الاندفاع في علم النفس: مفهومه وطرق ضبطه

لا بدَّ أنَّك صادفت في أثناء وقوفك على إشارة المرور سائقاً يتجاوز الإشارة ويَعبُر قبل ثوانٍ من إضاءَةِ الضوء المُخصَّص للسيارات، ولا بدَّ أنَّك تساءَلت في نفسك عن اندفاعه الشديد وعدم قدرته على الانتظار لبرهة إضافية ونعتَّهُ بالمتهوِّر ومعدوم المسؤولية، ولربَّما أنَّكَ شاهدتَ في واحد من برامج المسابقات مُشترِكاً يجيب عن أسئلة المُقدِّم باسم فريقه دون أن يتشاور معهم، وقبل أن يتمَّ المُقدِّم سؤاله حتى وطرح الاحتمالات المتعلقة به، يضيع على نفسه وعلى فريقه فرصة الفوز واكتساب النقاط؛ وذلك لأنَّ إجاباته قد تَخيبُ في كثير من الأحيان.



إنَّ القاسم المُشترَك بين المُشترِك والسائق في المثالين السابقين هو اندفاعهما الذي يُعَدُّ تهوُّراً إذا ما جاء في مواقف حَرِجة؛ الأمر الذي له - كأي سلوك آخر - تفسير واضح في علم النفس، وهذا موضوع مقالنا لهذا اليوم: "الاندفاع في علم النفس ومفهومه وطرائق ضبطه والتحكُّم به".

مفهوم الاندفاع في علم النفس:

يمكن تعريف مفهوم الاندفاع في علم النفس على أنَّه حالة استعداد دائم للرد وللاستجابة تتسبَّبُ باتِّخاذ الشخص مواقف وإجراءات غير مسؤولة كردِّ فعل للحالات التي يمر بها، وغالباً ما يندم عليها في وقت لاحق، وعادة ما يترافق الاندفاع مع صعوبة التحكُّم بالانفعالات؛ الأمر الذي يسبِّبُ إزعاجاً للفرد والمحيط من حوله، وهذا ما يتطلب علاج هذا الاضطراب عند الأخصائي.

يمكن تعريف مفهوم الاندفاع في علم النفس أيضاً على أنَّه سمة شخصية يُعبِّرُ الإنسان عنها بميله إلى التصرُّف بطريقة غير واعية وغير مسؤولة ولا يستطيع السيطرة عليها إثر تعرُّضِه إلى تأثير ظرف خارجي أو تجربة عاطفية.

تَظهَرُ علائم الاندفاع على الشخص المُتَّصِف بهذه السمة على شكل تنفيذه للمهام دون تخطيط مُسبَق لها، ويصحبه تغيُّر في إرادة الشخص دون أخذ نتائج قراره في الحسبان؛ فمثلاً يُقرِّر مُعلِّم أن يتغيب عن العمل فجأة ويذهب إلى وجهةٍ ما دون إخبار الإدارة بأمر غيابه ودون أن يُنسِّق مع أحد من زملائه ليحلَّ محله ويُجري لطلبتِه الاختبارات المطلوبة ويشرح لهم الدروس المُقرَّرة في الخطة المنهجيَّة.

إنَّ الأشخاص الذين يتصرفون باندفاع لا يفكرون في نتائج ما يقومون به، ولا ينظرون إلى العواقب السلبية التي ستَلي أفعالهم والتي تَظهَرُ نتائجها على أنفسهم وعلى الآخرين على حدٍّ سواء، ولا يمكن إنكار أنَّ بعض حالات الاندفاع طبيعية وضرورية، فمن الضروري أن تندفع إلى إسعاف طفل دَهسَتْهُ للتو سيارة أمام عينيك، ومن الطبيعي أن تندفع إلى أن تمسك رجلاً مُسناً يترنَّح ويقترب من السقوط، ومن الطبيعي أن تقطع الشارع دون الانتباه إلى السيارات إذا ما كان شخص ما يُطاردك، لكنْ من غير المنطقي أن تندفع إلى إيصال صديقك إلى وجهة بعيدة في الجبال دون أن تتفقَّد مخزون سيارتك من الوقود وقدرتها الميكانيكية للوصول إلى المكان المقصود؛ إذ إنَّ مَن يعانون مِن الاندفاع يفقدون في كثير من الأحيان السيطرة على سلوكهم كونهم اندفاعيين بشكل تلقائي.

شاهد بالفيديو: فوائد الصَّمت بحسب علم النفس

هل يُعَدُّ الاندفاع مرضاً؟

لا يُعَدُّ الاندفاع مرضاً بحد ذاته؛ فهو في كثير من الأحيان يكون ناتجاً عن الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية أو نقص في هرمون السيروتونين (serotonin) المسؤول عن تنظيم السلوك، وغالباً ما يكون الاندفاع ناتجاً عن أسباب وراثيَّة.

يكون الاندفاع في بعض الأحيان توصيفاً لوجود الاضطرابات العقلية؛ مثل اضطراب الشخصية الحديَّة أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط أو من دونه (ADHD) أو اضطراب التحكُّم بالنبض أو اضطراب مزاج ثنائي القطب أو اضطراب الاعتماد على المواد أو اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع؛ وذلك لأنَّ القاسم المُشترَك بين هذه الاضطرابات هو اندفاع المُصاب بشكل مُبالَغ فيه وغير مسؤول والقيام بتصرفات متهوِّرة تؤثِّر بشكل ملحوظ في حياته اليومية؛ وهذا يعني أنَّ الاندفاع بحدِّ ذاته ليس مرضاً، ولكنَّه يكون مؤشِّراً إلى اضطراب عقلي أو نفسي.

هل الاندفاع مرتبط بالعمر أو الجنس؟

يمكن أن يُربَطَ الاندفاع بالمرحلة العمريَّة ويُعَدَّ ميزة عمرية، فالأطفال قبل سن المدرسة مثلاً والسنوات المدرسية الأولى أكثر اندفاعاً من أولئك الأكبر سناً، فنحن قد نجد طفلاً في السادسة يأخذ خاتم زواج أمه ليهديه لصديقته بمناسبة عيد ميلادها، ومردُّ ذلك إلى ضعف سيطرة الأطفال على سلوكاتهم وافتقارهم إلى مهارات الذكاء العاطفي، لكنْ ومع مرور الزمن والتطور الطبيعي يكتسب الطفل القدرة على ضبط اندفاعاته والتحكُّم بها بنجاح.

يمكن ترويض اندفاع الأطفال في عمر صغير عن طريق إشراكهم في الألعاب المُشترَكة بين عدة أطفال؛ إذ يتطلَّب دورهم في اللعبة الالتزام بقواعد ومهام وأزمنة مُحدَّدة تراعي مصالح رفاقهم في اللعب، كما يمكن للنشاطات التعليمية التي تتطلَّب الصبر - كإنتاش البذور مثلاً - أن تخفِّف من حدَّة الاندفاع.

في سن المُراهَقة يعود مستوى الاندفاع إلى الارتفاع بسبب زيادة الإثارة العاطفية في هذه المرحلة العمرية، لتتناقص حدَّة هذا الاندفاع بعد تجاوز هذه المرحلة وبلوغ سن الرشد.

من الجدير بالذكر أنَّ الاندفاع مرتبط بالجنس أيضاً، فالنساء بشكل عام أكثر اندفاعاً من الرجال كونهن أكثر عاطفية منهم؛ الأمر الذي يدفعهن إلى القيام بتصرفات غير مسؤولة بدافع العاطفة أو دوافع داخلية خاصة تشعر بها المرأة، وبالتأكيد فإنَّ هذا الأمر لا ينطبق على جميع النساء.

يُوجَد مثال عن ذلك يُصاغ بأسلوب النكتة غالباً ونراه منتشراً على منصَّات التواصل الاجتماعي؛ وهو المقارنة بين وجود الطفل مع أمه ووجود الطفل مع أبيه؛ إذ نرى الأم متنبِّهة ومذعورة، وإذا ما اقترب طفلها من عتبة ترتفع سنتمترات قليلة عن الأرض أو إذا ما تعثَّر وسقط، تندفع بأقصى سرعة إلى انتشاله، أما الأب فيرى طفله معفَّراً بالأتربة جراء سقوطه أو يمشي على شرفة مرتفعة ويتصرَّف بكل هدوء وبرود، إذاً فإنَّ الاندفاع بصورته الطبيعية مرتبط بالعمر؛ فهو يتعالى في الطفولة والمراهقة ويتناقص مع مرورهما، ونراه عند النساء بشكل عام أكثر من الرجال.

خصائص الاندفاع:

يتميَّز الشخص المندفع بالعديد من السمات؛ والتي نستطيع أن ندعوها خصائص الاندفاع، وهذه الخصائص هي:

  1. التصرُّف بشكل ارتجالي ودون التفكير المُسبَق في الفعل ونتائجه.
  2. الندم على التصرُّفات المتهوِّرة وصعوبة السيطرة على السلوك في المرات القادمة.
  3. تعريض النفس إلى المخاطر بسبب السلوكات الاندفاعية.
  4. قلة التسامح مع الإحباط والملل.
  5. الافتقار إلى مهارات التخطيط والتنظيم المتعلِّقة بالنشاطات.
  6. نسيان أشياء ومهام هامة يجب القيام بها؛ مثل الوصول في الوقت المُحدَّد.
  7. عدم الالتزام بالمواعيد والميل غالباً إلى التأخير.
  8. التفاعُل مع المحفزات بسرعة بوصفه رد فعل غير عقلاني وغير مسؤول.
  9. انخفاض الحساسية؛ وذلك بسبب العواقب السلبية المتكررة.

طرائق ضبط الاندفاع والتحكُّم به:

فيما يأتي طرائق ضبط الاندفاع والسيطرة عليه من أجل التحكُّم بالسلوك في أثناء المواقف التي عادةً ما تثير الاندفاع، والذي غالباً ما تنجم عنه تصرفات يندم عليها صاحبها أو تضعه في مواقف لا يُحسَد عليها، إذاً فإنَّ طرائق ضبط الاندفاع هي:

1. إدراك الأسباب المؤدية إلى الاندفاع:

من أهم وأوَّل الطرائق لضبط الاندفاع والتحكم به هي إدراك الأسباب المؤدية إليه والمحفزات التي تثير السلوك الاندفاعي العدواني؛ وذلك من أجل تجنُّبها قدر الإمكان ومحاولة الابتعاد عنها.

2. العد إلى عشرة:

قد تبدو هذه الطريقة من طرائق ضبط الاندفاع والتحكم به طريفة أو قد يظنها بعضنا مزحة، ولكنَّها فعَّالة حقاً، فعند تعرُّض الشخص إلى موقف من المواقف التي تُثير الاندفاع لديه يَعُدُّ من واحد إلى عشرة؛ مما يساعده على تهدئة عقله وزيادة مدة التفكير لفترة وجيزة؛ فيبتعد عن الاستجابة غير الواعية، كما أنَّ هذه الطريقة تُحسِّن التعامل مع القلق والتوتر وتدفُّق الأفكار التي عادةً ما تسبب استجابة دفاعية.

3. التوليد الذاتي للتعليمات:

من طرائق ضبط الاندفاع والتحكم به هي توليد التعليمات الذاتية، وفي هذه الطريقة يُخبِر الشخص نفسه بالخطوات التي يجب عليه أن يفعلها لتهدئة نفسه ومنعها عن القيام باستجابة اندفاعية، ويستطيع الشخص باستخدام هذه الطريقة أن يدرك أنَّ استجابته الاندفاعية العفوية غير مناسبة للموقف، ومن ثم يتمكَّن من تصحيحها.

شاهد بالفيديو: 7 طرق للسيطرة على عصبيتك

4. تفريغ الطاقة:

إنَّ الاندفاع يحتاج إلى طاقة للقيام به؛ وهذا يعني أنَّ تفريغ الطاقة يُعَدُّ من طرائق ضبط الاندفاع والتحكم به، ويمكن ذلك عن طريق أداء بعض التمارين الرياضية؛ لذلك نجد أصحاب الاستجابة الاندفاعية العدوانية يتوجهون إلى تفريغ طاقتهم عن طريق ضرب كيس الملاكمة مثلاً.

5. ممارسة تمارين الاسترخاء:

إنَّ ممارسة تمارين الاسترخاء مثل التأمل واليوغا تُعَدُّ من طرائق ضبط الاندفاع والتحكم به كون هذه التمارين تساعد على التخلُّص من التوتر الذي غالباً ما يدفع الإنسان إلى الاستجابة الاندفاعية.

6. التفكير في البدائل:

إنَّ الشخص في لحظة الاندفاع سيقوم بالاستجابة الاندفاعية التي اعتاد عليها؛ لذا فإنَّ التفكير في بدائل صحية للاستجابة الاندفاعية الحمقاء يُعَدُّ من أهم طرائق ضبط الاندفاع والتحكُّم به، فالشخص الذي اعتاد على الاندفاع وضرب الشخص الذي اختلف معه في وجهة نظر ما يمكنه أن يدرِّب نفسه على بديل صحي؛ كإغماض العينين والتنفس بعمق مثلاً قبل أن يأتي بأيَّة حركة.

إقرأ أيضاً: صفات الشخصية المندفعة وطرق علاجها

7. التفكير ملياً:

إنَّ التفكير في الأحداث والتصرفات التي نقوم بها ومدى تأثيرها في الآخرين وفي نظرتنا إلى أنفسنا يُعَدُّ من أهم طرائق ضبط الاندفاع والتحكم به؛ فمثلاً السيدة التي تذهب إلى السوق وتندفع إلى شراء أغراض لا تحتاج إليها لمجرَّد أنَّها ضمن التنزيلات وتعود إلى المنزل لتنظر إلى أكوام الأغراض التي اشترتها دونما جدوى، من الجدير بها أن تفكر ملياً قبل الذهاب إلى السوق في نوع الأغراض التي تحتاج إليها وكميتها والميزانية المرصودة لعملية التسوُّق هذه، وهذا كفيل بتخفيف اندفاعها الجامح إلى التسوُّق.

إقرأ أيضاً: النجاح في إدارة الغضب: 8 نصائح ذهبية للتخلّص من العصبية الزائدة

في الختام:

ليس كل اندفاع مذموماً، وفي كثير من الأحيان يكون الاندفاع والمبادرة سبباً من أسباب النجاح والتميُّز، ولكنَّ الاندفاع الذي قصدناه في مقالنا والذي تحدَّثنا عن مفهومه وطرائق التحكم به هو ذلك النوع من التهور الذي يضع صاحبه في مواقف خطيرة ومحرجة تتسبَّب له بمشاعر سلبية ومُحبِطة.




مقالات مرتبطة