البطالة التكنولوجية: مفهومها وطرق تجاوزها

نسعى دائماً إلى الحفاظ على وظائفنا وأعمالنا، لكن قد يصبح الأمر أصعب بكثير إذا ما كانت المنافسة من التكنولوجيا بحد ذاتها، وهذا بالطبع ما يجعل المنافسة أقل عدلاً ومحسومة النتائج وخاصةً لمن لا يملك المهارات الكافية، وستكون النتيجة خسارة الوظيفة؛ وهذا ما يُسمَّى بالبطالة التكنولوجية التي سنتعرَّف إليها أكثر في هذا المقال.



أولاً: ما هي البطالة التكنولوجية؟

يحدث هذا النوع من البطالة عندما يُستغنى عن الأفراد من وظائفهم ويُستبدلون بالتكنولوجيا؛ ويحدث هذا بسبب التقدُّم والتطوُّر التكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم؛ إذ يتغيَّر الطلب على القوى العاملة نتيجةً لاستخدام آلات متطورة أكثر توفيراً للوقت وأكثر إنتاجية وحتَّى اقتصادية؛ لذلك هي شكل من أشكال البطالة الهيكلية؛ إذ إنَّ هيكل الاقتصاد يتغيَّر نتيجة هذه التحولات بالطلب، وقد عُمِّمَت عبارة البطالة التكنولوجية على يد جون ماينارد كينز في الثلاثينيات، وقال عنها إنَّها مرحلة مؤقَّتة من سوء التكيُّف.

يُقال إنَّ هذه البطالة بطالة قصيرة؛ وذلك لأنَّ إدخال الآلات التكنولوجية الجديدة والمتطورة سيحسِّن عوائد الشركات، ويفتح أمامها آفاقاً جديدة وخطوط عمل أخرى، وهذا يعني ظهور فرص عمل جديدة وعودة الحاجة إلى الأيدي العاملة، فضلاً على أنَّ هذا الاستخدام سيسبب انخفاضاً في سعر السلعة التي تَستَخدم هذه الآلات لإنتاجها لأنَّها أسرع وذات كفاءة أكثر، وانخفاض سعر السلعة سيؤدي من ثم إلى زيادة الطلب عليها؛ وهذا يعني الحاجة مجدداً إلى العمال.

باختصار البطالة التكنولوجية ليست بطالة دائمة؛ بل مؤقتة تُحدِث تغييرات في الحاجة إلى الأيدي العاملة، ونهاية الأمر تؤدي إلى زيادة الطلب على القوى العاملة.

علي سبيل المثال، فيما سبق، معظم العمال البريطانيين عملوا في الزراعة، وقد أتاحت التكنولوجيا - التي توفِّر العمالة وإنتاج الغذاء وبعدد أقل من العمال - الاستغناء عن عدد منهم، لكن في نفس الوقت هذا التوفُّر في مجال إنتاج الغذاء لتوفُّر آلات بديلة أدَّى إلى شواغر جديدة في مجال إنتاج الآلات.

ثانياً: نظرة تاريخية عن مفهوم البطالة التكنولوجية

اختلفت وجهات النظر عبر التاريخ عن تأثير البطالة التكنولوجية والخسائر الناتجة عنها، ويُقسم المشاركون في مناظرات البطالة التكنولوجية إلى فريقين:

  • المتفائلون: يرون أنَّ الابتكار يدمِّر ويؤدي إلى خسارة الوظائف على مدى قصير والتأثير السلبي ليس طويل الأمد.
  • المتشائمون: يرى هذا الفريق أنَّ التكنولوجيا الجديدة تسبب انخفاضاً في عدد العمال الإجمالي.

قبل القرن الثامن عشر تبنَّى كلٌّ من الشعب والنخبة وجهة النظر التشاؤمية، ولكنَّ هذا الأمر لم يكن يثير القلق كثيراً حتى القرن الثامن عشر حتى ازدادت المخاوف المتعلقة بتأثير الآلات، ورغم ذلك نادت أصوات بعض المفكرين الاقتصاديين ضد هذه المخاوف والذين رأوا أنَّه ليس لها هذه الآثار السلبية، وفي القرن التاسع عشر أكَّد الاقتصاديون الكلاسيكيون هذه الرؤية، وفي منتصف القرن التاسع عشر قلَّت هذه المخاوف كثيراً.

في الحقيقة، قليل من الاقتصاديين حاربوا وجهة النظر التي تقول إنَّ التكنولوجيا لا تؤدي إلى بطالة طويلة الأمد، وعشرات من الاقتصاديين حذَّروا من البطالة التكنولوجية في أوروبا خصوصاً، وازدادت التحذيرات في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بسبب ارتفاع معدلات البطالة في المدن الصناعية في السبعينات، ورغم ذلك بقيت النظرة التفاؤلية هي السائدة في القرن العشرين.

في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ظهرت العديد من الدراسات التي تؤدي إلى تزايد البطالة التكنولوجية، وقد حُدِّدت النسبة بحوالي 47% ممن هم معرضون إلى خطر الأتمتة في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنَّ الكثيرين من الاقتصاديين يؤكدون أنَّ هذا القلق وهذه المخاوف لا أساس لها، فإنَّ الخوف من البطالة التكنولوجية عاد لينمو من جديد.

في عام 2019 قال تقرير التنمية الصادر عن البنك الدولي: صحيح أنَّ التفعيل الآلي يزيح العمال ولكنَّه يُنتِج صناعات ووظائف أكثر توازناً.

شاهد بالفيديو: 7 خطوات لنطوّر ذاتنا أثناء فترة البطالة

ثالثاً: ما مدى الخطورة الحقيقية للبطالة التكنولوجية على الوظائف؟

كما رأينا من خلال ما سبق رفض الكثيرون من الاقتصاديين فكرة تأثير التكنولوجيا في الأيدي العاملة، فحسب زعمهم فإنَّ هذه التكنولوجيا بالمقابل تتيح فرص عمل جديدة، ثمَّ جاء كتاب "السباق ضد الآلة" الذي نقض هذه الأفكار وتكلَّم عن تدمير التكنولوجيا للوظائف بشكل أسرع من خلقها.

قد تكلَّم ستيفن هوكينج عن الأمر في عمود نشرته صحيفة الغارديان الأمريكية؛ إذ قال: "إنَّ تحويل المصانع من العمالة البشرية إلى العمالة الأتوماتيكية ساهم بشكل كبير في تقليل الوظائف وفرص العمل في الوظائف التقليدية".

في عام 2015 ازداد عدد الروبوتات في أنحاء العالم لتصل إلى 1.6 مليون، وقد ازدادت مليوناً أيضاً بحلول 2019.

بدأ الموضوع يُثير تساؤلات الموظفين عندما بدأ بيع هذه الروبوتات يزداد، وقد تصدَّرت الصين هذه المبيعات تلاها الاتحاد الأوروبي، وتُستَخدَم الروبوتات على نطاق واسع في صناعة السيارات والآلات والمعادن، وفي الصناعات الكهربائية والإلكترونية.

المتوسط العالمي لاستخدام الروبوتات في سوق العمل العالمي عام 2015 قد بلغ 69 روبوتاً لكلِّ 10 آلاف موظَّف بشري، وخاصةً في كوريا الجنوبية بسبب انتشار صناعة السيارات والصناعات الكهربائية والإلكترونية فيها، ثم سنغافورة ثمّ اليابان وألمانيا.

إذاً، أكثر المهن المعرَّضة إلى خطر الأتمتة هي القطاعات الصناعية وقطاعات الإقامة والفندقة والخدمات الفندقية، وهذا حسب ما أصدرته مؤسسة ماكنري عام 2010، وتنخفض احتمالات الأتمتة في مجالات الصحَّة والتعليم.

استخدام التكنولوجيا وتوظيفها في الأعمال لم يَعُد خياراً؛ بل أصبح أمراً حتمياً فرضته سمات الثورة الصناعية الرابعة، فلا أحد يستطيع إنكار المزايا التي تقدمها ومدى قدراتها على تسهيل الأعمال وزيادة الإنتاجية التي تمهِّد مستقبلاً إلى وظائف جديدة.

من الجدير بالذكر أنَّ تأثير الأتمتة يكون سلبياً فيمن لديهم مهارات منخفضة أو متوسطة من الموظفين، في حين يُعزَّز أجر العمال الذين يتمتعون بمهارات عالية.

إقرأ أيضاً: معنى البطالة وأنواعها وطرق حلولها

رابعاً: ما هي تداعيات انتشار البطالة التكنولوجية في دول العالم الثالث؟

على الرغم من أنَّ دول العالم الثالث ما زالت بعيدة جداً عن الأتمتة - فهي ليست دولاً صناعية - لكن من الممكن أن يكون انخفاض تكاليفها سبباً في انتشارها بسرعة، وهذا ما ستتبعه الكثير من التداعيات وخاصةً أنَّ معظم أصحاب المهن والعمل هم من ذوي الكفاءات المنخفضة.

من أبرز هذه التداعيات:

  1. فقدان الوظائف: كما ذكرنا فإنِّ الروبوتات تحل محل الإنسان في كثير من المجالات اليوم؛ وهذا يسبب خسارة الناس لوظائفهم، وهذا ما سيحدث في حال انتشار الأتمتة في بلدان العالم الثالث؛ إذ إنَّ حوالي خمسة ملايين وظيفة ستشغلها روبوتات عام 2020 حسب ما أشار المنتدى الاقتصادي العالمي، ويُعَدُّ هذا التصريح خطراً حقيقياً على الوظائف.
  2. تأثُّر فرص العمل: تؤدي التكنولوجيا إلى تغيير أنواع فرص العمل كما تسبب انخفاضاً في حجم الفرص المتوافرة على المستوى الكلي، وكما ذكرنا آنفاً فإنَّ أصحاب المهارات المنخفضة هم الفئة الأكثر تأثُّراً؛ إذ ستصبح الحاجة إليهم أقل، في حين يزداد الطلب على أصحاب المهارات العالية.
  3. عدم المساواة والاختلاف في المهارات: فقدان الوظائف يؤثِّر في أجواء العمل؛ إذ تزداد التنافسية بين الموظفين؛ وهذا ما يسبب انخفاضاً في أجور العمال على حساب الأتمتة.
إقرأ أيضاً: البطالة في المجتمع: تعريفها، أسبابها، وطرق معالجتها

خامساً: ما هي الخطوات الاحترازية لمواجهة آثار البطالة التكنولوجية؟

بسبب كل ما ذكرناه آنفاً وبسبب تأثير البطالة التكنولوجية والتغيرات الكبيرة التي أحدثتها في سوق العمل، اهتمَّت المؤسسات الاقتصادية كمنظمة العمل الدولية، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والبنك الدولي، والمنتدى الاقتصادي الدولي بدعم الخطوات الاستباقية لآثار الثورة التكنولوجية.

فيما يأتي سنعدد بعضاً من هذه الخطوات:

  1. تطوير التعليم وتحديثه: على الحكومات أن تكون مسؤولة وتعمل على تطوير وتحديث المنظومة التعليمية لتكون أكثر قدرة على مواجهة التطورات التي تحدث في العالم، ولتكون قادرة على تزويد المتعلمين بالمهارات اللازمة لهم لمواجهة سوق العمل في المستقبل وحاجاته ومن ثم القدرة على التكيُّف معه.
  2. التدريب: وهذه الخطوة من مسؤولية الشركات التي يتعيَّن عليها أن تدرِّب العاملين معها لإكسابهم المهارات الضرورية لإتمام أعمالهم، وتطوير آلية عملهم، وتحقيق أكبر قدر من التوافق بين الإنسان والآلة لزيادة الإنتاجية.
  3. تقبُّل العمالة المرنة: يعني اكتساب المهارات وتطويرها بشكل دائم لتكون قادرة على التكيُّف مع الاحتياجات المتغيِّرة والمتبدلة لسوق العمل.
إقرأ أيضاً: 6 مهارات لن يحلّ الذكاء الاصطناعي فيها مستقبلاً محل البشر

في الختام:

يُقال: "في صراعنا مع الآلات فإنَّ بعضهم سيربح بينما الكثيرون سيخسرون"؛ وهذا لا يعني أبداً حتمية الخسارة؛ إذ إنَّ الخسارة ستكون فقط من نصيب مَن لم يُحرِّك ساكناً ومن ما زال يعيش خارج العصر، الخسارة - وكما كان واضحاً من خلال المقال - فقط من نصيب أصحاب الكفاءات والمهارات القليلة، الذين لم يطوِّروا ويحسِّنوا أنفسهم، وفي حربنا مع التكنولوجيا نربح فقط عندما نعرف كيف نضعها في خدمتنا ولدعمنا ودعم مهاراتنا، وهذا في النهاية ما يجعل العمل أكثر إنتاجية وكفاءة.

 المصادر: 1،2،3




مقالات مرتبطة