استشراف المستقبل: ضرورة أم رفاهية؟

بالنظر إلى قضية استشراف المستقبل في عالم مليء بالمتغيرات والتحديات، نجد أنَّه لم يَعُد ترفاً أو رفاهية من حيث ممارسته، إلا أنَّ واقع الأمر يشير إلى غير ذلك، فما هو الاستشراف؟ وما هي أدواته وآلياته؟ ومَن يستخدم استشراف المستقبل شركات أو أفراد؟ وما هي مراحل استشراف المستقبل؟



هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال حول حتمية استشراف المستقبل على الأصعدة كافةً أفراد ومؤسسات.

ما هو الاستشراف؟

من المفاهيم المغلوطة أن يظن الشخص أنَّ الاستشراف هو قراءة الطالع أو الرجم بالغيب؛ بل على العكس تماماً نجد أنَّ الاستشراف هو محاولة استكشاف الفرص المتاحة، بناءً على معطيات تعمل على مواجهة التحديات واغتنام الفرص، ويعتمد استشراف المستقبل على التفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي للتطلع نحو المستقبل.

ما هو التفكير الاستراتيجي؟

  • نجد علاقةً وثيقةً بين التفكير الاستراتيجي واستشراف المستقبل، فالتفكير سلسلة من العمليات الذهنية، وتحليلها والربط بينها للخروج بتصوُّر واضح.
  • أما التفكير الاستراتيجي فهو التأمل العميق لاستشراف المستقبل لتحديد الاتجاه الذي يقود الفرد أو المنظمة للاستفادة من الفرص المتاحة أو مواجهة التحديات المتوقعة.
  • أما التخطيط الاستراتيجي فهو يعتمد على دراسة الواقع بكل أبعاده من نقاط قوة وضعف، وفرص وتهديدات، ورسم رؤى وأهداف مستقبلية، والخروج ببرامج عملية من شأنها الانتقال إلى المستقبل.

مما سبق يتضح الصلة الوثيقة بين ثلاثية استشراف المستقبل والتفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي، وفهم مثل المثلث يعتمد أحدهما على الآخر.

شاهد بالفيديو: عناصر التفكير الاستراتيجي

ما الهدف من استشراف المستقبل، وهل استشراف المستقبل خاص بالمؤسسات أم الأفراد كذلك؟

الجدير بالذكر أنَّ استشراف المستقبل هو أداة هامة جداً لضمان الاستدامة وتمكين الأفراد المؤسسات لمواجهة المتغيرات في عالم سريع التغير، فمن لم يتقدم يتقادم، ومن لم يتغير يغير، وعليه نجد أنَّ استشراف المستقبل لا يقتصر فقط على المؤسسات؛ بل نجد أنَّ الأفراد معنيون به بشكل أساسي.

وجميعناً يمارس التخطيط، ولكن ممارسة مختلفة، فمن أراد أن يسافر أو يقوم برحلة ما، نجده يفاضل بين مجموعة دول، وبين مجموعة شركات الطيران، ثمَّ يبدأ يخطط لمكان الإقامة، والمصروفات، والزيارات والفسح، ويبدأ بوضع بدائل في حال حدوث طارئ كيف يتجاوزه، وهذا هو التخطيط، هو محاولة قراءة المستقبل.

فنجد أنَّ الأشخاص يستخدمون الاستشراف الاستراتيجي في أبسط صوره لدى شراء وجبة أو هدية أو فسحة، كي يتبصر موضع قدمه ويكمل مسيرته، ونجد أنَّ المؤسسات كذلك تستخدم الاستشراف الاستراتيجي لرؤية المستقبل لمزيد من تحقيق التنافسية على المستوى المؤسسي كي تحقق مزيداً من النمو والتطور في سوق مليئة بالتحديات.

كيف تحقق الاستشراف الاستراتيجي؟

السؤال الآن كيف يحقق الفرد أو المؤسسة الاستشراف الاستراتيجي؟

يتم تحقيق الاستشراف الاستراتيجي من خلال مجموعة من الآليات والخطوات اللازمة التي تُمكِّن المؤسسة من جمع المعلومات من مصادر موثوقة والربط بينها لاتخاذ قرارٍ استراتيجيٍ فيما يتعلق بالمستقبل.

وتساعد هذه المعطيات والمعلومات الموثوقة على تشكُّل الأهداف وصياغتها، ومن ثمَّ صناعة الرؤى الكبرى، وينبثق منها خطط قصيرة الأمد واستراتيجيات من شأنها المساهمة في صنع قرارات سليمة وحاسمة في آنٍ واحد.

هل يجب العمل على استشراف المستقبل دائماً؟

بالتأكيد الأساس هو العمل على استشراف المستقبل، ولكن أحياناً استشراف المستقبل يعني الضياع وعدم الإنجاز، لذلك يُنصَح بتجنب استشراف المستقبل في الحالات الآتية:

  • عدم القدرة على التعاطي والتعامل مع النتائج، فلا بُدَّ من التنفيذ والتطبيق.
  • عدم تحديد المستفيدين وأصحاب المصلحة.
  • غياب القيادة التي تستطيع تفعيل الاستراتيجيات.
  • عدم توفر الموارد اللازمة.
  • غياب الأهداف وضبابيتها.
إقرأ أيضاً: 4 خطوات بسيطة لإتقان التفكير الاستراتيجي

أدوات استشراف المستقبل:

القدرة على استشراف المستقبل لا تعتمد على استنساخ الماضي؛ بل تعتمد اعتماداً أساسياً على قدرة الأفراد والمؤسسات على استكشاف المشكلات، ومحاولة حلها بطرائق مختلفة، فلكل عصر زمانه، ولكل مستقبل أدواته، وهنا نتطرق إلى جملة من أدوات استشراف المستقبل.

الأداة الأولى "تتبُّع حياتك":

القيام بتتبع مسار حياتك من خلال رسم بياني لمنحنى حياتك، ترصد فيها نقاط قوَّتك ونقاط ضعفك؛ ونجاحاتك وإخفاقاتك؛ واختياراتك وما تمَّ فرضه عليك من خيارات؛ وقراراتك، ومن ثمّ تبدأ برسم مسار لحياتك وطرح مجموعة من الأسئلة:

  • نتيجة الاستشراف الاستراتيجي؟
  • مصدر الفخر؟
  • أهم درس؟
  • ما هي قمة نشاطك؟
  • أي الأحداث لها أثر كبير؟
  • القيم التي ساهمَت فيك؟
  • طرائق التعلم؟
  • كيف تُغيِّر سلوكك مع مرور الوقت؟
  • ما الذي تعلَّمتَه وعرفتَه عن نفسك؟

الأداة الثانية "تأمُّل رحلتك":

من صفات القيادة الاستراتيجية التي تعتمد على استشراف المستقبل للأفراد أو حتى المؤسسات، اعتمادها على مرحلية تقييم الذات من خلال تتبع مراحل تقدُّم وتطوُّر الحياة، النجاحات والإخفاقات، والتفكير طويلاً في تصحيح المسار باستمرار، ويفيد هذا التأمل القائد أو الشخص في استكشاف الذات على المستوى الشخصي، ويفيد المؤسسات في تصحيح مسار المنظمة، كما يجعل عملية مراجعة الأفكار السلبية والسلوكات غير الضرورية والتي تعوق التقدم والتطور أمراً هاماً في مرحلة استشراف المستقبل.

ويجد القائد نفسه أمام مجموعة من النداءات بين نداء المغامرة بحتمية التغيير واتخاذ قرارات حاسمة من شأنها تغيير المسار الذي أنت فيه على مسارات جديدة بآليات مختلفة للوصول إلى الأهداف المرجوة، أو نداء الخوف والركون إلى الوضع الحالي، وتُعَدُّ الاستجابة لهذا النداء نتيجةً طبيعية للخوف من التغيير، والرغبة في عدم الالتزام بالمسؤوليات والدخول في تحدٍّ جديد من شأنه إحداث نقلة نوعية على مستوى الفرد أو الشركات.

إقرأ أيضاً: مقاومة التغيير في المؤسسة: كيف يتعامل معها القائد؟

بين النداءين نجد أنَّ الشخص يحتاج في هذه المرحلة صوتاً خارجياً يعمل على دعمه، ويذكره بنجاحاته ومصادر قوَّته حتى يدخل في حالة شعورية من التحدي وقبول النداء الآخر، ويُعَدُّ هذا المصدر المرشدَ والموجِّهَ لتحقيق النداء الأول، وقد يكون المرشد أو المصدر الخارجي خبرات تراكمية، أو كتاباً قرأه أو استشارة من مخلص له.

وكنتيجة طبيعية للدعم الخارجي نجد أنَّ الفرد الذي استطاع أن يجد مصدر دعم خارجي، يصل إلى مرحلة العبور الأولية وهي اتخاذ القرار، وحتى يصل إلى مرحلة بطن الحوت، وهي ظلمات بعضها فوق بعض، يشعر فيها متخذ قرار المغامرة بالضغط الكبير الذي لازمه، وقد يشعر بالاختناق والذي يقوده بطبيعة الحال إلى الانتكاس والرجوع إلى المربع الأول وهو رفض التغيير، وهنا التحدي الأكبر الذي يواجه القائد الذي يرى في نفسه شخصاً مختلفاً، أما إذا خرج من هذه المرحلة فسيخرج أشد قوةً من قبل، وقد اكتسب جملةً من الخبرات المتراكمة والتي تساعده بحال أو بآخر على استكمال مسيرته نحو الهدف.

صعوبات على الطريق، وبعد الخروج من ظلمات الضغط الأولي، لن نجد الطريق مفروشاً بالورود؛ بل مليئاً بالمشكلات والعقبات، والنجاحات والإخفاقات، فالأزمة تنتج أزمات، وهنا يحتاج الفرد إلى قوة دافعة تثبته وتعطيه أملاً ودافعاً لاستكمال مسيرته على الطريق، قد تكون القوة فرصةً، أو عملاً أو كلمة من صديق تثبّته على التغيير الذي اختاره، أو تجارب لآخرين سبقوه.

وهنا يحتاج صانع التغيير والطامح إلى المجد إلى التصالح مع الذات، والتخلص مع عقبات وإخفاقات الطريق، والتعلم منها والعمل على تجنبها في المستقبل، والهروب إلى الأمام؛ بمعنى أن لا بديل عن تحقيق المجد والوصول إلى الهدف ومواجهة كل القوى السلبية.

وعلينا جميعاً تذكُّر أنَّ أي قائد واجه في مراحل حياته القيادية وسطوع نجمه مراحل هذه الرحلة والتي تتمثل في:

  • صراع النداءين؛ نداء المغامر ونداء التراجع.
  • ثمَّ الدخول إلى ظلمات بطن الحوت وما فيها من تحديات وعقبات.
  • مروراً بنفق المحن والصعوبات وما يلاحقها من أزمات.
  • حتى يجد نفسه أمام طريق واحد وهو طريق الهروب إلى الأمام في سبيل تحقيق الهدف الأسمى واستشراف المستقبل.
  • حينها فقط يصل القائد الذي آمن بنفسه وقدراته إلى التوازن والتصالح من الذات ليحقق أحلامه ويصل إلى المستقبل الذي استشرفه.

وهكذا هي رحلة الحياة ورحلة القائد الذي آمن بنفسه وقدراته بعد إيمانه بالله عز وجل، فلا مستحيل في هذه الحياة، طالما لديك القدرة على استشراف المستقبل وقبول التحديات.

إقرأ أيضاً: القيادة في الأزمات وكيفية التصدي للتحديات

ولدينا في التاريخ قصص مذهلة لأناس استشرفوا المستقبل وانطلقوا من واقع مرير إلى مستقبل مبهر ومنير، ولم يكن لديهم إمكانات أو مصادر خارقة عن العادة، وأهم مصدر يمتلكه أي شخص في هذه الحياة هو إيمانه وقناعاته بذاته وأنَّه قادر على فعل المستحيل، وما قصة الحاجب المنصور عنا ببعيدة؛ حيث انتقل من بائع للحمير إلى حاجب المنصور وحكم الأندلس، وغيرها من القصص الملهمة التي تعطي أملاً لكل من يرغب في تغيير المستقبل إلى العمل بجد واجتهاد وسيكون النجاح حليفه.

ألقاكم في تكملةٍ لهذا المقال حول استشراف المستقبل للقادة، وسنتحدث عن قصص ملهمة في مجال الإدارة والقيادة ممن صنعوا التاريخ وتركوا بصمةً في هذه الدنيا.

كَتَبَه: د. إسماعيل بكر / دكتوراه إدارة أعمال / استشاري تدريب وتطوير قيادي وإداري.




مقالات مرتبطة