الآثار النفسية للحروب في الأطفال

يحفل التاريخ البشري بمختلف أنواع الحروب والصراعات والنزاعات، وتكاد لا توجد دولة في العالم إلا وقد عانت من ويلات الحرب، وظروفها الصعبة، وآثارها الكارثية في كلِّ المجالات، وفي جميع الأصعدة من بيئة وعمران وبُنى تحتية واقتصاد وغيرها، ولا تتوقف آثار الحرب هنا؛ بل تمتدُّ لتطال السكان وتصل إلى نفوسهم وأجسادهم وأرواحهم، فتترك جروحاً وآلاماً وذكرياتٍ سيئةً ترافقهم مدى الحياة، وطبعاً، سيكون هذا الأثر أكبر وأخطر في نفوس الأطفال الصغار وقلوبهم الضعيفة، فما هي إذاً هذه الآثار، وكيف يمكن التعامل معها للتخفيف من وطأتها؟



الآثار النفسية للحروب لدى الأطفال:

الحرب هي نزاع مسلح بين طرفين أو أطراف عدَّة، تنشأ بين الدول أو بين جماعات ضمن الدولة الواحدة، إذن، هي اعتداء مسلَّح ينتهي عندما يستسلم أحد الطرفين، أو عندما تنفذ ذخيرته أو يخسر عتاده وجيشه.

يعيش الأطفال بسبب الحروب ظروفاً أقل ما يقال عنها بأنَّها قاسية وصعبة، فالتجارب التي يمرون بها في هذه الفترة من حياتهم، تفوق بدرجاتٍ كبيرةٍ قدرة الطفل الصغير على الاحتمال، فالحروب التي تُلحِق الدمار والخراب بكل شيء حولها، لن يكون الأطفال إلا وقودها وأول ضحاياها، ثم إنَّ الأذى الذي سيصيبهم من جرَّائها سيرافقهم طوال حياتهم.

وفي حين أنَّ الأذى الجسدي يُلاحظ غالباً بشكل أكبر، ويُعالَج مباشرة، غير أنَّه في حالة الأذى النفسي، والتي لا تقل خطراً عن الأذى الجسدي، نجد إهمالاً كبيراً، فقد أشارت إحصاءات الأمم المتحدة، إلى أنَّ هناك مليار طفل يعيشون في مناطق الحروب والصراعات، وأنَّ 300 مليون منهم دون سن الخامسة.

وقد أشار تقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى أنَّ 28 مليون طفل في عام 2013 كانوا خارج مدارسهم نتيجةً للحروب والصراعات في العالم، من هنا، كان الاهتمام بالصحة النفسية للأطفال في أثناء الحروب والنزاعات، يجب أن يأخذ الأولوية عند الجهات المعنية والجمعيات والمنظمات الدولية.

تختلف التجارب التي يعيشها الطفل في ظل الحرب، فقد تبدأ بمشاهدة الدمار المادي والمعنوي، وقد تصل الأمور إلى مرحلة الأذى الجسدي للطفل أو لأحد أفراد عائلته، وهذا ما يترك أثراً عميقاً في نفسه، وقد يفقد الطفل في بعض الحالات أحد أفراد أسرته أو أسرته بالكامل؛ ممَّا يجعله معرَّضاً أكثر للاستغلال، والاغتصاب، والاعتداءات المختلفة التي ستوغل آثارها في أعماقه، وتترك جروحاً نفسيةً لا تُشفى حتى مع مرور الوقت؛ إذ بعد أن تتوقف أصوات الحرب والدمار، ستعلو أصوات الآلام والذكريات التي لا تُنسى.

يُقسِّم علماء النفس التأثيرات النفسية للحرب في الطفل إلى قسمين:

  • تأثيرات الصدمة الآنية: وهي التأثيرات التي تظهر على الأطفال مباشرةً؛ بسبب معايشتهم ظروف الحرب القاسية والصعبة، ومن هذه التأثيرات، اضطرابات السلوك التي تظهر بأشكال مختلفة، كالخوف الدائم، والقلق، والعزلة، وعدم الرغبة في الحديث مع أحد، فضلاً عن التوتر والاضطراب ومشكلات النوم والتبول في الفراش، ويحدث كل هذا نتيجة شعور الطفل بأنَّه في حالة تهديد دائمة، وأنَّ الخطر محدق به من جميع الاتجاهات، ونتيجةً لفقدان الطفل الثقة بأهله وأسرته، وإحساسه بعجزهم وعدم قدرتهم على حمايته.
  • تأثيرات ما بعد الصدمة: الآثار النفسية المدمرة للحروب، والأحداث الدموية التي يعيشها الطفل في فترة الحرب، ستؤدي إلى مجموعة من الأمراض النفسية الخطيرة، والتي ستظهر على الأشخاص الذين عانوا من ظروف الحرب القاهرة في طفولتهم؛ حيث تُسمَّى هذه الاضطرابات باضطرابات ما بعد الصدمة.

ويشير تقرير لمنظمة الأمم المتحدة، أنَّ الأطفال الذين شاهدوا أحداثاً دموية وعاشوا في ظروف مأساوية، سيحتفظون بهذه الذكريات معهم عندما يكبرون، وسيعيشون في الكوابيس التي ستلاحقهم وتنغِّص حياتهم وتصبح جزءاً من أحداثهم اليومية

إقرأ أيضاً: التعامل الصحيح مع الطفل في مراحل العمر المختلفة

كما أشار التقرير إلى أنَّ النتائج الكارثية للحرب قد تصل إلى سير حياة الطفل، كموت أحد الوالدين، أو فقدان العائلة، أو تحطيم المدرسة، أو تهديم البيت، أو تدمير حيِّه بالكامل، أو وصول الأذى إليه وفقدانه أحد الأعضاء أو الحواس، فلا يتوقف الأذى على الأطفال الذين عاشوا الظروف مباشرة؛ بل يمتد ليصل إلى أطفال وصل إليهم العنف وصولاً غير مباشر، عن طريق مقاطع الفيديو أو ما سمعوه عن الأحداث المأساوية التي تجري من حولهم، ويمكن تلخيص الآثار الناتجة عن اضطرابات ما بعد الصدمة عند الأطفال بما يأتي:

  • انخفاض معدل التحصيل الدراسي.
  • العنف والعناد والعدوانية.
  • التمرُّد الكبير، فضلاً عن الانعزال وفقدان الرغبة في المشاركة أو التعاون.
  • الحزن والاكتئاب والمعاناة من الوحدة والألم والقلق والخوف؛ حيث أشارت إحصاءات اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أنَّ 22% من سكان مناطق الحروب مصابون بالاكتئاب

بعض المشكلات الناتجة عن الوضع النفسي السيئ للطفل:

لا يمكن أبداً فصل السلوك عن الحالة النفسية، ومن المؤكد أنَّ هذه الحالة النفسية السيئة للأطفال ستنعكس على سلوكاتهم، وتظهر في تصرفاتهم؛ حيث يضاف إلى ما ذكرناه من سلوكات آنفاً، قضم الأظافر، الغضب من دون سبب، القسوة والصراخ، فضلاً عن مشكلات معرفية مصاحبة، كالملل والإحساس بالعجز.

وقد تنعكس هذه السلوكات بمجملها على جسد الطفل، فيشعر بالتعب وفقدان الشهية، ناهيك عن المشكلات الاجتماعية؛ حيث تجده غير قادر على تكوين علاقات اجتماعية سليمة، كما لا يستطيع التعامل مع الغرباء والناس تعاملاً طبيعياً.

الاحتراق النفسي: يظهر هذا الاحتراق كما ذكر علماء النفس، وكما أشرنا سابقاً، من خلال الكوابيس التي تلازم أطفال الحروب حتى بعد انتهاء الحرب، إضافةً إلى الخوف الدائم من تكرار هذه التجارب وخوضها مرةً أخرى، مع عودة الذكريات السيئة باستمرار.

وقد تذهب الأمور أبعد من ذلك عند بعض الأطفال الأكثر حساسيةً، والذين تلقُّوا الصدمات الأعنف، فيعيشون حالة أشبه بالشلل، عالقين في الماضي، وأسرى لتلك اللحظات السيئة، كما يعاني أيضاً الأطفال بسبب هذا الاحتراق النفسي، من قلة الثقة بالنفس وبالآخرين، ويوصف الاحتراق النفسي بأنَّه من المتلازمات الشائعة جداً في مناطق الحروب والاضطرابات والأماكن التي ينتشر فيها العنف، ومن مظاهره؛ انتشار الجوع والفقر الذي يؤثِّر في نمو الأطفال وتطورهم، ومن ثمَّ في صحتهم النفسية والجسدية بسبب ضعف مناعتهم، ويضاف إلى ما سبق، زيادة عدد الوفيات عند الرضع والأطفال دون خمس سنوات؛ وذلك نتيجةً لانعدام ظروف الحياة الطبيعية.

شاهد بالفديو: 13 طريقة تساعد الأبوين على علاج الاكتئاب عند الأطفال

كيف نتعامل مع الأطفال في فترة الحرب وبعدها؟

يختلف التعامل مع الأطفال في أثناء الحرب، اختلافاً جذرياً عنه خارج ظروف الحرب، فما يمرُّ به الطفل في هذه الفترة ليس عادياً؛ لذا فمن الطبيعي أن يكون التصرف غير عادي أيضاً، وسنعرض فيما يلي بعض النصائح التي يجب على الأهل أخذها بالحسبان:

  • اسمح له بالحديث عن مخاوفه وأنصت له: هذه الظروف والتجارب والذكريات الصعبة والسيئة، سترافق الطفل مدى حياته، والتخلص منها في الحقيقة ليس بالأمر السهل؛ حيث إنَّ القول الشائع بأنَّ الزمن يشفي من الصدمات ليس دقيقاً بما فيه الكفاية، وخاصةً إذا ما تعلَّق الأمر بالأطفال؛ لذلك لا بدَّ من تقديم المساعدة لهم لتخليصهم من معاناتهم وآلامهم.
    ويكون ذلك بالاستماع إليهم، والسماح لهم بالكلام عن مخاوفهم، وذلك لمساعدتهم على التفريغ النفسي والانفعالي للمشاعر والأحاسيس المدفونة داخلهم؛ وحيث تجد أنَّ كثيراً من هؤلاء الأطفال عاجزون عن إجراء أي حوار لفظي مهما كان بسيطاً، وعاجزون أيضاً عن إطلاق العنان لكل ما يجري في داخلهم للتخلص منه؛ كان لا بدَّ للأهل والمختصين من اللجوء إلى استخدام بعض التقنيات والأدوات الهامة التي تساعد الطفل على التفريغ، مثل اللعب الحر، والرسم، وتمثيل الأدوار.
  • أشبِع حاجته إلى الشعور بالأمان: وذلك عبر محاولة إعادة شعور الأمان للطفل، هذا الشعور الذي فقده في ظل الظروف المأساوية التي يعيشها، فالشعور بالأمان من أكثر الحاجات الفيزيولوجية أهميةً للإنسان عموماً، وللطفل خصوصاً، ومن الضروري إشباع هذه الحاجة عند الطفل، وعدِّها حاجة أساسية مثل الطعام والشراب والنوم.
  • راقب ما يشاهده في التلفاز وعبر الإنترنت: يجب على الأهل أن يكونوا شديدي الحرص وصارمين فيما يتعلق بالتلفاز والإنترنت؛ حيث يجب عليهم فرض رقابة شديدة على كل ما يشاهده الطفل، ومنع وصول الصور العنيفة والدموية إليه، أو مقاطع الفيديو التي تحتوي مشاهد مؤلمة أو عنيفة.
    فقد أشارت الدراسات إلى أنَّ مشاهدة ما يُعرض من عنف على التلفاز، سيؤثر سلباً ومباشرة في طريقة تفكير الأطفال، ومن ثمَّ في سلوكاتهم وتصرفاتهم، كما تُحدث مشاهدة هذه المظاهر العنيفة تغييراً كيميائياً في أدمغتهم يشبه إلى حدٍّ كبير التغيير الذي يصيب الإنسان بعد الصدمة، إضافةً إلى حالة الصراع التي سيجد الطفل نفسه داخلها، فيعاني من صعوبةٍ في التفريق بين الخير والشر، وبين ما هو مسموح وما هو ممنوع ومرفوض.
    يزداد خوف الطفل وتوتره وقلقه واضطرابه، عند مشاهدته المستمرة لمشاهد العنف، وقد يتعرَّض بعض الأطفال نتيجةً لذلك إلى "اضطراب الكرب التالي للرضح" (PTSP)؛ وهذا يعني أنَّ على الأهل التعامل تعاملاً جديٍّاً مع الموضوع، ووضع قوانين صارمة لمواعيد مشاهدة التلفاز والقنوات والبرامج التي يمكنهم مشاهدتها.
  • تقبَّل رد فعله تجاه ما يحدث: يجب على الأهل تقبُّل رد فعل أبنائهم تجاه ما يحدث، ومحاولة تأمين جوٍّ بعيد قدر المستطاع عن كل ما يحدث، وتوفير بيئة صحية لهم، مع التأكيد الدائم لهم على قدرة الإنسان على التأقلم مع الظروف السيئة وتجازوها، وأنَّ ما يحدث، مهما كان قاسياً، لن يستمر إلى الأبد.
    يجب على الأهل محاولة دمج أطفالهم بنشاطات ترفيهية، وحثهم على القيام بأشياء يحبونها لو ضمن المنزل، كما يجب إعادتهم إلى الجو التعليمي مباشرةً عندما تسنح الفرصة، ليشغلوا بالهم بوظائفهم ودراستهم، ويبتعدوا عن التفكير المستمر فيما يحدث.

وأخيراً والأهم، على الأهل ترك باب الحب مفتوحاً دائماً؛ إذ إنَّ أي نصيحة سابقة، لن تفي بالغرض إن كانت ناقصة الحب، فالحب هو الطريقة الوحيدة التي ستُشعِر طفلك بالقليل من الأمان، وتساعده على تقبُّل ما يحدث، فالكثير من الأحضان والعناقات، ستلعب دوراً كبيراً في تحسُّن نفسية الطفل وتخفيف الضغط والتوتر عنه.

من الجدير بالذكر، أنَّه من الضروري محاولة التواصل مع الأطباء أو المعالجين النفسيين والجمعيات والمنظمات، غير أنَّه في حالة الحروب، قد يكون من الصعب جداً تحقيق ذلك؛ لذا يجب على البالغين لعب هذا الدور، وهذا يتطلب منهم كثيراً من الاهتمام والبحث، لتكون المساعدة التي يقدمونها مفيدة ومجدية.

في الختام:

اليونيسف: "لقد فشل العالم في حماية الأطفال في النزاعات عام 2018".

هذه العبارة تشير إشارةً واضحةً إلى عدم جدية تعامل المنظمات الدولية والدول الكبرى، مع الانتهاكات التي يتعرَّض لها الأطفال في أثناء الحروب والنزاعات، فالكثير الكثير من الإجراءات التي يجب أن تُتخذ لمنع ما يحدث، وتجنيب الأطفال الآثار الكارثية عليهم، أو التخفيف منها على الأقل.

كما على الأطراف والدول المتحاربة أن تُجبَر على تحمُّل مسؤولية حماية الأطفال، وتقديم الرعاية لهم؛ حيث يجب أن تحتل الصحة النفسية للأطفال، الأولوية لدى المنظمات والجمعيات الدولية، وعليها أن تقوم بإرسال الفِرق الطبية إلى مناطق النزاع ومخيمات اللاجئين والنازحين، لتقديم كل مساعدة ممكنة، فما يحدث بحق الأطفال هو جريمة بحق الإنسانية جمعاء.

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6




مقالات مرتبطة