الاضطرابات النفسية أثناء الشيخوخة: أسبابها، وطرق التعامل معها

يقضي معظم الآباء حياتهم وكأنَّها رحلة شقاء وتعب ومعاناة، وذلك في سبيل أن ينعم فلذات أكبادهم بالراحة والأمان، ويتعمَّقون في دور المُربِّي الحامي والناصح إلى أن يخلطوا بينه وبين دور المُربِّي المُضحِّي؛ فيتحوَّلون من أشخاصٍ يترتَّب عليهم حماية أولادهم وتبيان الأمور على حقيقتها لهم، إلى أشخاصٍ يَحرقون أنفسهم من أجلهم.



يؤكِّد علم النفس على ضرورة إتقان الإنسان لفن الأخذ والعطاء، بحيث يكون الأخذ والعطاء بتوازنٍ ووعي، إذ لا تعدُّ حالة الأخذ المستمر حالة صحية، ولا حتَّى حالة العطاء المستمر؛ إلَّا أنَّ الأهالي ضربوا بهذا القانون عرض الحائط، مُتحوِّلين إلى شمعاتٍ تحترق لإسعاد أطفالهم، فقد أهملوا أنفسهم، وفرَّطوا بحقِّها عليهم، وتفنَّنوا في تعذيبها وقهرها، وفي إلغاء مساحتهم الخاصة وحقوقهم المشروعة؛ مستمرين على هذا الحال إلى أن تنتهي حياتهم باكتئابٍ حادٍّ يعقب سن التقاعد، ليُعلنوا حينها فقدان سيطرتهم على مفاصل حياتهم، وَتشوُّه علاقاتهم الأسرية والاجتماعية؛ وقد ينتهي بهم المطاف في دار العجزة والمُسنِّين، وهنا تأتي لحظة الحقيقة والمواجهة، حيث يبدؤون سؤال أنفسهم أسئلةً وجودية مثل: "ما الذي ارتكبوه من أخطاء لينتهي بهم الحال إلى هنا؟"، و"لماذا يعيشون الآن أسوأ سنِّي حياتهم، في حين أنَّ عليهم الاحتفال بإنجازاتهم والاستمتاع بأوقاتهم مع أولادهم وأحفادهم؟"، و"هل تعدُّ دار المسنين مكاناً دافئاً؟ أم أنَّهم يستحقُّون مكاناً أفضل؟"، و"هل تلتهم الأنانية ونكران الجميل قلوب أولادهم؟ أم أنَّهم أصبحوا أشخاصاً صعبي المراس وعنيدين ومتشبِّثين بآرائهم؛ ممَّا أجبر الأبناء على الابتعاد عنهم؟"، و"هل من المُجدي تمضية الوقت خلال مرحلة الشيخوخة في جلد الذات، وإلقاء التهم على الآخرين؟ أم أنَّ الأسلم والأنضج جعل هذه المرحلة فرصةً لحوار عميق وصادق بين الأبناء والآباء بهدف تقريب وجهات النظر، وبثِّ النية الصافية في القلوب، وردم الهوَّة بين طرفي المعادلة؟".

يحتاج التعامل مع الأشخاص في سنِّ الشيخوخة إلى الكثير من الوعي والمرونة والحب، على أن تكون المسؤولية مشتركةً بين المُسن وابنه.

علينا ألَّا ننسى أنَّ الشيخوخة الحقيقية ليست في تجاوز سنِّ الخامسة والستين، بل في إنطفاء الرغبة في الحياة وانعدام الطَّاقة وإحساس الإنجاز؛ فكم من إنسانٍ يبلغ من العمر ستين عاماً، لكنَّه بكامل النضج والحكمة والرضا والهدوء، والقدرة على العطاء؟ وكم من إنسانٍ ثلاثيني العمر يفتقر إلى الهدوء والتوازن والطاقة والهدف والقيمة؟ القضية إذاً نسبية وفردية، وأعمق من مجرد أرقام.

لقد آن أوان النظر للمسنِّين بإنصافٍ أكثر؛ إذ علينا احتواؤهم وتقدير قوَّتهم الداخلية وحكمتهم، بدلاً من إغراقهم بدور الضحية؛ فهم بركة حقيقية ونعمة في حياتنا.

لذا سنخوض سويَّاً في هذا المقال لنكتشف أسباب الاضطرابات النفسية التي يمر بها الشخص المسن، وكيف يمكننا مساعدته على تخطِّيها.

ما هي الشيخوخة؟

تعدُّ الشيخوخة مرحلةً طبيعية في حياة الإنسان، مثلها مثل مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب؛ ووفق تعريف مؤسسة الصحة العالمية: يعدُّ الشخص مسنَّاً عندما يتجاوز عمره الخامسة والسـتين، وتتميَّز بالعديد من التغيرات التي تطال المناحي النفسية والجسدية والاجتماعية:

1. التغيرات الجسدية خلال مرحلة الشيخوخة:

يعاني الشخص المُسن من ضعفٍ في أداء أعضاء الجسم، حيث تقلُّ قدرته على السمع والرؤية، وتنخفض قوة عضلاته، ويصبح معرَّضاً إلى الإصابة بأمراضٍ مثل نقص الكولاجين في الجسم، ونقص السوائل المحيطة في العظام، والسكري، والضغط، وتلف الخلايا الجسدية وضمورها وموتها، خاصَّةً خلايا الدماغ؛ ممَّا يزيد من احتمالية إصابته بأمراض الزهايمر، والخرف. 

هناك فروقات فردية بين الأشخاص فيما يخص هذه المسألة، حيث يلعب كلٌّ من نمط الحياة والعوامل الوراثية وطبيعة النظام الغذائي دوراً كبيراً في ظهور معالم الشيخوخة أو عدم ظهورها.

2. التغيرات النفسية والاجتماعية خلال مرحلة الشيخوخة: 

تتلخَّص بإحساسه بالقلق، والخوف، وعدم الفائدة، ونقص الشعور بالإنجاز، والاكتئاب، والميل إلى العزلة، وفقدان الاهتمام بالآخرين وبالحياة.

يوجد فهمٌ قاصر لمفهوم "المُسن"، فمن المتعارف عليه أنَّ المسن شخصٌ ضعيف ومكسور ومعتلٌ صحياً، إلَّا أنَّ الأصل أن يكون المُسن شخصاً سليماً ومستقلاً وقادراً على القيام بوظائفه اليومية؛ فقد تقلِّل التغيرات الفيزيولوجية الأداء الوظيفي لأجهزة الجسم، لكنَّها لا تُعِيقه عن ممارسة أنشطة حياته الطبيعية.

لا تتعلَّق مرحلة الشيخوخة بالعمر، وإنَّما بحالة الإنسان وقدرته على الأداء والإنتاج والمشاركة في المجتمع؛ فكم من أشخاصٍ أبدعوا وابتكروا وهم في أعمار متقدمة.

شاهد بالفيديو: 6 عادات تسرع ظهور علامات الشيخوخة

ما الاضطرابات النفسية التي يمر بها المُسن؟ وما أسبابها؟

  • تقلُّ ثقة الأشخاص الذين في سنِّ الشيخوخة بأنفسهم، ويشعرون بالقلق والخوف وقلَّة الأهمية والتأثير، ويعانون من نقص الشعور بالإنجاز والقيمة؛ ذلك لأنَّ سنَّ الشيخوخة يترافق -في غالب الأحيان- مع سنِّ التقاعد، الأمر الذي ينقل الأشخاص من دور القوة إلى دور الضعف، فقد أصبحوا أشخاصاً بحاجة إلى المساعدة، بعد أن كانوا مركز العائلة ومحورها؛ إضافةً إلى أنَّهم قد باتوا يُنفِقون أجرهم الشهري على غذائهم ومتطلَّباتهم العلاجية، دون أن يساهموا في نفقات الأسرة كما السابق.
  • يشعر الأشخاص في سنِّ الشيخوخة بانعدام الدافعية والطاقة للحياة؛ وذلك لأنَّ قيمة العطاء لم تعد مفعَّلةً لديهم، فقد تحوَّلوا إلى أشخاصٍ آخذين وطالبين للراحة والمساعدة، بعد أن كانوا أشخاصاً معطائين في عملهم وأسرهم. يتدخَّل هنا البناء المعرفي للشخص المُسن في صياغة مشاعره واضطراباته، فمثلاً: ستجد الشخص الذي يدرك أنَّ الشيخوخة مرحلةٌ طبيعية، ويكون راضياً بكلِّ مظاهرها؛ هادئاً ومسالماً وإيجابياً، فهو يدرك أنَّ بإمكانه تحقيق العطاء في أيِّ وقت؛ لذا تجده يلتحق بنشاطاتٍ خيرية أو مجتمعية تطوعية.
  • يعانون كثيراً من دور الضحية، فقد أمضوا حياتهم عاكفين على رعاية أولادهم، وعلَّموا الجميع أنَّ مساحتهم مستباحة وحقوقهم مسلوبة، ويطالبون الآن -عندما أصبحوا مسنين- بالإحساس بهم، ويشعرون بمشاعر الخذلان ونكران الجميل والحزن والأسى لكون الآخرين لم يحقِّقوا سقف توقعاتهم ومتطلَّباتهم.
  • يكتئب الكثير من الأشخاص خلال فترة الشيخوخة، فتخف شهيَّتهم للطعام، ويضطرب نومهم، ويتحوَّلون إلى أشخاصٍ انعزاليين، ويفقدون متعة مشاركة الآخرين؛ كما يخسرون بهجة الأشياء التي كانت تُمتِّعهم فيما مضى؛ وذلك لأنَّهم لم يجدوا الاهتمام والاحتواء المطلوب من قبل الآخرين، أو لإحساسهم المفرط بانعدام القيمة والإنجاز، أو لشعورهم بالوحدة القاتلة، أو نتيجة رفضهم القاطع للشيخوخة وعدم تقبُّل تغيراتها الطبيعية، أو نتيجة قصور مرحلة الاستعداد للشيخوخة بسبب تعرُّضهم إلى صدمةٍ شكَّلت لديهم ردة فعل سلبية عن الموضوع.
  • يتعرض الكثير من الأشخاص خلال مرحلة الشيخوخة إلى مشاعر تأنيب الضمير وجلدٍ قاسٍ للذات، بحيث يُراجِعون كلَّ تصرفاتهم الماضية ويقيِّمونها سلبياً، ومن ثمَّ يعيشون حالةً من اللوم والرفض والحزن؛ حيث يؤدِّي عدم استغلال الوقت الكبير خلال هذه المرحلة وإغنائه بالنشاطات المفيدة، إلى زيادة احتمالية التفكير السلبي التشاؤمي.
إقرأ أيضاً: 8 أمور أساسيّة تدل على الصحة النفسيّة الجيدة للإنسان

التعامل مع الشيخوخة كمسؤولية مشتركة:

  • يحتاج الشخص المُسن إلى الكثير من الحب والاهتمام من قبل محيطه، ولكن دون أن يشعروه بأنَّه عاجز أو عالة، بحيث يشاركونه في أمور الأسرة، ويستشيرونه في القضايا الهامَّة؛ لكي يستعيد ثقته بنفسه وإحساسه بالقيمة.
  • على المُسن الاشتراك بنشاطاتٍ ممتعة، بحيث يحافظ على توازنه ورغبته في الحياة، وبحيث لا يتحوَّل إلى شخصٍ مهزوزٍ جلُّ همِّه البحث عن أخطاء الماضي ليجلد ذاته.
  • على المُسن الاستعداد لمرحلة الشيخوخة نفسياً ومعرفياً واجتماعياً، بحيث يُحِيط نفسه بمجموعة من الأشخاص الإيجابيين، ويخطِّط للقيام بمشروعٍ معيَّنٍ بعد التقاعد، مثل: المشاريع الخيرية أو التطوعية، أو يعمل مع شركةٍ ما كمستشارٍ أو قائدٍ تخطيطي؛ بالإضافة إلى دراسة التغيرات الحاصلة في مرحلة الشّيخوخة، وتقبُّلها، والتعامل معها بمرونة.
  • على المحيط أن يَعِي أنَّ الأصل هو أن يكون المُسن شخصاً سليماً ومستقلاً وقادراً على القيام بالنشاطات اليومية؛ لكن عندما يصبح غير قادرٍ على ممارسة حياته الطبيعيّة، فيجب عليه استشارة الطبيب المختص؛ كما علينا ألَّا ننسى أنَّ على المُسِن القيام بالفحوصات الدورية للاطمئنان على صحـته، وتناول الغذاء الصحي السليم للمحافظة على صحته ما أمكن.
  • على المُسن أن يكون واعياً بحيث يتعامل مع أولاده بمرونة، ويُبعِد عنهم الاتهامات السلبية، مثل: اتهامهم بأنَّهم ناكرو الجميل وخذلوه؛ إذ لدى أولاده الكثير من المسؤوليات، وعليه التماس العذر لهم، فهم لا يقدرون على مجالسته طوال الوقت.
  • على الدولة أن تضمن التأمين الصحي للمسنين، والبيئة المناسبة المريحة للأعصاب، والآمنة لهم.

الخلاصة:

يستطيع الشخص المُسِن أن يكون مبدعاً ومعطاءً ومميزاً؛ لذا لا ينبغي وضعه ضمن قوالب مُقيِّدةٍ تحدُّ من طاقاته وقدراته وخبراته، بل علينا مساعدته على استخراج أفضل ما لديه، لا على إتقان دور الضحية أكثر.

 

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة