اضطراب الهوية الجنسية عند الأطفال: تعريفه، وأسبابه، وطرائق علاجه

يعيشون بيننا تائهي الهوية الجنسية، ومدمَّري الداخل، ومهزوزي الثقة بأنفسهم وبمن حولهم، وفاقدي الأمان، ومفلسي الأحلام والآمال، ومضطربي الانتماء، ومُشوَّهي الاعتبار والاحترام؛ فبينما يُنظَر إلى الإنسان على أنَّه مكرَّم أحسن تكريم، يُنظَر إليهم نظرات دونية وساخرة.



يرغبون في البوح والتعبير عمَّا يدور في أنفسهم من مشاعر لا يملكون السيطرة عليها، إلَّا أنَّهم لا يجدون مَن يتقبل بوحهم ذاك برحابة صدر واحترام؛ إذ يُصرِّح جسدهم خلافَ ما تبديه مشاعرهم، فكيف لذلك الرجل أن يحتكم إلى لحيته الطويلة وعضلاته المفتولة وصوته الأجش، ويتجاهل تلك المشاعر الداخلية التي تؤكِّد له مع كل نفس يتنفسه أنَّه "امرأة"؟ وكيف لتلك الأنثى أن تُصدِّق أنوثتها الخارجية وتضاريس جسدها الجميل وصوتها الأنثوي الرقيق، وتتجاهل ذلك الإحساس القوي المزروع فيها منذ الصغر بأنَّها "رجل"، وتتجاهل رغبتها في عيش حياة رجل؟

نعم، هم أشخاص تائهون بين محاولات فاشلة لتقبل وضعهم والرضوخ والتسليم إلى ما تُصرِّح به مقوماتهم الجسدية الظاهرية، وبين تلك الأصوات الداخلية الحقيقية والمشاعر المنادية بضرورة تحويل هويتهم الجنسية؛ ذلك لأنَّهم حقاً يشعرون باضطراب فيها؛ فهم يعانون من تغيرات جينية خَلقيَّة أو اضطرابات هرمونية شديدة أو تربية قاصرة غير واعية وغير متزنة.

يتخبَّطون بين مشاعرهم المشروعة التي لا يملكون أي سلطان عليها، وصورتهم الخارجية الظاهرة، والمبادئ والقيم التي آمنوا بها، والضمير الصاحي الذي يعتمل في داخلهم، والأخلاق التي يتسمون بها، وثقافة المجتمع التي تُطاردهم وتصفهم بأبشع الألفاظ والتعبيرات؛ ويبقون هكذا إلى أن يتحولوا إلى أشخاص شاذين منعدمي الأخلاق، ويتمردوا على المعاملة القاسية من المجتمع، وينتقموا من أنفسهم ويحاسبوها على قضية لا ذنب لهم فيها.

ما هو اضطراب الهوية الجنسية؟

يبدأ الطفل الطبيعي في عمر السنتين التعرُّف على جنسه وتمييزه، فتفضل الأنثى اللعب مع قريناتها الإناث على اللعب مع أقرانها الذكور، وتنحازَ إلى الألعاب اللطيفة؛ بينما ينحاز الذكر إلى الألعاب المثيرة والسيارات والمحركات وكرة القدم.

يبدأ اضطراب الهوية الجنسية الظهور لدى الأطفال منذ عمر ثلاث سنوات، حيث يُلاحَظ على الفتاة سلوكات غريبة وبعيدة عن طبيعتها الأنثوية؛ كأن تحب ارتداء ثياب صبيانية واللعب بألعاب الفتيان؛ في حين يُظهِر الذكر المصاب بأعراض اضطراب الهوية الجنسية ميلاً إلى اللعب بألعاب الإناث، وارتداء الملابس الأنثوية كالفساتين، ووضع المساحيق التجميلية.

يجب على الأهالي أخذ الحيطة والحذر عند تكرار هذه السلوكات من قبل ابنهم أو ابنتهم؛ إذ إنَّ استمرارية قيام الطفل بهذه التصرفات قد يتسبب باضطراب الهوية الجنسية لديه.

توجد أربعة أركان أساسية تميِّز الذكر عن الأنثى، وهي:

1. الشكل الخارجي:

تتميز الأنثى بشكل خارجي مختلف تماماً عن الذكر، فلكل منهما تفاصيل جسدية مميزة ومختلفة عن الجنس الآخر.

2. الهرمونات:

يوجد نوعان من الهرمونات: هرمونات ذكرية وأخرى أنثوية، ويتواجد كلاهما لدى كلٍّ من الأنثى والذكر ولكن بنسب مختلفة.

يجب أن تكون الهرمونات الذكرية هي الطاغية على الهرمونات الأنثوية لدى الذكر، في حين يجب أن تطغى الهرمونات الأنثوية على الهرمونات الذكرية لدى الأنثى.

تُسمَّى الهرمونات الجنسية الذكورية بـ "التستوستيرون"، وهي المسؤولة عن ظهور الصفات الذكورية الأولية عند الولادة، والصفات الذكورية الثانوية لدى البلوغ؛ في حين تُسمَّى الهرمونات الجنسية الأنثوية "الإستروجين"، وهي المسؤولة عن ظهور الصفات الأنثوية الأولية لدى الولادة، والصفات الجنسية الثانوية عند البلوغ.

3. الكروموسومات:

هي عبارة عن مجموعة من الخيوط المتشابكة والملفوفة مع بعضها بعضاً، والتي تحمل الجينات المسؤولة عن نمونا وكيفية عمل أجسامنا.

تحتوي كل خلية جسدية على 46 كروموسوماً، بحيث يرث الفرد 23 كروموسوماً من الأب و23 كروموسوماً من الأم؛ وبناء عليه، يكون لكل فرد 23 زوجاً من الكروموسومات؛ وبما أنَّ الجينات محتواة في الكروموسومات، يمتلك كل فرد نسختين من كل جين (واحدة من الأب وواحدة من الأم)، وهذا هو سبب وجود تشابه في الصفات الظاهرية بين الآباء والأبناء.

يختلف الكروموسوم رقم 23 باختلاف الجنس، ويُدعَى بزوج الكروموسومات الجنسية، في حين تُدعَى الأزواج الـ 22 الباقية بالكروموسومات الجسدية.

يوجد نوعان من الكروموسومات الجنسية، يُعرَف الأول بكروموسوم X، والثاني بكروموسوم Y؛ حيث تحمل الأنثى نسختين من كروموسوم XX) X)، ترث إحداهما من الأم والأخرى من الأب؛ بينما يحمل الرجل نسخة من كروموسوم X يرثها من الأم، ونسخة من كروموسوم Y يرثها من الأب (XY).

4. الشعور الداخلي:

يُقصَد به شعور الذكر أو الأنثى بذاته وحقيقة جنسه من الداخل، فقد نرى أنَّ امرأة ما كاملة الأنوثة من الخارج، وتطغى عليها الهرمونات الأنثوية من الداخل، والصيغة الصبغية لديها (XX)؛ إلَّا أنَّها لا تشعر أنَّها أنثى، وتميل غريزياً وعاطفياً إلى حب الإناث؛ كما قد نرى أنَّ ذكراً ما كامل الصفات الذكورية من الخارج، وتطغى لديه الهرمونات الذكورية من الداخل، وتكون الصيغة الصبغية لديه (XY)؛ إلَّا أنَّه يشعر من الداخل أنَّه أنثى، ويميل عاطفياً وغريزياً إلى حب الرجال؛ وتُسمَّى هذه الحالة باضطراب الهوية الجنسية.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح تساعد الأم على تعزيز ثقة ابنتها المراهقة بشكلها

ما هي أسباب اضطراب الهوية الجنسية؟

تعددت الفرضيات التي تخص أسباب اضطراب الهوية الجنسية، وكَثُرت الآراء، ولا يوجد إلى الآن سبب قاطع يوضِّح ظهور هذه الحالة؛ ولكن سنستعرض الآن أقوى الأسباب وأكثرها منطقية:

1. العوامل الجينية:

تتشكل الكروموسومات الجنسية في فترة التكوين الجنيني، فمثلاً: تكون الصيغة الصبغية لدى الرجل (XY)، والتي تدفع الخلايا بدورها إلى إفراز هرمونات الذكورة "التستوستيرون"، والتي لها مستقبلات عصبية في قشرة الدماغ تُترجَم لكي تُحدِث تغيرات معينة تؤثر في شعور الرجل برجولته، وتُؤكِّد هويته الجنسية.

يفترض العلماء وجود خلل في تكوين الدماغ لدى مرضى اضطراب الهوية الجنسية، بحيث لا تقوم المستقبلات العصبية بعملها لديهم، ولا تكون قادرة على ترجمة الهرمونات الذكورية أو الأنثوية ترجمة صحيحة، ولا بتكوين الإحساس بالهوية الجنسية.

2. خلل في الهرمونات:

قد يؤدي وجود خلل في نسبة هرمونات الذكورة والأنوثة لدى كلٍّ من الأنثى والذكر إلى الإصابة باضطراب الهوية الجنسية، فيعاني الرجل الذي تطغى لديه نسبة الهرمونات الأنثوية من اضطرابات في الهوية، وتظهر عليه أعراض شكلية مثل: نمو الأثداء، ونعومة الصوت؛ في حين تظهر على الأنثى التي تعاني من طغيان الهرمونات الذكرية عليها أعراضٌ تتمثل بالشعرانية وخشونة الصوت.

3. التربية الخاطئة:

يربي الكثير من الأهالي أولادهم دون وعي، فلا يلاحظون تصرفات ولدهم أو ابنتهم الغريبة منذ الطفولة، ولا يأبهون لما يصدر عنهم من سلوكات غير سوية؛ الأمر الذي يعزز الانحراف لدى الأبناء في ظل عدم توعية الأهل لهم.

كما قد يساعد التمييز بين الذكور والإناث على خلق نزعة لدى الأنثى ورغبة شديدة في أن تكون رجلاً؛ وذلك لكي تحظى بالمعاملة الأفضل من قبل أهلها، ممَّا يجعلها ترفض جنسها وكل ما يتعلق به؛ ومن جهة أخرى، قد يسهم تدليع الأهالي المبالغ فيه للإناث في خلق رغبة لدى الذكور في أن يكونوا إناثاً، وتشويه هويتهم الجنسية.

يسبب رفض الأهالي وتوبيخهم واستهزاؤهم بأولادهم المراهقين الذين يبدون سلوكات مغايرة لأبناء جنسهم وتصرفات شبيهة باضطراب الهوية الجنسية إلى ردة فعل عكسية لدى المراهقين، ورغبة في التمادي في الاضطراب؛ فقد ينحرفون إلى مرحلة الشذوذ الجنسي كرغبة منهم في التماهي مع مشاعرهم الداخلية، أو قد ينغلقون على ذواتهم ويتحولون إلى انطوائيين، وقد تصل الحالة بهم إلى التفكير في الانتحار.

إقرأ أيضاً: المراهقة: مراحلها، خصائصها، أشكالها، وأهم النصائح للتعامل مع المراهقين

ما علاج اضطراب الهوية الجنسية؟

  1. يجب الابتعاد كلياً عن توبيخ وإهانة مرضى اضطراب الهوية الجنسية من قبل الأهل أو المجتمع، والعمل على احتوائهم وتقبُّلهم؛ فهم ليسوا أشخاصاً سيئين أو عديمي الأخلاق، بل ضحايا خلل ما في أجسادهم أو مشاعرهم، ويجب مساعدتهم ومحاولة كشف الأسباب الرئيسة للمرض لكي نصل إلى العلاج المناسب.
  2. التربية من أعظم وأقدس المهمات على الإطلاق؛ لذلك يجب الانتباه إلى أبنائنا، وإغراقهم بالحب والاهتمام، وعدم التمييز بين الجنسين، والمراقبة المستمرة لتصرفاتهم.
  3. في حال كان السبب الأساسي لاضطراب الهوية الجنسية ناتجاً عن خلل في الهرمونات، فيجب عندها إخضاع المريض إلى أدوية معينة لإعادة تنظيم نسب الهرمونات في جسمه، وسيتحسّن وضعه بالتأكيد، ويعود إلى ميوله السليمة.
  4. في حال كان السبب الأساسي لاضطراب الهوية الجنسية ناتجاً عن خلل جيني، فمن الصعب جداً حل المشكلة دون اللجوء إلى عمل جراحي.
  5. على الطبيب النفسي أن يُدعِّم الجانب الإنساني لدى مريض اضطراب الهوية الجنسية، ويزيد من ثقته بنفسه، ويُذكِّره بإنجازاته الدراسية والعملية.

الخلاصة:

كن رؤوفاً ورحيماً مع ذوي اضطرابات الهوية الجنسية، ولا تحكم عليهم حكماً مسبقاً بناء على تصرفاتهم الغريبة الخارجة عن سيطرتهم؛ فهم ضحايا هرمونات أو جينات أو تربية خاطئة، وليسوا أشخاصاً عديمي الأخلاق والقيم.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة