الترخيص الأخلاقي: لماذا قد تقودك التصرفات الإيجابية إلى أخرى سلبية؟

سرعان ما نلوم أنفسنا لافتقارنا الواضح إلى قوة الإرادة، إلا أنَّ السبب الذي يجعلنا نواجه صعوبة في ضبط النفس، لا يكون غالباً ضعفاً فطرياً في شخصيتنا؛ إنَّما عدم فهمنا لآلية عمل عقولنا، ونستطيع تجنب كثير من مشكلات قوة الإرادة ببساطة من خلال فهم بعض أنواع الخلل العقلي التي نتشاركها جميعاً؛ إحداها هي الترخيص الأخلاقي، وهو ظاهرة يساعدنا فهمها على التغلب على تحديات قوة الإرادة المختلفة بسهولة أكبر.



ما هو الترخيص الأخلاقي؟

الترخيص الأخلاقي هو خلل عقلي غريب؛ إذ إنَّ القيام بشيء يعزِّز صورتنا الإيجابية عن ذاتنا يجعلنا على ما يبدو غير آبهين بعواقب السلوك غير الأخلاقي؛ ومن ثَمَّ نعطي لأنفسنا "رخصة" اتخاذ خيارات غير أخلاقية، على سبيل المثال أظهرت إحدى الدراسات أنَّ الأشخاص الذين أعربوا عن إدانتهم للتصريحات المتحيزة جنسياً يميلون أكثر لاختيار رجل لشغل المناصب في مجالات العمل التي يهيمن عليها الذكور؛ لأنَّهم يشعرون بالثقة بشأن الصورة "غير المتحيزة ضد المرأة" التي كوَّنوها عن أنفسهم؛ لذا لا يولون اهتماماً للتحيزات المحتملة التي قد يظهرونها.

يحدث الأمر ذاته مع الأشخاص الذين يُعربون عن إدانتهم للتصريحات العنصرية، ثم يميلون إلى التمييز دون وعي ضد الأقليات العرقية؛ إذ يبدو أنَّ المواقف الإيجابية هي النقطة التي يبدأ منها الانحدار نحو المواقف السلبية.

لماذا يشكِّل الترخيص الأخلاقي تهديداً لقوة الإرادة؟

قد تتساءل عن علاقة الترخيص الأخلاقي بقوة الإرادة؛ لكنَّهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً؛ لأنَّ الخلل العقلي الخفي هذا غالباً ما يعرقل تقدمك نحو تحقيق أهدافك دون أن تدرك سبب ذلك، وهذا يجعلك تظن بأنَّك تفتقر إلى قوة الإرادة، فكم مرَّةً قلت لنفسك: "سأبدأ بتناول الطعام الصحي في يوم الغد"، لتتناول بعدها وجبة دسمة جداً؛ لأنَّك أقنعت نفسك بأنَّه لا بأس بالتلذذ بوليمة ما دمت ستبدأ في تناول الطعام الصحي اعتباراً من يوم غد، وجميعنا نعلم بأنَّ "الغد" هذا لا يأتي أبداً، فهذه مجرد واحدة من الطرائق العديدة التي يمكن للترخيص الأخلاقي من خلالها تدمير جهودنا للتغيير على الرَّغم من نوايانا الحسنة.

كيف يعرقل الترخيص الأخلاقي تقدمنا؟

قد يصعب فهم الترخيص الأخلاقي أحياناً؛ فهو في الأساس استخدام أمر "خيِّر" لتبرير فعلٍ "سيئ"، دون إدراك ذلك غالباً، وإليك فيما يأتي بعض الطرائق الشائعة التي يظهر من خلالها الترخيص الأخلاقي في حياتنا اليومية.

يمكن لأي فعل أو فكرة نعدُّها "خيِّرة" أن تمنحنا الرخصة للقيام بشيء "سيئ" لاحقاً؛ وذلك لأنَّنا نشعر بأنَّنا نستحق مكافأة لكوننا صالحين، على سبيل المثال وجدت إحدى الدراسات أنَّ مجرد التفكير في التبرع لجمعية خيرية زاد من رغبة المشاركين في التبذير.

لا تكمن المشكلة هنا في مكافأة نفسك؛ بل في حقيقة أنَّ المكافآت تلك غالباً ما تكون أموراً تعوق تقدمنا ​​نحو أهدافنا، أو حتى تعوقنا نحن؛ فإذا كافأت نفسك بعد ممارسة التمرينات الرياضية بوجبات لذيذة، فسيزيد وزنك نتيجة لذلك.

تُعرقل مكافأة نفسك بالوجبات السريعة والأشياء باهظة الثمن وغيرها، جهودك لتحقيق أهدافك؛ فلا تهم كمية الوجبات السريعة التي تأكلها إذا لم تكن لديك نية لتناول الطعام الصحي أو فقدان الوزن، لكن إذا أردت التخلص من الوزن الزائد؛ فمكافأة نفسك بالوجبات السريعة لن يعود عليك بأي نفع.

الحل هو التوقف عن رؤية كل تحدٍّ لقوة الإرادة بصفته اختباراً لشخصيتك؛ إذ نواجه أحياناً معضلات أخلاقية حقيقية؛ لكنَّها قليلة ونادرة، فلا علاقة لمعظم معاناتنا مع قوة الإرادة بالرذيلة والفضيلة؛ لأنَّ تناول وجبة سريعة أو تصفح الإنترنت لا يُعدُّ انهياراً أخلاقياً؛ لذا من الأفضل التوقف عن تصنيف كل شيء على أنَّه "جيد" أو "سيئ"، والتركيز على ما إذا قربتك أفعالك من تحقيق أهدافك أم لا؛ لأنَّ بهذه الطريقة يسهل تجنب الوقوع في فخ عرقلة جهودك من خلال مكافأة نفسك.

شاهد بالفديو: 10 أسباب وراء شعورك بالندم

كيف يجعلنا التقدم نتسامح قليلاً مع التقاعس عن العمل؟

غالباً ما يجعلنا إحراز تقدم نحو أهدافنا أقل اندفاعاً للعمل على تحقيقها، على سبيل المثال وجدت الدراسات أنَّ الطلاب الراضين عن مقدار الوقت الذي يقضونه في الدراسة هم أكثر عرضة للتوقف عن الدراسة والخروج مع أصدقائهم؛ فأدمغتنا مجبولة على البحث عن طرائق تختصر لنا العمل، فهي طريقة للحفاظ على طاقتنا؛ ومن ثَمَّ عندما تفرحك فكرة أنَّك أحرزت تقدماً كبيراً نحو هدفك، يفرح عقلك أيضاً، ويأخذ الأمر بصفته علامة على أنَّ وقت العمل انتهى، وحان وقت الاسترخاء، وهذا يذكرك بجميع رغباتك التي أجَّلت ممارستها طوال وقت العمل للبقاء على المسار الصحيح، فيصعب عليك بذلك الالتزام.

أمثلة من الحياة الواقعية: 

الاحتفاء بفقدان الوزن عبر تناول وجبة سريعة، أو مكافأة نفسك على التقدم الذي أحرزته في عملك بتقليل ساعات العمل.

الحل هو التوقف عن التركيز على التقدم الذي أحرزته نحو هدفك، والبدء في التركيز على التزامك بتحقيقه؛ فعندما تختار بوعي أن ترى تقدمك بصفته دليلاً على التزامك، تمنع عقلك بذلك من الاعتقاد بأنَّ العمل انتهى، وحان الوقت للاحتفاء بإنجازك، وهذا يسهِّل عليك الاحتفاظ بدوافعك حتى النهاية، وتذكَّر دوماً أنَّ النتائج هي كل ما يهم في النهاية؛ لذا من الأفضل ألا ترضى بتقدمك قبل أن تحقق أهدافك.

إقرأ أيضاً: 7 أمثلة عن انحياز الإغفال تؤثر سلباً في حياتك

تأثير الهالة: كيف تعمينا الأشياء "الجيدة" عن رؤية الصورة الكبيرة للأمور؟

تأثير الهالة:

ظاهرة تحدث عندما يعطينا شيء انطباعاً في أذهاننا "يسطع"، فيغطي نوره على غيره، وهذا يجعلنا نظن بأنَّ هذا الأخير له صفات الأول، على سبيل المثال، أظهرت الدراسات أنَّ الأشخاص الذين يطلبون مشروباً غازياً خالياً من السعرات الحرارية في مطاعم الوجبات السريعة من المرجح أن يستهلكوا سعرات حرارية أكثر عامة من أولئك الذين يطلبون مشروباً غازياً عادياً؛ ذلك لأنَّه في أذهانهم، تطغى السعرات الحرارية القليلة للمشروب الغازي الخالي من السعرات الحرارية على بقية وجبتهم؛ لذا يمنحون أنفسهم الإذن بطلب وجبة برغر كبيرة، بدلاً من السَلطة.

إنَّ الهالة الأخاذة التي تلقيها أفعالنا "الخيِّرة" تجعلنا ننخدع بشأن التأثير الحقيقي لخياراتنا، وتأثير الهالة أمر غير منطقي إطلاقاً، لكن هذه هي الطريقة التي تعمل بها عقولنا، وغالباً ما نقع في الفخ هذا دون حتى أن ندرك ذلك.

أمثلة من الحياة الواقعية: 

نحن ننفق مزيداً من المال في أثناء التسوق باستخدام القسائم أكثر ممَّا كنا ننفقه دون تلك القسائم، والتي تشع بهالة من "التوفير"، أو استهلاك سعرات حرارية أكثر عند طلب السَلَطات مع غدائك أكثر ممَّا كنت ستستهلكه لو لم تطلب السلطات.

الحل هو اختيار أكثر مقياس واقعي واستخدامه لتقرر ما إذا كان متوافقاً مع أهدافك أم لا، على سبيل المثال إذا حاولت إنقاص وزنك، فتستطيع الانتباه إلى كمية السعرات الحرارية، وهذا يجنبك الوقوع في فخ الاعتماد على المشروب الغازي الخالي من السعرات الحرارية عند زيارة مطعم للوجبات السريعة.

لا يمكن أن نثق بعقولنا لتحاسبنا؛ لذا إذا أردت تجنب الأخطاء التي يسببها تأثير الهالة، فمن الأفضل اتخاذ قرارات بناءً على البيانات، وليس على حدسك.

إقرأ أيضاً: كيف ترى الصورة الكبيرة للأمور؟

كيف يبرر قرارنا بأنَّنا "سنحسن التصرف" غداً التصرفَ "بسلبية" اليوم؟

نتوقع نحن البشر دوماً أنَّنا سنتخذ قرارات مختلفة في المستقبل؛ فكم مرَّةً أخبرت نفسك أنَّك ستبدأ أو تتوقف عن القيام بشيء اعتباراً من يوم غد؟ إذ نبرر القيام بشيء "سلبي" اليوم لأنَّنا نظن بأنَّ أفعالنا "الإيجابية" غداً ستعوض ذلك، لكن لا بُدَّ أنَّك تعلم من تجربتك الشخصية، أنَّ "غداً" أو "يوم كذا" أو "الأسبوع المقبل" الذي يفترض أن يتغير فيه كل شيء لا يأتي أبداً؛ فالتفاؤل الوهمي هذا هو السبب الذي يجعل السنوات تمر أمامنا دون أن نحقق أي تقدم كبير نحو أهدافنا.

أمثلة من الحياة الواقعية: 

التسويف في اتباع نظام غذائي أو ممارسة الرياضة أو توفير المال؛ ذلك لأنَّك تظن بأنَّك ستفعل ذلك يوماً ما في المستقبل؛ ومن ثَمَّ لن يُحدث تأجيله اليوم فارقاً كبيراً.

تتمثل الاستراتيجية الفاعلة للتعامل مع ذلك في التركيز على تقليل عدد مرات ممارسة السلوك الذي تريد تغييره، بدلاً من التخلص من السلوك نفسه تماماً، على سبيل المثال وجدت الدراسات أنَّ الأشخاص الذين يركزون على تدخين عدد معين من السجائر كل يوم أكثر نجاحاً في الحد من التدخين من أولئك الذين يركزون على فكرة الإقلاع عنه تماماً.

تستطيع تطبيق هذا في حياتك؛ فمثلاً إذا أردت التوقف عن إضاعة الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، فتستطيع التركيز على قضاء ما لا يزيد عن ساعة واحدة في اليوم في استخدامها فقط، بدلاً من محاولة الابتعاد عنها كلياً، وهذا سيمنعك من تأجيل التوقف عن استخدامها باستمرار، بينما تقضي 4 ساعات يومياً عليها في انتظار قدوم ذلك اليوم السحري الذي لا يأتي أبداً.

حيلة مفيدة أخرى هي استبدال سؤال: "هل أريد الامتناع عن فعل هذا اليوم؟" (على سبيل المثال: عدم الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية) بسؤال: "هل أريد تحمُّل عواقب عدم القيام بهذا كل يوم؟"؛ أي أن يظل شكلك على حاله؛ فذلك يغير وجهة نظرك، ويساعدك على الاستمرار في التركيز على أهدافك طويلة الأمد.

لاحظ أنَّ المشكلة الأساسية التي تؤدي إلى الترخيص الأخلاقي هي تقييم الأمور من ناحية الخير والشر، بدلاً من التساؤل عما إذا كانت تساعدنا على الاقتراب من أهدافنا أو تعوقنا، نود أن نظن بأنَّ الحس الأخلاقي يحفِّزنا إلى درجة كبيرة؛ لكنَّ الأمر ليس كذلك؛ بل يريد معظمنا ببساطة أن يشعر بالرضى الكافي عن نفسه، بدلاً من تحقيق الأفضل، وما إن نصل إلى ذلك الشعور حتى ننسى أمر الحس الأخلاقي.

ما يُحفِّزنا حقاً هو الحصول على ما نريد وتجنُّب ما لا نريده، لهذا السبب من المرجح أن نرفض تناول البيتزا عندما نفكر بأنَّه سيؤثِّر في وزننا، وليس لأنَّه مُعضلة أخلاقية؛ لذا توقف عن تصنيف الأمور بأنَّها جيدة أو سيئة، وفكر فيما يقرِّبك أو يبعدك عن تحقيق أهدافك، فهذا سيسهل عليك البقاء على المسار الصحيح.

شاهد بالفديو: 6 أمثلة عن التحيز للنتيجة التي يمكن أن تؤثر سلباً في قراراتك ج2

في الختام:

قد تبدو فكرة الترخيص الأخلاقي سخيفة جداً؛ إذ يكون أول ما يخطر في بالك هو أنَّك لا تفعل ذلك؛ لكنَّ الحقيقة هي أنَّه على الرَّغم من أنَّ الجميع يظنون بأنَّهم لا يتأثرون بخلل عقلي مثل هذا، إلا أنَّنا معرضون له جميعاً، ونقع في شباكه أكثر ممَّا نظن، إنَّه لأمر سخيف وساذج أن نفترض بأنَّنا مستثنون بطريقة ما من القيود المعرفية ذاتها التي يخضع لها جميع البشر؛ لذا ندعوك إلى التفكير في كيفية تأثير الترخيص الأخلاقي في قراراتك اليومية، وما هو الفخ الأكثر شيوعاً الذي تقع فيه، وما الذي تستطيع فعله لتجنب ذلك.




مقالات مرتبطة