علمي على وجه الدقة، إذ لم يكن يقبل شيئاً لا يمكن البرهان عليه فيزيائياً. ولكن مسمر كان يعتقد بوجود قوى مجهولة غامضة.

وكما يحدث في أغلب الأحيان فإن اللجنة المكلفة بدراسة المسمرية لم تهتم قط في أن تعرف في إذا ما كان مسمر يشفي الأمراض أم لا، وإنما اهتمت باكتشاف فيما إذا كانت نظرياته صحيحة، وهي نظرية (المغناطيسية الحيوانية)، ولكن لما كانت برهنة هذه النظرية ممتنعة، فإن ما حققه مسمر من شفاء لمرضاه دخل في حساب الخيال، وانطوى أمره بمهارة، ولكن طريقته استمرت حتى بعد وفاته.

استمر عدد من الباحثين في أبحاثهم عن التنويم المغناطيسي، وعلى الرغم من النجاحات الإجرائية في ظل التنويم المغناطيسي، فإن النكسة التي أصابت المسمرية في القرن التاسع عشر كانت من الشدة بقدر ما لاقته من نجاح، وكانت أخر موجة للمسمرية في إنكلترا.

أمّا في أيامنا هذه، فإن إنكلترا هي التي تبنت التنويم المغناطيسي عام 1955م، وطلبت بلسان (الجمعية الطبية البريطانية) تطبيقه في المستشفيات وتدريسه كباقي الفروع الأخرى. وقد سبقها في ذلك الاتحاد السوفيتي وبلدان كثيرة أخرى تتكلم الإنكليزية.

وفي عام 1838م، تحققت في ظل التنويم المغناطيسي عمليات هائلة في بتر الأطراف دون ألم، وقد نجح الدكتور ايسداي، طبيب إنكليزي في الهند خلال القرن التاسع عشر في أكثر من ثلاثمائة عملية كبرى في كنف التنويم المغناطيسي ودون أي ألم. ولكن إنجازه قوبل بالاحتقار، وأغلق مشفاه.

واكتشف "دولوز" بعد "مسمر" الإيحاء اللاحق بالتنويم المغناطيسي. فقد لاحظ أن أحد الأشخاص يُنَفّذُ في حالة اليقظة ما أعطي له من أوامر أثناء النوم.

كيف يحدث النوم المغناطيسي الإيحائي؟

النوم المغناطيسي نوم غير تام يحدث بفعل الإيحاء المغناطيسي، وقابلية الإيحاء هي استعداد نفسي يسمح بإطاعة الأوامر الصادرة طاعة تتصف أنها بمنتهى السهولة ولا تخضع للمناقشة. يتوجه الإيحاء إلى اللاشعور، إضافة لذلك فإن الإيحاء يطابق على الغالب فكرة موجودة في أعماق الفرد.

إن المصطلح الإنجليزي للتنويم المغناطيسي هو ما يعرف بالتنويم إيحائي، أوجده طبيب وجراح سكوتلاندي اسمه جيمس برايد عام 1841م وبدأ بتطوير فكرة التنويم الذاتي بعد سنتين من التنويم المغناطيسي، ثم علَّمها لعملائه قبل تطبيقها على نفسه. كما أقام تجارب عليها مع بعض أصدقائه في الأول من مايو 1843م ويُعتقد أنها أوّل تجربة للتنويم المغناطيسي الذاتي، وقد تكللت بالنجاح.

إقرأ أيضاً: 7 خطوات تعلمك كيف تتم عملية التنويم الإيحائي

أنواع التنويم المغناطيسي (التنويم الإيحائي):

1- التنويم المغناطيسي (الإيحائي) التقليدي:

يتم عن طريق شخص اختصاصي ومتدرب على التنويم ويُدعى المنوّم (المعالج)، والركن الاساسي هو الشخص الذي سيخضع للتنويم يدعى الوسيط (المريض)، وذلك من خلال إخضاع المريض للتنويم المغناطيسي وحث العقل الباطن على تخزين الحلول الجيدة.

2- التنويم المغناطيسي الذاتي (الإيحاء الضمني):

الفرق الأساسي بينه وبين التنويم المغناطيس التقليدي هو عدم وجود المنوّم (المعالج)، بحيث يقوم الشخص نفسه بدور المنوّم (المعالج) وذلك من خلال الخضوع لعدة تدريبات مع المعالج لتعلم كيفية القيام به بشكل صحيح، وهذا التنويم عادة ما يكون تابع لجلسات التنويم المغناطيسي الإيحائي لتحقيق الهدف المرجو من العلاج بسرعة. وينبغي النظر إلى الإيحاء الذاتي بوصفه صورة من صور التأمل، لا صورة من صور التركيز. ففي التأمّل يعوم الفكر. إنه انفتاح سلبي وهادئ، ويتيح دخول أفكار وإحساسات بدون جهد.

ماذا يمكن أن يعالج الإيحاء؟

وهنا نتحدث عن الإيحاء العميق، والذي يستلزم تقنية خاصة ولا يمكن للشخص وحده أن يستعملها دون تدريب، ففي الحالات الشائعة مثلاً: العجز الجنسي والبرود الجنسي لدى النساء وضروب الخوف والخوف المرضي والحصر والأرق وبعض الإضرابات الجلدية وعدد كبير من أمراض الهيستيريا.

وقدرة الإيحاء معروفة بصورة جيدة، وهو وسيلة ممتازة لتربية الإرادة والسلوك، ويعتبر وسيلة جيدة لنمو الشخصية وتعزيزها، ويمكن استخدام النوم الايحائي لعلاج العادات الغير صحية، واستبدالها بعادات أخرى صحية كالإقلاع عن التدخين وإنقاص الوزن الزائد وغيرها.

التنويم المغناطيسي تحت مجهر العلم:

ارتبط التنويم المغناطيسي بأذهان الكثيرين بحالة الشعوذة والتي طرفاها هم السيد الآمر (المنوِّم) والعبد المأمور (النائم)، وبالتالي في حالة نجاح التنويم لا يعصي النائم سيده الذي يقوم بعملية التنويم حتى لو كان ذلك ضد إرادته، كأن يطلب منه أن يقتل نفسه أو أن يقوم بجريمة ما، والسؤال المطروح هنا هل يمكن تنويم الشخص رغماً عن أرادته؟

كان عصر "جان مارتن شاركو" في القرن التاسع عشر يعتقد بإمكان ذلك. أما العصر الحديث فينفيه، علماً أن هذا النفي غير عام. ويَدّعي بابينسكي (وهو طبيب أمراض عصبية فرنسي وكان أحد الطلاب لجان مارتن شاركو مؤسس علم الأعصاب): "أن الفرد لا يفقد ذكرياته عندما يحدث التنويم المغناطيسي، وأن النوم التخديري ليس نوماً لا شعورياً على الإطلاق، وبالتالي فإن الفرد لا يفقد الرقابة الإرادية نهائياً، ولا يستجيب لأوامر المنوم كلها استجابة عمياء".

والحقيقة التي قد تكون غير منطقية لدى الكثيرين هي أن ظاهرة أو حالة التنويم المغناطيسي ظاهرة علمية حقيقية وثمة نجاحات مذهلة يمكن تحقيقها في علم النفس. وقد بدا منطقياً بالتالي التمكن من إنقاذ الأفراد من الأفكار الثابتة والمخاوف المرضية والوساوس.

ولا يبدو أن التنويم المغناطيسي قد أعطى النتائج الإيجابية في مجال الأمراض النفسية، فكثير من المصابين بالاغتراب العقلي يقاومون النوم المغناطيسي الذي يسبب لهم ردود فعل هذيانيه على الغالب.

وأخيراً فإن التنويم المغناطيسي هو فن من فنون العلاج على الرغم من خاصيته العجيبة والغير مألوفة لنا، والواقع هو أبسط وأقل غرابة بكثير مما نعتقد وهو لا يستند إلا إلى السير الوظائفي العصبي. لذلك علينا ألا نتجاهل الإنجازات الكبرى التي تمت في ظله، إذ أنه حل محل التخدير في القرن التاسع، فكل التحية والتقدير لرواده.




مقالات مرتبطة