الإبداع في زمن الكورونا

هل يمكن أن يكون تفشِّي الأوبئة والأمراض انعطافةً جميلةً تستفزُّ روح الخيال والإبداع، وتقود النفس البشرية إلى منابع إلهام جديدة؟



إنَّها أوقاتٌ مروعةٌ وعصيبة. وبالرغم من قسوة الأحداث فإنَّ التصالح مع الأوضاع الراهنة، وبناء جسورٍ من الأمل، ومحاولة ابتكار شيءٍ ما؛ غالباً ما يُعدُّ سمةً مميَّزةً للشخصية الإبداعية. ولكن في ظلِّ هذا الخوف والتداعيات المتسارعة التي تحدِّق في العالم، فإنَّ الضغوط النفسية كفيلةٌ بثني حتَّى أكثر الناس تكيُّفاً.

لا بدّ أنّك واحدٌ من الكثيرين الذين يبحثون عن الجانب المضيء في رحم الأزمات.

إنَّ أبرز ما يمكن أن نشهده في هذه المرحلة هو زيادة الإبداع اليومي، وهو بالطبع ميزةٌ لا تشمل الجميع، فليس لدى العمَّال الشجعان في الخط الأمامي -من الأطباء إلى الأشخاص المسؤولين عن سلاسل الإمداد- الوقت الكافي لذلك. وحتَّى أنَّ الأشخاص المهددين بفقدان وظائفهم أو ضياعها، يركِّزون فقط على تأمين الاحتياجات اليومية والضروريات؛ في حين أنَّ العديد من الذين يعملون من المنزل دون أيِّ تنقُّلاتٍ أو اجتماعاتٍ شخصية، يجدون لأنفسهم متسعاً من الوقت للقيام بأنشطةٍ متعددة.

من المرجَّح أنَّ أيَّ شخصٍ يقضي وقتاً بتصفِّح وسائل التواصل الاجتماعي، قد لاحظ اختفاء المنشورات التي تُحدِث صخباً سياسياً أو تثير الذعر والهلع في النفوس، وحلَّ مكانها ما يُحيي الأمل ويشيع البهجة في النفوس من منشوراتٍ مثيرةٍ وممتعةٍ عن أحدث الأعمال اليدوية وفنون الطبخ، وحتَّى التعليقات الساخرة والمضحكة.

يجد بعض الآباء الذين لديهم أطفالٌ في سنِّ المدرسة صعوبةً في التأقلم مع الواقع الدراسي الجديد، ذلك أنَّ بعض الفصول الدراسية عبر الإنترنت أقصر بكثير من الفصول الفعلية، ناهيك عن عدم وجود أوقاتٍ للعب ودروس البيانو والمسابقات الدورية.

إقرأ أيضاً: إدارة جلسات التعليم عن بعد باستخدام برنامج زوم Zoom

في حين نجد أنَّ بعض الأُسر تقضي وقتاً ممتعاً في أثناء الحجر الصحي، ويشاركون أبناءهم بأنشطةٍ مميَّزةٍ ومسلية، مثل: حلِّ الألغاز وألعاب الطاولة، وأنشطةٍ أخرى أكثر إبداعاً؛ يمثِّل معظمها لحظاتٍ إبداعيةً صغيرة، ولكنَّها تعدُّ هامَّةً للترويح عن النفس في ظروفٍ كهذه.

قد لا تبدو بعض الأشياء البسيطة المبتكرة والقصص الشائعة على شبكة الإنترنت في الفترة الحالية، إبداعاً بالمعنى الحقيقي للكلمة. فلا نستطيع القول بأنَّ الصور العائلية التي تُؤخَذ بأسلوبٍ فنيٍّ شيق، أو النكات الهزلية، أو غناء بعض الأغاني التشاركية عبر منصة زوم (zoom)، تُعدُّ ذات قيمةٍ فنيةٍ عالية. ومع ذلك، من الهامِّ ألَّا ندع هذا التقويم يقلِّل من قيمتها.

مهما كان الإبداع بسيطاً، فإنَّنا لا نستطيع إيقافه أو التغاضي عنه، وليس من المفيد تقويم الأمور على أنَّها "إبداعية" أو "غير إبداعية". كما أنَّ عملية الإبداع تنتقل عبر عدة مراحل، وتتدرج من الإبداع البسيط إلى الإبدع المتقدِّم ومن ثمَّ إلى مرحلة الإشراق والإبداع الكبير.

وفقاً لنموذج (four-C) عن مستويات الإبداع، والذي طوَّره الدكتور "رون بيجيتو" (Ron Beghetto)، نجد أنَّ الإبداع يبدأ من "سي الصغيرة" (Mini-c) والمقصود بها المرحلة الشخصية، وهي اللحظات الإبداعية البسيطة التي تعبِّر عن الرؤية الشخصية للشخص المبدع، وقد لا تكون هامَّةً بالنسبة إلى الآخرين، وقد لا تُشارَك في بعض الحالات مع أيِّ شخصٍ آخر، لكنَّها لا تزال ذات قيمةٍ ومعنى.

تخيَّل أنَّك تقوم بتحضير بعض الجبن مع الخبز المحمَّص، وبسبب شعورك بالملل قرَّرت أن تضيف رشةً من القرفة عليها، وتستمتع بالمذاق الجديد. وفي اليوم التالي، تعاود التجربة نفسها.

هل كنت أوّل من فكَّر في هذه الإضافة؟ بالطبع لا.

على الرغم من أنَّنا نتَّفق بشكلٍ عامٍّ على أنَّ الإبداع يجب أن يكون جديداً ومفيداً في الوقت نفسه، إلَّا أنَّ الفعل الإبداعي يمكن أن يكون تجربةً جديدةً بالنسبة إليك أنت فقط، مثل: مشاهدة بعض الأفلام القديمة لأول مرة.

إذا كان لديك قدرةٌ عاليةٌ على التفكير الإبداعي، وتمتلك روح المبادرة للقيام بالأعمال التي تنطوي على تحديات؛ فإنَّ ذلك سيضمن استمرارك بخوض التجارب وتلقِّي ردود الأفعال التي من شأنها أن تطوِّر عملك.

وفي بعض الأحيان، قد تتحوَّل هوايتك البسيطة بالرسم الكاريكاتوري إلى المرحلة التي تصنع فيها الرسوم الكارتونية وتتمكَّن من مشاركتها عبر الإنترنت، وربَّما إطلاق قناتك الخاصَّة على اليوتيوب، والتي قد تحصل على أعلى نسب مشاهدة.

إقرأ أيضاً: 6 عقبات تقف في طريق التفكير الإبداعي

في عالم ما قبل التواصل الاجتماعي، من الممكن أن تكون قد شاركت الآخرين موهبتك بالعزف الموسيقي ضمن بعض المقاهي في مدينتك، أو عرضت رسوماتك وفنّك في المعارض القريبة من تواجدك، أو أنَّك جرَّبت أسلوبك الجديد في تعليم الرياضيات في القاعات المدرسية.

نطلق على هذه المرحلة: الإبداع القليل، (Little-C)، أو الإبداع اليومي.

يعتقد البعض أنَّ عملية الإبداع مشتَّتةٌ وعشوائيةٌ وتأتي كنتيجةٍ لإلهامٍ ما، ولكنَّك مع الوقت سوف تكتشف أنَّها عبارةٌ عن سلوكٍ وروتينٍ وعادةٍ منظَّمة. إذا أعطيت لنفسك الوقت الكافي للتركيز وتوليد الأفكار بصورةٍ منتظمة، يمكنك التقدُّم إلى مرحلة (Pro-C)، أو مستوى إبداع الخبراء، إذا تمكَّنت من نشر كتابٍ حول كيفية زراعة الكيوي، أو حصلت على منحةٍ علميةٍ لدراسة كيف يمكن لجسم عظم الفخذ أن يستجيب للتنبيهات، أو سجَّلت أول ألبومٍ رقميٍّ لموسيقى القيثارة.

قد تؤدِّي إسهاماتك هذه لأن تصبح مشهوراً، ليس فقط بين السكان المحليين الذين يقدِّرون جهودك، ولكن أيضاً بين الخبراء. من الهامِّ أن ندرك أنَّ هذا المسار يصف الإبداع المثالي، وليس الثوري الذي يقلب الموازين ويعدُّ تحدياً كبيراً. نجد في كثيرٍ من الأحيان، أنَّ مساهمات المبتكرين وإبداعاتهم التي أثْرَت العلم وقدَّمت للبشرية العديد من الإنجازات، قد استمرَّت لأجيالٍ وأجيال مخلدةً ذكراهم.

وتشمل الأمثلة قاماتٍ إبداعيةً وشخصياتٍ تاريخيةً مثل: "ويليام شكسبير"، و"ألبرت أينشتاين"، و"فولفجانج موزارت"، ولا ننسى أيضاً "فريدا كاهلو" (Frida Kahlo)، و"جورج واشنطن كارفر" (George Washington Carver)، و"جيروم كيرن" (Jerome Kern)، و"ستانلي ميلجرام" (Stanley Milgram).

قد لا تعرف جميع هذه الأسماء، ولكن من المؤكَّد أنَّك سمعت عن أعمالهم وإنجازاتهم.

يدعى هذا المستوى من الإبداع بالعبقرية، أو "الإبداع الكبير" (Big-C).

غالباً ما نقارن أيَّ نوعٍ من الإبداع، بهذا المستوى العبقري، فنقول: "هذا لحنٌ جيد، لكنَّه لا يقارن بلحن غيرشوين (Gershwin)"، أو "هذه لوحةٌ جميلة، لكنَّها ليست بجودة لوحات بيكاسو (Picasso)". إنَّه لتوجُّهٌ مؤسفٌ حقاً، فهناك العديد من الجوانب الإيجابية لعملية الإبداع، فهي تستثير القدرات الكامنة وتطوِّر المهارات، ومن المحتمل أن تؤدِّي هذه المعتقدات إلى إحباط الأشخاص المبدعين وثنيهم عن المُضي قُدُماً للخوض في أيِّ نشاطٍ إبداعي.

ومع ذلك، في زمن الكورونا هذا، انقلبت الموازين؛ إذ سيذهلك عدد الطلاب الذين يتحدَّثون عن إيجاد الوقت للعودة إلى الكتابة أو الطهي أو الرسم. نعم، فبالإضافة إلى قيامهم بواجباتهم الدراسية، فإنَّهم يمرُّون أيضاً بأوقاتٍ عصيبةٍ ومجهدة، بسبب تفشِّي الوباء وحالات الهلع والخوف المصاحبة لذلك. ولكن في مرحلة الحجر الصحي هذه، والتوقُّف عن الكثير من الأعمال والهوايات، وفرض مزيدٍ من القيود على ما يمكن القيام به وما لا يمكن فعله؛ تمكَّنوا من اختيار الطريقة المثلى لقضاء أوقاتهم، فاتجه الكثيرون نحو الإبداع، تماماً كما هو الحال مع الأشخاص من كافة الأعمار والتجمعات في جميع أنحاء العالم.

إنَّ الإبداع عالي المستوى الذي نشهده في الوقت الراهن، بالتزامن مع أوقات الحجر، ما هو إلَّا تجسيدٌ للإرادة الإنسانية في الحياة. فبالرغم من كلِّ الظروف القاهرة التي تحيط بنا، نجد من هو قادرٌ على زرع البسمة والأمل في النفوس الحائرة.

إقرأ أيضاً: هل يكون فيروس كورونا سبباً لموجة إبداعية جديدة؟

ألهمت هذه المحنة بعض الممثلين، والمغنين، والكوميديين المشهورين؛ لتوظيف جميع مواهبهم في أداء لوحاتٍ فنيةٍ جميلةٍ من منازلهم، محاولين بثَّ روح الأمل ورفع معنويات الناس. كما لجأ بعض المخترعين ورجال الأعمال المقتدرين إلى تحويل مصانعهم وأعمالهم لإنتاج مزيدٍ من الأقنعة الواقية، أو أجهزة التنفس الاصطناعي باستخدام موارد بسيطة. والأهمُّ من ذلك، يعمل كبار الأطباء والعلماء في جميع أنحاء العالم على أبحاثٍ واختباراتٍ لإيجاد لقاحاتٍ أو طرائق علاجيةٍ للمرض.

لذلك، أطلق العنان لمخيلتك، ولا تدع هاجس الخوف من مقارنتك بالنجوم المشهورين يخنق إبداعك. أنت لست مطالباً بإيجاد علاجٍ للمرض الحالي أو تسلية الملايين من متابعيك، فقط ابحث عمَّا يضيف قيمةً إلى حياتك، ويُعزِّز تقديرك لذاتك.

يمكن أن تساعدك هذه الأنشطة الإبداعية في تقليل التوتر، والتعامل مع الصدمات، وتحسين مزاجك؛ والتي تعدُّ ضروريةً جداً في هذه المرحلة.

 

المصدر




مقالات مرتبطة