الإيجابية السامة: احذر الوقوع في هذا المطب

الحياة ليست وردية دائماً؛ إذ نختبر فيها مواقف ولحظات صعبة، ونتعرَّض لمشاعر الحزن والقلق والخوف والإحباط، ونسمع يومياً نصائح وإرشادات عن الإيجابية وأهميتها وضرورتها في حياتنا، وبالتأكيد من الرائع أن تكون شخصاً إيجابياً متفائلاً ينظر إلى النصف المليء من الكأس، لكن هل تعلم أنَّ هناك "إيجابية سامة" تضر بك وبمن حولك؟



لا بد أنَّ المصطلح قد أثار فضولك واستغرابك، وربما لم تقتنع به، فأنا مثلك استنكرته عندما سمعت به؛ لذا تعال معنا في السطور القادمة لنعرف معاً كيف يمكن أن تكون الإيجابية سامة؟ وما هي أضرارها على صحتنا النفسية؟ وكيف يمكن تجنبها؟

ما هو المقصود بالإيجابية السامة؟

  1. الإيجابية السامة: هي حالة نكران المشاعر السلبية وقمعها ورفضها تماماً وكأنَّها ليست موجودة والتظاهر بالإيجابية والسعادة.
  2. يُعرِّفها موقع (VeryWellMind) بأنَّها: "المحافظة على عقلية إيجابية ورفض المشاعر السلبية، بصرف النظر عن مدى شدة أو صعوبة الموقف الذي تمر به".
  3. يُعرِّفها "جايمي زوكرمان" الطبيب النفسي السريري بولاية "بنسلفانيا" الأمريكية: "الإيجابية السامة هي الافتراض - سواء من جانب الشخص نفسه أم من قِبل الآخرين - أنَّه على الرغم من الألم العاطفي الذي يشعر به أو الموقف الصعب الذي يمر به، فإنَّ العقلية الإيجابية هي ما يجب أن تكون موجودة فقط".
  4. الإيجابية السامة هي "نهج المشاعر الإيجابية فقط" أو (Positive vibes only) مهما كان الموقف أو الظرف الذي يمر به الشخص.

علامات الإيجابية السامة:

فيما يأتي أبرز العلامات التي تشير إلى أنَّ الإيجابية لديك تحوَّلت إلى إيجابية سامة:

  1. تبقى الإيجابية إيجابيةً إلى أن تجعلك تُنكِر أو تستخف بالمشاعر الإنسانية الفطرية من حزن وقلق وخوف وغيرها، والشعور بالعار وتأنيب الضمير حيالها، والاستهانة بالموقف وشدته مهما كان، حينها تتحول إيجابيتك إلى إيجابية سامة.
  2. إخفاء المشاعر الحقيقية التي تشعر بها في لحظة ما، وارتداء قناع مزيف أمام الآخرين.
  3. إحساسك بالخجل من المشاعر السلبية كالحزن أو الغضب.
  4. تظاهرك بأنَّ الأمور على ما يرام في الوقت الذي تكون بخلاف ذلك.
  5. استخدامك الكلمات الإيجابية التحفيزية المبالغ بها في غير مكانها.
  6. الاستخفاف بظروف ومشاعر الآخرين والاستهزاء بها.
  7. محاولتك الهروب وتجاهل المشكلات بدلاً من حلها.

أمثلة وعبارات عن الإيجابية السامة:

عندما تمر بظرف صعب، مثل فقدان وظيفتك أو خسارة ثروتك، يأتي من يقول لك وأنت في قلب الحدث: "انظر إلى الجانب المشرق، ولا تنسَ أنَّ لديك أناساً لا يجدون ما يأكلون، أو ثمة من يعيشون بلا مأوى"، وهذا يجعلك تكبت ما تشعر به وتبتسم ابتسامة مزيفة، وتشعر بالخزي من أنَّك عبَّرت عما بداخلك، فهنا قام هذا الشخص ببث إيجابية سامة إليك لأنَّك بحاجة إلى من يتضامن معك ويُصادق على ما تشعر به، وليس الاستخفاف بما تعرضت له.

أو عندما تكون في ظرف قاهر مثل "فقدان عزيز، أو الانفصال عن شريك"، يأتي أحدهم ويقول لك "السعادة قرار" مُستنكراً كل مشاعرك وحزنك المبرر والطبيعي، ويُحمِّلك مسؤولية ما تشعر به من مشاعر سلبية بأنَّك لم تختر أن تكون "سعيداً".

هذه مجموعة من العبارات التي قد يقولها الآخرون لك بقصد تحسين النفسية ورفع الإيجابية لديك، ولكنَّها غالباً ما تكون ذات تأثير مناقض لذلك فيك؛ لأنَّها تجعلك تكبت مشاعرك وتضطر إلى التظاهر بالإيجابية:

  • "كان يمكن للأمور أن تكون أسوأ بكثير".
  • "كل شيء يحدث لسبب ما".
  • "السعادة خيار".
  • "الفشل غير مسموح".
  • "انظر إلى الجانب المشرق".
  • "سيكون كل شيء على ما يرام".
  • "ما لا يقتلك، يجعلك أقوى".
  • "فقط ابقَ إيجابياً".
  • "لا تكن سلبياً".
  • "يوجد أشخاص حالهم أسوأ منك".

شاهد بالفديو: كيفية اكتساب الطاقة الإيجابية وأهم مصادرها

كيف تضر الإيجابية السامة بصحتك النفسية؟

تضر الإيجابية السامة بصحتك النفسية والجسدية من خلال:

1. الضغوطات النفسية:

ينتج عن محاولاتك للبقاء إيجابياً طوال الوقت وكبتك وتجاهلك لمشاعرك السلبية وعدم تفريغها، إصابتك بالضغوطات النفسية والاكتئاب ونوبات الغضب الهيستيرية والانفجار عند أبسط المواقف؛ وذلك لأنَّ تجاهل المشاعر السلبية لا يعني أنَّها غير موجودة أو لن تترك أثراً فيك، فكما تقول الطبيبة النفسية "غياني ديسلفا" في مجلة الصحة: "إيجابية مزيفة تؤدي إلى معاناة لا حاجة إليها، وسوء فهم للحياة".

كما أوضحت إحدى الدراسات التي عُرٍضَ فيها أفلام الإجراءات الطبية المزعجة على مجموعتين من الأشخاص، وطُلِب من إحدى المجموعتين التعبير عن مشاعرها خلال المشاهدة، بينما طُلِب من المجموعة الثانية عدم التعبير وكبت مشاعرها، والنتيجة أنَّ المجموعة الثانية كانت أسوأ نفسياً من المجموعة الأولى التي عبَّرت عن مشاعرها.

2. الشعور بالذنب:

تجعلك الإيجابية السامة تشعر بالذنب حيال المشاعر السلبية التي تشعر بها عندما يحدث معك ظرف أو موقف قاسٍ وتلوم نفسك عليه.

3. العزلة الاجتماعية:

يحتاج الآخرون إلى الدعم النفسي والإحساس بأنَّك تشعر بمعاناتهم، أما استنكارك لمشاعرهم ومعاناتهم عند تعرُّضهم لمشكلات وظروف قاسية والتعامل معها على أنَّها أمور بسيطة لا تستحق، فيجعلهم ينفرون منك ويشعرون بصعوبة في التواصل معك، كما أنَّك تحرم نفسك من الدعم الذي تحتاجه أنت منهم في الأوقات الصعبة.

4. قرارات خاطئة:

تؤثر الإيجابية السامة في نظرتك أو تقييمك للمواقف التي تمر بها، والتي أحياناً تحتاج إلى اتخاذ قرار حاسم، ولكنَّ الإيجابية المفرطة تجعلك تتهاون مع الأمر وتفقد القدرة على تقييم المخاطر والتهديدات المحتملة، ومن ثمَّ لا تتخذ القرار الصحيح.

5. الحد من الإدراك:

تزيد التجارب القاسية والمواقف الصعبة من خبرتنا وإدراكنا للحياة، لكن تحرمك الإيجابية السامة من فرصة مواجهة هذه المشاعر التي تُوسِّع إدراكك وبصيرتك.

6. تبلد التفكير والمشاعر:

يؤدي تجاهل المشاعر السلبية وتثبيطها واصطناع الحالة الإيجابية طوال الوقت إلى تبلد التفكير والمشاعر في اتجاه واحد، وهذا ما نراه في فيلم (Inside Out)؛ فالبطلة كلما أرادت أن تحزن قامت بجلب الذكريات المبهجة لتتجنب هذا الشعور السلبي، فلا تحزن ولا تغضب ولا تخاف، وتبقى في حالة سعادة وإيجابية دائمة، فكانت النتيجة أنَّها صارت فتاة باهتة وكأنَّها تمثال.

7. صراع داخلي:

تُدخلك الإيجابية السلبية في صراع داخلي مع نفسك؛ وذلك لأنَّك تُعاند مشاعرك وتحاول قمعها وتتظاهر بالسعادة وأنت لست كذلك، وهذا ما أشار إليه "مارك مانسون" مؤلف كتاب "فن اللامبالاة" بأنَّ أيَّة محاولة للهروب وتجنُّب السلبية تتسبب بنتائج عكسية، فتجنُّب المعاناة هو شكل من أشكال المعاناة.

إقرأ أيضاً: كيف تحصل على السعادة والسلام الداخلي

كيف تتجنب الإيجابية السامة؟

فيما يأتي أهم النصائح التي تساعدك على تجنب الإيجابية السامة:

1. اعترف بمشاعرك السلبية:

عليك الاعتراف بمشاعرك الخاصة مهما كانت سلبية وتقبُّلها؛ وذلك لأنَّ إنكارها وتجاهلها يجعلها تعود إلى السطح من جديد وبشكل أكثر إيلاماً، وقد يسبب الكبت مشكلات صحية جسدية لديك، مثل ارتفاع ضغط الدم وجلطات القلب الفجائية وأوجاع الظهر والعضلات وغيرها من الأمراض.

لذا فالاعتراف بالمشاعر السلبية يحررك منها، فلا ضير بأن تشعر بالحزن أو الغضب أو الإحباط، يقول "بول وونغ" عالم نفس وأستاذ فخري بجامعة "ترينت" في مقاطعة "أونتاريو" الكندية: "لا بأس أن تشعر بالوحدة، ولا بأس أن تكون لست بخير، ولا بأس أن تشعر بالقلق".

2. تعاطف:

التعاطف مع الآخرين وتفهُّم مشاعرهم وآلامهم وأحزانهم من الطرائق التي تحميهم من الإيجابية السامة؛ لذا تجنَّب أن تُلقي عليهم خطابات التحفيز المبالغ بها وسرد الاقتراحات والنظريات وهم في أسوأ ظروفهم، وكأنَّك الأكثر حكمة وخبرة؛ بل يُفضَّل وضع نفسك مكانهم وإشعارهم بأنَّك متضامن معهم وإلقاء عليهم جمل بسيطة، من قبيل "أعلم كم الأمر صعب عليك"، "ليس بالسهل ما تمر به"، "أنا معك، وستجدني إلى جانبك دوماً"، "أنا أستمع لك وأشعر بمشاعرك"، "مشاعرك صحيحة، فلا يجب تجاهلها".

3. اختر الوقت المناسب:

تتحول الإيجابية إلى إيجابية سلبية عندما تكون في وقت غير مناسب، فمثلاً عندما تفقد عملك رغماً عنك، لا ضير من الشعور ببعض الحزن أو الإحباط، ولا تُجبِر نفسك على التفاؤل وعدم التأثر لحظة حدوث الأمر، ثم فيما بعد يمكنك البدء ببناء نفسك وتحفيزها، وحينها تكون الإيجابية حقيقية وغير سامة.

4. كن واقعياً:

كن واقعياً في تقييم الظروف أو المواقف التي تختبرها، فمثلاً موقف فقدان شخص عزيز عليك، لا يمكن إلا أن تشعر بالحزن وتبكي، ومن غير الطبيعي أن تكون إيجابياً في موقف كهذا، ويؤكد "بريت فورد" الأستاذ المساعد في علم النفس بجامعة "تورنتو": "إنَّ الأشخاص الذين يقبلون المشاعر السلبية دون الحكم عليها أو محاولة تغييرها قادرون على التعامل مع ضغوطاتهم بنجاح أكبر".

شاهد بالفديو: كيف تضع حداً للأفكار السلبية؟

5. لا تُصدِّق وسائل التواصل الاجتماعي:

كثيراً ما ينشر الناس كلاماً إيجابياً مبالغاً فيه على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يعرضون إلا الجانب الإيجابي والسعيد من شخصياتهم وحياتهم، وهذا قد يعزز لديك إيجابية سامة، وتقمع أي شعور سلبي ينتابك لكي تصبح مثلهم.

6. اكتب يومياتك:

إحدى الوسائل المساعدة على تفريغ المشاعر السلبية هي كتابتها وتفريغها على الورق، بدلاً من كتمها وإبقائها تنهش بك من الداخل.

إقرأ أيضاً: كيف تبدأ كتابة اليوميات لتزيد من نجاحاتك في الحياة؟

في الختام، كن صادقاً مع نفسك:

لا تحمل شعار "كن إيجابياً طوال الوقت"؛ لأنَّك بذلك تظلم نفسك وتُحمِّلها فوق طاقتها، فلا ترغم نفسك على كبت مشاعرك وكن صادقاً مع نفسك وعِش مشاعرك كما هي ولا تتجاهلها وعِش حزنك وخوفك وألمك، لكن مع الانتباه لئلا تتركها تسيطر عليك إلى الأبد.

فالحياة عبارة عن تجارب نجاح وفشل ومحطات حزن وفرح، والمشاعر هي ردود فعل يجب إعطاؤها مساحة معينة لتخرج من داخلنا، وعدم دفنها خلف قناع الإيجابية المزيفة، ولا يمكن الحصول على السعادة الحقيقية من قمع المشاعر السلبية؛ بل من تقبلها والتصالح معها وتجاوزها.

نختم بما تقوله "جيني ماينبا" اختصاصية اجتماعية وصاحبة كتاب (Forward in Heels): "إنَّ ضوء الشمس هو أفضل مُطهِّر؛ وهذا يعني أنَّه عندما نُسلِّط الضوء على الأشياء المخيفة سواء كانت ذكريات أم عواطف أم مخاوف بشأن المستقبل، يمكننا فحصها وإخراج جزء من القوة التي تُمكِّنها من التأثير فينا".

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة