في الواقع إنَّ التعاطف مع الآخرين هو بمثابة عملةٍ ثمينة. فهو يتيح لنا بناء روابط الثقة، ويعطينا فكرةً عمَّا قد يشعر به الآخرون أو ما يفكروا فيه، ويساعدنا على فهم طريقة تجاوب الآخرين مع المواقف التي تواجههم وسبب هذا التجاوب، ويعزز فطنتنا في التعامل مع الأشخاص، ويؤثر في قراراتنا. من بين أحد التعاريف الرسمة للتعاطف مع الآخرين هو أنَّه القدرة على تحديد ظروف الآخرين، ومشاعرهم، ودوافعهم وفهمها، إنَّه قدرتنا على مراعاة اهتمامات الآخرين. إنَّ التعاطف مع الآخرين يعني: "وضع نفسك مكان شخصٍ آخر"، أو "رؤية الأشياء بعين شخصٍ آخر". ثمة العديد من الدراسات التي تربط التعاطف مع الآخرين مع نتائج العمل. من بين هذه الدراسات دراساتٌ تربط التعاطف مع الآخرين مع ارتفاع نسبة المبيعات، ومع أداء مديري فِرَق تطوير المنتج الناجحين، ومع تحسُّن الأداء ضمن القوة العاملة التي يزداد فيها التنوع يوماً بعد يوم.
شيئاً فشيئاً يطغى موضوع التعاطف مع الآخرين على عالم الأعمال. حتى أنَّنا أصحبنا نرى الآن مصطلحاتٍ مثل "التسويق التعاطفي" و"البيع التعاطفي". ومنذ مدةٍ غير بعيد رأيت مصطلح "تعاطف المستخدم" في إشارة إلى واجهة المستخدم. بالإضافة إلى ذلك يتوقع "دانييل بينك" في كتابه "عقلٌ جديدٌ كليَّاً: الانتقال من عصر المعلومات إلى عصر المفاهيم" (A Whole New Mind: Moving from the Information Age to the Conceptual Age) أنَّ القوة ستصبح بين يدي أولئك الذين يمتلكون صفاتٍ مرتبطة بالقسم اليميني من أدمغتهم (صفات التواصل الشخصي). حيث يشير "بينك" إلى ثلاث قوى تُعدُّ هي السبب في هذا التغيير وهي: الوفرة، وآسيا، والأتمتة. حيث تشير "الوفرة" إلى تزايد الطلب على المنتجات أو الخدمات الممتعة من الناحية الجمالية، وتشير "آسيا" إلى تنامي التوجه نحو الاستعانة بمصادر خارجية، أمَّا مصطلح "الأتمتة" فيشرح نفسه بنفسه. فلكي تنافس في أسواقٍ اقتصاديةٍ جديدة يقترح "بينك" ستة مجالات تُعدُّ أساسيةً في نجاحنا. أحد هذه المجالات هو التعاطف مع الآخرين، أي القدرة على تخيُّل نفسك مكان شخصٍ آخر، وتخيل ما يمكن أن يشعر به، وفهم ما يحفز الأشخاص، وتأسيس العلاقات، والاهتمام بالآخرين. تُعدُّ الاستعانة بمصادر خارجية أو أتمتة جميع هذه الأمور التي ذكرناها أمراً صعباً ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ أهميتها في العمل تتزايد يوماً بعد يوم. كما يكتسب التعاطف مع الآخرين أيضاً أهميةً خاصة بالنسبة إلى تطور القيادة في هذا العصر الذي يتميز العاملون فيه بأنَّهم شبابٌ مستقلون، ومرنون، ويتمتعون بإمكاناتٍ عالية. ففي مقالةٍ مشهورةٍ له نشرها في مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" (Harvard Business Review) تحت عنوان "ما الذي يجعل من القائد قائداً" (What Makes a Leader?) توصَّل الدكتور "دانييل جولمان" (Daniel Goleman) إلى ثلاثة أسباب تفسر أهمية التعاطف مع الآخرين وهي: استخدام الفرق بشكلٍ متزايد (وهو ما يشير إليه باسم "قِدْر العواطف المتأججة")، والوتيرة المتسارعة للعولمة (وذلك لأنَّ التواصل العابر للثقافات يمكن أن يؤدي بسهولةٍ إلى حدوث سوء التفاهم)، والحاجة المتنامية للاحتفاظ بالمواهب. حيث يقول "جولمان": "إنَّ القادة الذين يضعون أنفسهم مكان الآخرين يقومون بأكثر من مجرد التعاطف معهم، فهم يستخدمون المعرفة التي لديهم لتحسين شركاتهم بطرقٌ خفية ولكنَّها مهمة". هذا لا يعني أنَّهم يتفقون مع وجهات نظر الجميع أو أنَّهم يحاولون إرضاء الجميع. ولكنَّهم "يراعون بشكلٍ مدروس مشاعر الموظفين إلى جانب عوامل أخرى عند عملية اتخاذ قرارات ذكية".
وعليه فإنَّ التعاطف مع الآخرين هو إحدى القدرات التي تستحق الصقل. إنَّه أداةٌ بسيطة ومجردة في بعض الأحيان من ضمن الأدوات التي يمتلكها القائد والتي تؤدي إلى الحصول على نتائج حقيقية وملموسة. ولكن من أين يأتي التعاطف مع الآخرين؟ هل هو عمليةٌ ذهنية أم عاطفية؟ أعتقد من وجهة نظري أنَّها عملية ذهنية وعملية عاطفية في آنٍ واحد. فنحن نحتاج إلى قدرتنا على التفكير بشكلٍ منطقي لفهم أفكار الآخرين، ومشاعرهم، وردود أفعالهم، واهتماماتهم، ودوافعهم. هذا يعني بذل جهدٍ حقيقي للتوقف لحظةً من الزمن والتفكير في وجهة نظر الشخص الآخر وذلك للبدء في فهم من أين تأتي وجهة النظر هذه. ومن ثم َّ فإنَّنا في حاجةٍ إلى القدرة العاطفية للعناية باهتمامات هذا الشخص. لا تعني العناية أن نتفق مع الشخص بشكلٍ دائم وأن نغير مواقفنا، ولكنَّه يعني أن نتفهم ما يعانيه هذا الشخص بحيث نتمكن من التجاوب بأسلوبٍ يراعي أفكاره، وعواطفه، واهتماماته. إذاً فهذا يقودني إلى سؤالٍ يُطرح عليَّ في بعض الأحيان: "هل يمكنك أن تعلم شخصاً ما كيف يكون متعاطفاً مع الآخرين؟". نعرف جميعاً بعض الأشخاص الذين يتعاطفون مع الآخرين بشكلٍ طبيعيٍّ ودائم. هؤلاء هم الأشخاص الذين يمكنهم أن يؤسسوا علاقاتٍ إيجابيةً مع الآخرين بكل سهولة. إنَّهم الأشخاص الذين يستخدمون التعاطف مع الآخرين لتوليد الثقة وبناء الروابط، إنَّهم أشخاصٌ مُحفِّزون لديهم القدرة على بناء علاقات إيجابية لتحقيق مزيدٍ من الفائدة. ولكن حتى لو لم يكن التعاطف مع الآخرين صفةً طبيعية لدى بعضنا إلَّا أنَّني أعتقد جازماً أنَّه يمكننا تطوير هذه القدرة.
إليك بعض النصائح العملية التي يمكن أن تساعدك على القيام بذلك:
1- استمع:
استمع إلى الأشخاص بصدق. استمع بأذنيك، وعينيك، وقلبك. انتبه إلى لغة الجسد لدى الآخرين، وإلى نبرات أصواتهم، وإلى العواطف الكامنة وراء ما يقولونه لك، وإلى سياق الكلام.
اقرأ أيضاً: فن الاستماع: 8 خطوات بسيطة تجعل منك مُستمعاً بارعاً
2- لا تقاطع الآخرين:
لا تتجاهل اهتماماتهم. لا تسارع إلى تقديم النصيحة. لا تغير الموضوع. اعطِ المجال للآخرين.
3- انتبه إلى التواصل غير اللفظي:
فالتواصل غير اللفظي في أغلب الأحيان هو الطريقة التي يعبِّر الأشخاص من خلالها عما يفكرون فيه أو يشعرون به، حتى وإن كان ما ينطقون به يعبِّر عن شيءٍ مختلفٍ تماماً.
4- جرِّب قاعدة 93%:
فقد توصَّلت دراسةٌ مشهورة أجراها الأستاذ الفخري في جامعة كاليفورنيا "ألبرت ميهرابيان" (Albert Mehrabian) إلى أنَّه عند التعبير عن مشاعرنا ومواقفنا فإنَّ الكلمات – أي الاشياء التي نقولها – تشكل ما نسبته 7% فقط من مجمل الرسائل التي يتلقاها الأشخاص الذين نتواصل معهم. أمَّا الـ 93% من الرسائل المتبقية والتي نرسلها في أثناء حديثنا فهي موجودة في نبرات أصواتنا ولغات أجسادنا. من المهم إذاً أن نقضي بعض الوقت لفهم كيف نعبِّر عن أفكارنا بشكلٍ مفهوم عندما نتحدث مع الآخرين عن مشاعرنا ومواقفنا.
5- استخدم أسماء الأشخاص:
تذكر أيضاً أسماء زوجاتهم وأطفالهم بحيث يمكنك أن تذكرهم بالاسم.
6- كن حاضراً بشكلٍ كامل عندما تكون مع الآخرين:
عندما يأتي أحد الموظفين إلى مكتبك لا تتفقد بريدك الإلكتروني، ولا تنظر إلى ساعتك، ولا تجرِ مكالماتٍ هاتفية. ضع نفسك مكانه. ما الذي ستشعر به لو أنَّ مديرك قام بذلك؟
7- ابتسم في وجوه الآخرين.
8- شجع الأشخاص:
ولا سيما الخجولين، عندما يتحدثون في الاجتماعات. فحركةٌ بسيطة كإيماءةٍ تُعبِّر عن الاهتمام يمكن أن تعزز الثقة لدى الآخرين.
9- عبِّر عن تقديرك وثناءك:
أعر انتباهك لما يقوم به الآخرون، ووجههم ليقوموا بما هو مناسب. عندما تعبر عن ثناءك على أحدٍ ما ابذل القليل من الجهد لتجعل كلماتك صادقةً ومحفورةً في الذهن: "إنَّك ذو قيمةٍ كبيرة بالنسبة للفريق لأنَّك..."-"لقد كان ذلك في غاية الذكاء"-"لو لم تنتبه إلى هذا الشيء لكان فاتني تذكُّره".
10- أبدِ اهتمامك بالحياة الشخصية للآخرين:
أظهر للآخرين بأنَّك مهتمٌ بأخبارهم وبأن لديك الفضول لمعرفتها. اسألهم عن هواياتهم، وتحدياتهم، وعائلاتهم، وتطلعاتهم.
يُعدُّ التعاطف مع الآخرين إحدى القدرات العاطفية والذهنية التي تصبح أقوى كلما استخدمناها. جرِّب بعض هذه الاقتراحات وراقب ردود أفعال الأشخاص الذين تعمل معهم. أعتقد أنَّك ستلاحظ بعض النتائج الإيجابية.
لقد سمعت منذ عدة سنوات مقولةً في هذا السياق: إنَّ مقياس قوة الشخص هو في كيفية تعامله مع الأشخاص الذين لا يشكلون له أي فائدة. فالتعاطف مع الآخرين لا يجب أن يكون انتقائياً، بل يجب أن يكون عادةً يومية. لو كنت سأضع ملصقاً لكتبت عليه: "التعاطف مع الآخرين: لا تغادر منزلك من دونه".
المصدر: هنا
أضف تعليقاً