التحليل النفسي للأدب بين رمزية الأب ورمزية النار

إنَّ مؤسِّس مدرسة التحليل النفسي هو الطبيب والفيلسوف النمساوي الشهير "سيغموند فرويد"، والذي استخدمَ هذه الطريقة في علاج بعض الاضطرابات النفسية؛ إذ كان يرتكز في هذه العملية إلى البحث عن المشاعر والذكريات الموجودة في أعماق اللاوعي الإنساني، والتي قد تكون ذكريات قديمة جداً من مرحلة الطفولة المبكرة، والتعمق في هذه الذكريات والمواقف والأفكار مهما كانت بسيطة أو صغيرة ومهما بدت معدومة القيمة، ومحاولة ربطها بالمشاعر والعواطف التي تسيطر على الإنسان البالغ.



سنحاول في هذا المقال أن نتناول رواية "الأب الرمزي" للروائي الكبير نجيب محفوظ من وجهة نظر التحليل النفسي، وسنلقي الضوء بطريقة مُبسَّطة على أهم العناصر النفسية التي وردت فيها، ثم سنتناول رمزية النار من وجهة نظر التحليل النفسي أيضاً، والمستقاة من كتاب "النار في التحليل النفسي" لغاستون باشلار.

كيف أسَّس سيغموند فرويد نظرية التحليل النفسي؟

استلهم سيغموند فرويد هذه الأفكار من رؤيته لأحد أصدقائه الأطباء وهو يعالج مريضة لديه تعاني من أعراض نفسية دون أيَّة مشكلة عضوية واضحة؛ وذلك من خلال إخراج ذكرياتها الدفينة ومناقشتها، وقد أكَّدت المريضة أنَّها حققت بعض الفائدة وشعرت بتحسُّن ملحوظ من خلال تراجع حدَّة بعض الأعراض المزعجة.

عاد فرويد إلى عيادته وأخذ يطبق هذه الأساليب على مرضاه ويتوسع في تطبيقها، ويضيف عليها من خبرته، وكان في كل مرة يراكم الخبرات التي حصل عليها من المرة الماضية، وقد استنتج فرويد أنَّه قادر على التخفيف من وطأة المشاعر السلبية التي يعيشها المريض من خلال استرجاع الذكريات المكبوتة في حيِّز اللاوعي إلى حيز الوعي، ويساهم مساهمة كبيرة في تفريغ الاحتقان النفسي؛ إذ يقول فرويد إنَّ أحداث الطفولة لها دور أساسي ومحوري في تشكيل جوانب الشخصية البالغة، ومن ثم لها دور في أي اضطراب نفسي قد يطفو على السطح.

كيف قسَّم فرويد النفس البشرية وفق نظرية التحليل النفسي؟

يقسم فرويد الكيان النفسي البشري إلى ثلاثة أقسام أساسية، وهي في حالة صراع دائم مع بعضها بعضاً:

  • الأنا العليا: وهي مجموعة القيم والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية والتي يتمثلها الإنسان، ويحاول فرضها على قواه ورغباته الفيزيولوحية والبيولوجية الطبيعية.
  • الهو: وهي مجموعة الغرائز التي تتحكم بالإنسان بشكل بيولوجي؛ مثل الجنس والتكاثر والبقاء، وتكون في حالة صراع دائم مع الأنا العليا.
  • الأنا: وهي ما يحاول الإنسان تجميعه من متناقضات الأنا العليا والهو، وما يظهر إلى العلن من سلوكات أو تصرفات، تجمع بين الغريزة المحكومة ببعض المبادئ والمثل العليا.

التحليل النفسي لرواية "الأب الرمزي"، والرمزية السايكولوجية لدور الأب:

يتحفنا الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ في روايته "الأب الرمزي" بالمعاني والدلالات العميقة، ليس فقط الأدبية والاجتماعية؛ وإنَّما النفسية والسايكولوجية العميقة أيضاً.

تحكي أحداث الرواية عن الطفل "صابر" الذي ولدتهُ أم تعمل في العلاقات غير الشرعية وكل ما له علاقة بهذا المجال العابر لكل القيم الأخلاقية والإنسانية، وقد أَخبرته أمه أنَّ والده قد مات منذ أن كان رضيعاً، وقد تربى صابر على البلطجة وعدم احترام القوانين، وتعوَّد على الحصول على كل شيء بسهولة ودون أن يتعب ويجتهد في الحصول عليه.

في حال تمعنَّا في هذه السطور وفق وجهة نظر التحليل النفسي؛ سنرى أنَّ كلام نجيب محفوظ يتقاطع مع أفكار سيغموند فرويد؛ الذي يَعُدُّ وجود الأب القوي ضرورة لإحداث التوازن النفسي داخل الطفل؛ إذ إنَّ الأب يمثل القانون والمبادئ والقيم؛ أي الأنا العليا، وهنا نجد في قصة صديقنا صابر غياباً تاماً للأب وهذا يؤدي إلى غياب المثل والقيم لديه.

هل يمكن تعويض غياب "الأنا العليا" وفق رواية "الأب الرمزي"؟

بينما كانت أم صديقنا "صابر" على فراش الموت؛ تبوح لابنها بحقيقة أنَّ والده لم يمت؛ بل إنَّه ما يزال على قيد الحياة، فيصاب صابر بصدمة وينطلق في رحلة البحث عن والده، ثم ينزل في فندق ويتعرَّف إلى صديقته "إلهام" فيشرح لها قصته وهدف رحلته في البحث عن والده، وتوافق على كل ما طرحه وتشجعه على ذلك وتختار الانضمام إليه، ولكنَّه يعود مجدداً إلى حياة المجون والأذى واتِّباع الشهوات، وهنا توقفه إلهام وتحاول ثنيه عن هذا السلوك وتذكره بالقضية الأساسية التي يجب عليه العمل عليها؛ وهي إيجاد والده، ولكنَّها تفشل في ذلك.

هنا يوضح لنا نجيب محفوظ حقيقة نفسية في غاية الأهمية؛ وهي أنَّ الطفولة تساهم في تشكيل جوانب شخصية الإنسان بطريقة قد يكون من المستحيل أن يتخلص منها أو يصححها أو يعدلها في المستقبل، حتى لو تعرَّض لبعض المواقف التي بدا أنَّها قد تغير من هذه الأمور، وهذا يظهر في شخصية صابر؛ إذ تمثِّل إلهام صوت العقل وصوت الأنا العليا وفق توصيف فرويد، ولكنَّ هذه الأنا العليا فشلت في التحكم والسيطرة على الغريزة والشهوة المتمثلة في الهو؛ وسبب فشل الأنا العليا هو ضعفها وهشاشتها أو حتى انعدام وجودها؛ وذلك بسبب غياب الأب الدائم.

شاهد بالفيديو: ملخص كتاب 7 أسرار للقوة الذاتية للدكتور إبراهيم الفقي

ماذا يمكن أن نتعلَّم من رواية "الأب الرمزي" من وجهة نظر التحليل النفسي؟

في النهاية يتعرَّف صابر إلى والده، ليتبيَّن فيما بعد أنَّ والده شخص نرجسي مريض مدمن على العلاقات الجنسية سواء بزواج أم من غير زواج، ولا يوفر فتاة، وهو دائم التنقل والسفر بحثاً عن رغباته وشهواته، وقد جنى كل ماله من تجارة الخمور في الهند.

إنَّ ما يحاول نجيب محفوظ إيصاله في نهاية هذه الرواية يتفق تماماً مع علم النفس والتحليل النفسي؛ وهو أنَّ الإنسان يملك في داخله الكثير من الطاقات الوحشية مثل العنف والجنس والطعام، والتي في حال ثورانها لا يمكن أن توفر شيئاً، وهذا ما لا يتَّفق بأي شكل مع الحياة الاجتماعية العصرية التي نعيشها في الوقت الحالي.

لذلك يجب على الإنسان أن يختلق نوعاً من التوازن بين الغريزة المتمثلة بالهو، والثقافة والمبادئ المتمثلة بالأنا العليا؛ وذلك لكي يصل إلى حياة مليئة بالسلام والحب والطمأنينة؛ لذا على كل إنسان أن يختلق في داخله هذا الأب الرمزي في حال عدم وجوده.

سايكولوجيا النار في الأدب والتحليل النفسي:

تُعَدُّ النار نموذجاً فريداً من وجهة نظر التحليل النفسي؛ إذ إنَّها تجمع المتناقضات من خير وشر في نفس الوقت، فهي تدفئ وتطعم وفي نفس الوقت تعاقب وتحرق.

يُرجع خبراء علم النفس خوف الإنسان من النار إلى عقدة تنشأ عندما يحاول الطفل الاقتراب من النار فيصرخ الأب في وجهه وينهره من أجل الابتعاد عنها؛ وهنا تتشكل لدى الطفل رغبة الاكتشاف؛ وهذا دفع بعض الفلاسفة إلى الربط ما بين النار ورغبة الاكتشاف.

رمزية النار في الطهارة بين الأدب والتحليل النفسي:

منذ القِدَم كانت القبائل البدائية تظن أنَّ النار لها قدرة كبيرة على تغيير العالم؛ لا بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك في عَدِّها أكبر مطهِّر للخطايا والذنوب، ومن هنا بدأت الديانات تطرح فكرة التعذيب الأبدي في النار على أنَّها وسيلة لغسل الذنوب.

لم تقتصر رمزية النار على الطهارة الروحية؛ بل تعدَّتها إلى الطهارة الجسدية، فعندما اكتشفَ الإنسان النار وأصبح يستخدمها في إزالة الرائحة على أنَّها صفة بدائية قاهرة، هنا ارتبط مفهوم النار بالنظافة، كما تُستَخدَم النار في الطبخ وتليين الطعام ومن ثم تنظيف المعدة والأمعاء، وكل هذا ترسَّخ في ذهن الإنسان منذ القدم "ارتباط النار مع الطهارة والنظافة".

رمزية النار في الجنس والرغبة بين الأدب والتحليل النفسي:

ربط فلاسفة العصر القديم النار بمفهوم الجنس والرغبة الجنسية؛ إذ إنَّ الإنسان لطالما أحس بالرغبة عند وقوفه إلى جانب النار، وقد نظروا إلى النار على أنَّها مرادفة للجنس مستندين إلى أنَّ أول ألسنة لهب في التاريخ قد أتت عبر احتكاك عودين من الخشب؛ وذلك في إشارة إلى فعل الحياة.

قد أرَّخ الكثيرون من الشعراء والأدباء القدماء استخدام النار كرمز للفحولة والقدرة الجنسية في ذلك الوقت؛ سواء عند الرجال أم عند النساء.

إقرأ أيضاً: برنامج تحليل الشخصية عن طريق خط اليد

رمزية النار في الجمال بين الأدب والتحليل النفسي:

كان القدماء ينظرون إلى النار على أنَّها رمزية الجمال، فنجد في اللغة الإنجليزية كلمة "hot" بمعنى حار، ويأتي استخدامها للإشارة إلى الجمال الفاتن، وفي اللغة العربية ارتبطت النار أيضاً بالجمال والرغبة؛ إذ إنَّها تحتوي على تركيب "يشعل الرغبة" وكأنَّ الرغبة هي نار تشتعل؛ وهذا ما يوافق شعور الإنسان بالرغبة؛ فهو يشعر حقاً بأنَّ النار اشتعلت في داخله.

وفي التراث الإسلامي نرى تعريجاً على رمزية النار؛ يتعدى رمزية العذاب والتطهير إلى رمزية الجمال؛ وذلك من خلال ذكر شخص يُطلق عليه اسم "أبو لهب"، وتذكر المراجع التاريخية والإسلامية أنَّ سبب هذه التسمية هو جمال هذا الرجل من ناحية المظهر، فاللهب هو تابع من توابع النار؛ بل يمكن أن نعرِّفه على أنَّه ذروة النار وجذوتها.

إقرأ أيضاً: كيف نجد الجمال في الفوضى التي سببها فيروس كورونا؟

في الختام:

إنَّ سيغموند فرويد يُعَدُّ أبا الطب النفسي، وكذلك يُعَدُّ المؤسس الحقيقي لمدرسة التحليل النفسي، ولكنَّه وبالرغم من ذلك فقد دُحِضَت الكثير من نظرياته في العلم الحديث، ولا سيما تلك التي تعطي الجنس أهمية عليا في جميع سلوكات الإنسان، لكن توجد العديد من النظريات ما تزال صامدة مثل آليات الدفاع النفسي، والتي بقيت كما هي منذ أن اكتشفها فرويد.

بالرغم من هذا وذاك؛ يبقى سيغموند فرويد واحداً من أهم الأشخاص في تاريخ البشرية؛ إذ أسس لعلمٍ عميق ودقيق وهام ساهم في الارتقاء بالحياة الإنسانية، وحل الكثير من مشكلاتها النفسية، وإنَّ دحض بعض نظرياته لا يعني سلبه إنجازاته؛ إذ إنَّ العلم ليس إلَّا قصصاً غير مكتملة وتجارب وبحوث لم يكتمل نجاحها بعد، يكملها ما سيأتي من عقول في المستقبل

المصادر: 1،2،3،4،5




مقالات مرتبطة