البحث عن المعنى في الحياة

نُقِل رجل "نمساوي" (Austrian) يبلغ من العمر 39 عاماً يُدعى "فيكتور فرانكل" (Victor Frankl) وزوجته "تيلي" (Tilly) في عام 1944 إلى معتقل "أوشفيتز" (Auschwitz)؛ حيث أمضى قرابة 18 شهراً في أغلال النازيين وهم ينقلونه من معسكر إلى آخر قبل أن يُحرَّر من قِبل الجنود الأمريكيين.



ونجا "فرانكل" من ويلات الحرب، لكنَّ زوجته وأمه وشقيقه لم ينجوا، ومع معاناته من مثل هذه الصدمة الكبيرة، أصبح "فرانكل" أحد أكثر أطباء الأعصاب والأطباء النفسيين تأثيراً في القرن العشرين.

في الواقع، إنَّ قضاء الوقت في الأسر، وتجربة المعاناة والحرمان، ومشاهدة بعض السجناء يتخطون الظروف التي مروا بها بينما استسلم آخرون لها، هو ما ألهم "فرانكل" لاستكشاف معنى الحياة، وتطوير تقنية مشهورة تسمى "العلاج المنطقي" (logotherapy).

اكتسب "فرانكل" بصيرته خلال أقسى لحظات حياته من ملاحظة المرونة البشرية، ومن ثم علَّم الآخرين كيفية إيجاد معنى للحياة حتى في أقسى الظروف، وفيما يأتي بعض الأفكار التي طرحها للعثور على معنى الحياة:

1. البحث عن المعنى من خلال القيود:

كتب "فرانكل": "يمكن أن يؤخذ كل شيء من الإنسان ما عدا شيء واحد: آخر الحريات الإنسانية؛ وهو أن يحدد المرء موقفه في أيَّة مجموعة معينة من الظروف، لاختيار طريقه الخاص"؛ حيث يعتقد "فرانكل" أنَّ البحث عن المعنى هو الدافع الأساسي للبشرية، وبالتأكيد هو ليس أول مَن اكتشف أعمق سؤال في الحياة: لماذا نحن هنا؟ فمنذ آلاف السنين، حاول علماء الدين والعلمانيون الإجابة عن هذا السؤال.

كما لاحظ "فرانكل" أنَّ "الدين هو طريقة البحث المطلقة عن المعنى"، وأشار إلى أنَّ إيجاد "المعنى المطلق" للحياة "من الطبيعي أن يتجاوز القدرات الفكرية المحدودة للإنسان ويفوقها"، ولكن، كما لاحظ، فإنَّ الكفاح من أجل فهم كل شيء هو ما يجعل الحياة ذات معنى.

ويعتقد طبيب الأعصاب "سيغموند فرويد" (Sigmund Freud) أنَّ دوافع البشر هي رغبتهم في المتعة، واختلف "فرانكل" مع فرويد؛ فقد كان يعتقد أنَّ الغرض من الحياة لا ينبع من المتعة؛ بل من المعنى.

إقرأ أيضاً: كيف تعثر على معنى الحياة؟

2. اكتشاف الهدف من المعاناة:

إنَّ المعاناة من أكثر الظروف البشرية ديمومة؛ حيث تنبع من قيود ترتبط بالصحة والسعادة والعلاقات والاحتياجات الأساسية، ويعاني البشر أحياناً معاناة لا تُطاق، ولكن في مواجهة هذه المعاناة، يمكننا اكتشاف المعنى لهذه الحياة؛ حيث نجد المعنى في المعاناة، لا في حدوثها.

وكما قال الفيلسوف "فريدريك نيتشه" (Friedrich Nietzsche): "الحياة تعني المعاناة، والبقاء على قيد الحياة هو إيجاد بعض المعنى في المعاناة"؛ وبمعنى آخر، كلما كانت المعاناة التي نختبرها أصعب، كانت النهاية أكثر إشراقاً، ونحن "من المفترض" أن نكافح لأنَّ هذا هو ما يقودنا إلى التعلُّم والنمو إذا سعينا إلى المعنى بدلاً من الرثاء على افتقارنا إلى المتعة.

يمكن أن يمنحنا الوعي الذاتي بقيودنا نظرة ثاقبة وتعاطفاً، فإذا لم تكن قيودنا شديدة مثل قيود الآخرين، أو إذا كنا محظوظين بما يكفي للتغلب عليها، فإنَّنا نجد الحاجة إلى الخدمة، فكما قالت "هيلين كيلر" (Helen Keller): "العالم مليء بالمعاناة، كما أنَّه مليء بالقدرة على التغلب عليها".

3. رؤية الجانب المشرق في الصعاب والتحديات التي نمرُّ فيها:

تبدو الحياة دون صراع وتحدٍّ كأنَّها فارغة، فالتحدي هو المقاومة التي تجعلنا أقوى، وتجبرنا على النمو؛ حيث إنَّه الوزن الذي نتدرب به لتقوية قدراتنا الذهنية، والحياة دونه مَحض تَرَف.

ولاحَظ "فرانكل" أنَّه كلما زادت المجتمعات من راحتها المادية، عانت من تدهور الحالة العقلية والعاطفية بين أفرادها، وصاغ مصطلح "الفراغ الوجودي"، الذي وصفه بأنَّه "الشعور باللامعنى الكلي والنهائي" لوصف هذا الظرف، فإذا عرفنا أنفسنا بما لدينا وليس بما نحن عليه وما نفعله، فإنَّنا نصبح محاصرين بقيودنا، ولا نتحرر بواسطتها.

ونصحنا الفيلسوف الرواقي "إبيكتيتوس" (Epictetus) بأن: "نعيش حتى تعتمد سعادتنا بأقل قدر ممكن على الأسباب الخارجية"؛ فبقدر ما نعاني من المشقة، حثَّنا "إبيكتيتوس" على النظر إلى الوراء، والعثور على الإيجابيات، والاستفادة مما حدث.

وقال: "تقدِّم لنا كل صعوبة في الحياة فرصة للتوجه نحو الداخل واستدعاء مواردنا الداخلية؛ حيث إنَّ التجارب التي نمرُّ بها يمكن وينبغي أن تعرِّفنا نقاط قوَّتنا"، وكتب "فرانكل" في كتابه المؤثر "بحث الإنسان عن المعنى" (Man’s Search for Meaning): "عندما لا نكون قادرين على تغيير الموقف، فإنَّنا نواجه تحدياً في تغيير أنفسنا".

شاهد بالفيديو: 7 طرق لتبنّي التفكير الإيجابي كمنهج حياة

4. السعي إلى حياة سعيدة:

إنَّ إدراك القيود هو ما يدفعنا للبحث عن تجارب جديدة؛ حيث إنَّ هناك مفهوم في علم النفس يسمى "تأثير التعرض المحض" (mere exposure effect) الذي يوجهنا نحو الألفة؛ وذلك لأنَّها آلية بقاء موجودة فينا، وكان أسلافنا أكثر قابلية للبقاء على قيد الحياة إذا اقتربوا من الناس وخاضوا تجارب عدُّوها لا تشكِّل تهديداً على الحياة؛ لذلك تمسكوا بما يعرفونه.

إنَّ مجرد البقاء على قيد الحياة ليس مصدر قلق كبير في عالمنا الحديث، لكنَّنا ما زلنا نميل إلى الألفة؛ وهذا ما يجعلنا عالقين في الروتين نفسه، خاصة مع تقدُّمنا ​​في السن، ومع ذلك، من خلال إدراك هذه القيود، يمكننا التحرر منها والسعي وراء تجارب جديدة ومبتكرة تؤدي إلى حياة غنية ومجزية.

توفِّر اللحظات الأولى في التجارب الجديدة وقوداً لحياة ممتعة وسعيدة، فإذا أدركنا ميولنا نحو المألوف، فسوف نمتلك القوة لمتابعة ما هو غير عادي؛ حيث قال "جون جاردنر" (John Gardner): "الحياة هي فن الرسم دون ممحاة"؛ حيث يُعَدُّ فهم القيود وتقديرها عنصراً هاماً في الحياة السعيدة.

من الهام أن تحلم بأحلام كبيرة، ولكن من الهام بالقدر نفسه أن تجد الرضى في السعي وراء الأحلام بقدر ما تفعله في تحقيقها، فنادراً ما تسير الأمور كما هو مخطط لها؛ لذلك إذا انشغلتَ كثيراً في رؤيتك لما يجب أن تبدو عليه الحياة المثالية، فغالباً ما ستجد نفسك محاصراً في شبكة من التوقعات الكبيرة غير الواقعية.

وبعبارة أخرى، عليك أن تتعلَّم أن تحب سيرورة الحياة المليئة بالصراعات، والتي تتميز بالعقبات، بقدر ما تحب أن تحلم بأفكار تخصُّ الشكل الذي قد تبدو عليه الحياة المثالية؛ حيث توجد السعادة في رحلة الحياة، وليس بالضرورة في وجهتها.

المصدر




مقالات مرتبطة