التسامح: حاجة إنسانية وضرورة ثقافية

يُعَدُّ التسامح بين البشر جميعاً أحد أنواع التنوع الثقافي والديني الذي يدل على ثراء المجتمع ثقافياً وحضارياً، وهو أحد أشكال الحوار البنَّاء والمثمر بين المجتمعات وداخل المجتمع الواحد، لإرساء التعايش السلمي.



من خلال تعريف التسامح وضبط أطره من مراجعه الأصيلة، نستطيع الوقوف على مقوماته ومبادئه وشروطه؛ إذ إنَّ التسامح منهج من مناهج الوعي والثقافة، ووسيلة من وسائل التعايش السلمي، كما نشير إلى موقف الإسلام من التسامح بشقِّيه، داخلياً كان أم خارجياً، من حيث القبول أو العدم؛ فالإسلام كديانة عالمية، تمثل انفتاحاً وتسامحاً على (الآخر)، راغبةً في ضمه إليها، ومن ثم فالتسامح هو إحدى وسائله وركائزه الهامة في التواصل مع (الآخر).

أمَّا الإسلام، فإنَّ عالميته استوجبَت الانفتاح والتسامح بينه وبين الآخر، ودعت أتباعه إلى انتهاج نهج التسامح بين الجميع، وكونه دعوة عقلية تتفق مع عقلانية الدين، كان التسامح والحوار والتعايش من أهم المبادئ التي أرساها الإسلام، سواءً من خلال الوحي بمصدريه، القرآن والسنة، أم من خلال الحضارة الإسلامية على مر التاريخ، وما نماذج التسامح في الأندلس عنَّا ببعيد.

وما أشدنا في العصر الحديث إلى التسامح، فالبشرية جمعاء في أمسِّ الحاجة إلى هذه المفاهيم؛ نظراً إلى التعايش واسع النطاق بين الثقافات والديانات داخل محيط البلد الواحد؛ بل قد يصل الأمر داخل الأسرة الواحدة، ويُعَدُّ هو الطريق الأمثل للتقارب بين الشعوب نتيجة التداخل الكبير بين الثقافات، ووسائل الاتصال الحديثة؛ حيث التقارب اللامتناهي بين الجميع وذوبان الحدود والفوارق.

ويتجلى هنا دور وأهمية التسامح كحاجة إنسانية، وضرورة ثقافية، وفريضة إسلامية، للقضاء على كل أشكال التناقضات والاختلافات الدينية والقومية والعنصرية، مع احتفاظ كل شخص بحقه في ممارسة شعائره ودينه في حرية وبلا اضطهاد أو ازدراء من الآخر، ومن ثم إرساء مبدأ التعددية واحترام تنوع الأفكار، مع الاحترام الكامل للخصوصية الثقافية لكل فئة وديانة داخل المجتمع.

شاهد بالفيديو: 15 قول عن التسامح والغفران

مقومات التسامح في الإسلام:

يُنظَر إلى الموقف الإسلامي من التسامح كواحد من أكثر مواقف الأديان إيجابية وفاعلية؛ فهو موقف يتصف بالقبول الفوري للآخر؛ بل ومعايشته واحترام معتقده وآرائه وأفكاره، وحتى إنَّ الإسلام نهى عن السخرية منه وسبِّه؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ﴾ [الأنعام: 108]؛ حيث تتجلى عظمة هذه الآية، في التماس العذر للطرف الآخر حال قيامه بالرد على من سبَّه؛ وذلك حين ألحق بها الله عز وجل "فَيَسُبُّوا اللَّٰهَ عَدْواً بِغَيرِ عِلمٍ".

كذلك قال الله عز وجل لترسيخ هذا المفهوم: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].

وللتسامح في الإسلام منطلقات ومبادئ جعلت منه أساساً للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين على اختلاف أديانهم وثقافاتهم، وفيما يلي عرض سريع لهذه المبادئ والمقومات:

1. عالمية الإسلام ووحدة الدين:

تعني العالمية صلاحية الدين لكل العالم على اختلاف الأزمنة والأمكنة، وهذه العالمية تقضي بتوصيل الدين إلى كل البشر.

2. عالمية الإسلام ووحدة الإنسانية:

تمثل وحدة الإنسانية مقوماً أساسياً من مقومات التسامح الإسلامي؛ إذ إنَّ وحدة الإنسانية تُحتِّم التعايش والتسامح من أجل قبول الآخر، والعودة إلى وحدة الأصل، قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70]، وهنا جعل الله معياراً أصيلاً في تكريم الإنسان، وهو كونه إنساناً بغضِّ النظر عن دينه، وعرقه، ولونه، وعرقيته. قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [سورة التين: 4].

3. الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية:

يشير الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية إلى الاعتراف بالواقع التاريخي للإنسان قديماً وحديثاً، وقد أرسى القرآن تلك التعددية في العديد من الآيات، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه "الأنبياء إخوة لِعلَّات، دينهم واحد وأمهاتهم شَتَّى".

4. المساواة والاعتراف المشترك:

استناداً إلى مقومات وحدة الدين، ووحدة الإنسانية، والاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية، تتولد مجموعة مقومات أخرى هي ركيزة رئيسة من ركائز التسامح، والتي لا يمكن أن يتم دونها، فهذه الوحدة على مستوى الدين والأخوة الإنسانية والاعتراف بالتعددية تتطلب الالتزام بالتسامح في التعامل مع البشر.

وقـد أكدت آيات كثيرة على قيمة العدل والإنصاف في القول في مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152]، فضلاً عن اتباع قاعدة المشترك كأصل قرآني للحوار ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].

إقرأ أيضاً: حقوق الإنسان في الإسلام

أهمية التسامح بين الأديان في الإسلام:

  1. تحقيق التعارف الإنساني تنفيذاً للأمر الإلهي ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
  2. تطوير العلاقات الدينية والثقافية بين الشعوب من حيث المعايشة.
  3. تنمية العلاقات السلمية بين أهل الأديان والثقافات.
  4. التقريب بين الأديان من ناحية، وبين الأديان ومذاهبها المختلفة من ناحية أخرى.
  5. الكشف عن المشترك الإنساني على المستوى الديني والثقافي، ودعم سبل التعايش المشترك.
  6. الارتقاء بالحياة الروحية للإنسان من خلال التعرَّف إلى الخبرات والتجارب الدينية والروحية التي تحتوي عليها الأديان الأخرى.

درجات التسامح:

يتمتع المسلمون بأعلى درجات التسامح مع غيرهم، وخاصةً التسامح الديني والفكري، والذي له درجات ومراتب كما ذكر كثير من العلماء:

  • الدرجة الدنيا في التسامح: أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك.
  • الدرجة الوسطى في التسامح: أن تدع لمخالفك حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيِّق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته.
  • الدرجة العليا في التسامح: ألَّا نضيِّق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنَّه حرام في دينك أو مذهبك، وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة؛ إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح، والتزموا كل ما يعتقده غير المسلم أنَّه حلال في دينه، ووسَّعوا له في ذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم.

لقد كان بإمكانهم أن يُحرِّموا ذلك مراعاةً لشريعة الدولة ودينها ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل؛ ذلك لأنَّ الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضاً على أتباعه أن يفعلوه.

إقرأ أيضاً: المرأة في الإسلام: حقوقها، مكانتها، ودورها في المجتمع

أنواع التسامح:

هناك نوعان من التسامح؛ تسامح داخلي وهو تسامح بين أبناء الدين الواحد، وتسامح خارجي، وهو معرض حديثنا وهو التسامح العام بين الأديان وقبول الآخر.

يُعَدُّ التسامح الداخلي أصعب في بعض النواحي من الحوار الخارجي؛ ذلك لأنَّ الحوار الخارجي مع الآخر المختلف ديناً، وثقافةً، وحضارةً، يقوم على أساس من هذا الاختلاف المتعارف عليه، والمُقرِّ به من جميع الأطراف، للوصول إلى المشترك، وتحقيق الفهم والتفاهم.

ولذلك، فالتسامح الخارجي مبني على التعايش وبناء المشترك مع أصحاب الديانات الأخرى؛ حيث فرضت المقاربة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي أو الديانات الأخرى الحوار ليتم التعايش والتفاهم فيما بينهم.

ويهدف الإسلام بنشر ثقافة التسامح بين الأديان إلى جملة من الأمور، منها:

  1. تحقيق التعايش والتسامح بين أهل الأديان والثقافات الأخرى: حيث إنَّ المجتمع المسلم مليء بأقليات غير مسلمة، وكذلك المجتمع الغربي مليء بأقليات مسلمة؛ لذا لزم التعايش والتقارب والتفاهم بين كلا الطرفين لتحقيق المواطنة والتسامح المنوط به، ومن ثمَّ تحقيق الاستقرار والرغد لكل الأطراف.
  2. بناء المشترك الإنساني مع الآخر: وذلك لضمان التعايش الإنساني من خلال:
    • أسس المشترك:
      • أساس الأخوُّة الإنسانية.
      • أساس الجوار الإنساني.
      • أساس تكريم بني آدم.
      • أساس الاستخلاف في إعمار الأرض.
      • أساس التعارف الإنساني.
      • أساس التعاون الإنساني.
      • أساس المواطنة الإنسانية.
    • مجالات المشترك الإنساني:



مقالات مرتبطة