أيهما أهم المتعة أم الكمال؟

كنت أعتقد أنَّني شخصٌ لا يبدو جميلاً في الصور، وخفت أن ألتقط صوراً لي؛ وذلك لأنَّني كنت متأكدةً من أنَّ أي صورة ألتقطها ستكشف للعالم بأسره مظهري المحرج والقبيح، وإذا التقط شخص ما صورة لي عن طريق الصدفة، فكنت أنظر إليها بعد ذلك، وأتفحَّص كل عيب صغير فيها.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتبة إنغريد فيتيل لي (Ingrid Fetell Lee) والتي تُحدِّثنا فيه عن تجربتها في تفضيل الحصول على المتعة بدلاً من الحصول على الكمال.

كانت وجنتاي مليئتين بالحبوب، ووجهي مستدير، وكنت دائماً أغمض عيناي في مواجهة الشمس الساطعة لدرجة أنَّك بالكاد تستطيع رؤيتهما، وكان شعري الناعم يتطاير في كل مكانٍ عند هبوب أخف النسمات، ولم تكن أسناني بيضاء بما يكفي؛ لذا حاولت أن أبتسم دون أن أظهرها، الأمر الذي زاد من غرابة الصور، بين محاولة إنزال شعري، وإبقاء عيناي مفتوحتين على مصراعيهما في الشمس الحارقة، وأنصاف الابتسامات الغريبة التي كانت ترتسم على مُحيَّاي، ليس من المستغرب أنَّني لم أكن أحب الكاميرات والصور.

ثم ذات يوم وفي أثناء تقليب الصور، صادفت صورة التقطها صديق لي قبل عامين، وكان قد فاجأني بالتقاطها، وكنت أبتسم، كان الجو مشمساً؛ لذلك كانت عيناي شبه مُطبقتَين بالطبع، ولكن كان في إمكانك أن ترى أنَّهما كانتا تُشعَّان فرحاً، وكان شعري متناثراً ولم أكن أضع المساحيق التجميلية، وفي ذلك الوقت، لم أكن أرغب في نشرها علناً لأنَّني لم أحب مظهري، ولكنَّني الآن، عندما نظرت إلى الصورة، شعرت بأنَّني أحببتها، كانت العيوب لا تزال موجودة بالطبع، ولكنَّ ما لاحظته عندما نظرت إليها هو مدى سعادتي، فقلت لنفسي: "تبدو هذه الفتاة وكأنَّها تقضي وقتاً ممتعاً".

أدركت في تلك اللحظة أنَّ الصور التي أبدو فيها بأفضل حال لم تكن "مثالية"، وما الذي يعنيه الكمال على أي حال؟ كانت أفضل صوري هي تلك التي أظهرت فرحتي واضحة وضوح الشمس، الصور التي لم أكن أحاول فيها جاهدةً لتلبية بعض المعايير المستحيلة؛ إنَّما كنت ضعيفة بما يكفي للسماح للكاميرا بالتقاط صورتي الطبيعية.

منذ ذلك الحين، بدأت أقول لنفسي قبل التقاط أي صورة: "ما يهم هو المتعة، لا الكمال"، وإذا اضطررت إلى التقاط صورة لغرض معين، مثل التقاط صورة رسمية أو صورة لجواز سفر، أفكر في ذكرى ممتعة حدثت مؤخَّراً وأحاول إعادة نفسي إلى تلك اللحظة، وعندما أنظر إلى الصورة بعد ذلك، أنظر إلى تعابير وجهي عوضاً عن التركيز على الخطوط الموجودة على وجهي أو التفاصيل غير المبهجة فيها، وإذا رأيت فرحةً حقيقية، فأعدَّ الصورة جيدة".

أصبحت عبارة "المتعة، وليس الكمال" شعاراً بالنسبة إلي في هذه الحياة، مما ساعدني على التخلص من الرغبة في بلوغ الكمال وإعادة تركيز انتباهي على ما يهم حقاً، وتكمن قوة هذه العبارة في تغيير مقياس النجاح لأي عمل، سواء كان صورة أم عشاءً أم مقالاً، وإبعاده عن المعايير الموضوعة اعتباطيَّاً وتوجيهه نحو تجاربنا المحسوسة.

يُعَدُّ الكمال أساس الأحكام التي نصدرها، بينما تُعَدُّ المتعة أساس العواطف التي نشعر بها، فعندما نسعى إلى الكمال، فإنَّنا غالباً ما نقيِّم كيف يمكن للآخرين أن ينظروا إلينا ونتوقع كيف يمكن أن يحكموا علينا بالفشل، ولكنَّ السعي وراء المتعة يمنحنا عقلية مُبدعة، فينصب تركيزنا على تعظيم المتعة التي قد نجلبها لنا وللآخرين.

إقرأ أيضاً: لماذا لن يساعدك السعي إلى الكمال في تحقيق أهدافك؟

من الواضح أنَّ السعي إلى الكمال قاتل للفرح، لكنَّه قد يكون ضاراً أيضاً بصحتنا العقلية من نواح أخرى، ففي التحليلات التي أجريت في عام 2016 على 284 دراسة، وجد الباحثون أنَّ الكمال يرتبط بالاكتئاب والقلق واضطرابات الأكل وإيذاء النفس واضطراب الوسواس القهري، بالإضافة إلى مشكلات أقل خطورة ولكنَّها تَظل منهكة مثل التعب والإجهاد والصداع والأرق. حتى عندما لا يكون الأمر مَرَضياً، فإنَّ المثالية تخلق نوعاً من الضغط المستمر والتركيز على التفاصيل التي تنتقص من استمتاعنا باللحظة.

لم أكن أدرك أنَّ الكمال له ثلاثة أنواع مختلفة إلَّا بعد أن بدأت إجراء عمليات بحث قبل كتابة هذه المقال، وهذه الأنواع هي:

  1. الكمال الموجه نحو الذات؛ وهو عندما يُطالب الشخص نفسه بالارتقاء إلى مستوى محدد من شيء ما.
  2. الكمال الموجه نحو الآخر؛ حيث يتوقع الشخص الكمال من الآخرين، مثل رئيس يفقد أعصابه إذا كانت الفاصلة في غير مكانها، أو أحد الوالدين الذي يطلب الكمال من أطفاله.
  3. الكمالية التي يفرضها المجتمع؛ حيث يرغب الشخص بتلبية المعايير المثالية الخارجية، سواء التي يضعها الأقران أم المجتمع ككل.

يبدو أنَّ هذا النوع الثالث من المحتمل بشكل خاص أن يكون مرتبطاً بالمشكلات الصحية، وهذا منطقي؛ لأنَّ هذا النوع من الكمال يسعى إلى بلوغ معيار لم نحدده، فيبدو لنا أنَّه هدف دائم التغير، ويبدو وكأنَّه لعبة لا يمكن الفوز بها، تستنفد كل مواردنا ولا تمنحنا سوى القليل من المكافآت.

الكمال أمر سيئ بشكل خاص؛ وذلك لأنَّه مقبولٌ اجتماعياً، فهو الصفة التي يُطلب منا ادعاء التحلي بها عند سؤالنا عن نقاط ضعفنا في مقابلة عمل؛ وذلك لأنَّ أرباب العمل يفسرونها على أنَّها نقطة قوة لا نقطة ضعف، ويمكننا أن نسخَر من فكرة الكمال على أنَّه سلوك غريب في الشخصية ومن ميلنا إلى التفوق، ولكنَّنا على الرغم من ذلك نجلد أنفسنا ونقلل من قيمتها في كل مرة لا نحقق الكمال فيها.

إقرأ أيضاً: نعمة عدم الكمال

يقيِّد السعي إلى الكمال حياتنا؛ إذ يجعلنا نشعر بأنَّ الحياة المثالية هدف يمكن تحقيقه وبأنَّ تحقيقه سيشعرنا بالرضا، لكنَّ الحقيقة هي أنَّ الكمال ليس وهماً فحسب، وإنَّما هو أمر ممل أيضاً، ومع اهتمامنا بعدم ارتكاب أي أخطاء، لا يتبقَّى لدينا سوى القليل من الإبداع، ولكن عندما نتخلى عن الحاجة إلى أن نكون مثاليين، فإنَّنا نصبح أحراراً لنكون مبدعين ومعطائين ومرحين ومغامرين؛ حيث يقلِّص الكمال حياتنا ويحشرنا في صندوق صغير من التوقعات، بينما تُطلق المتعة لنا العنان مما يمنحنا مساحة لاكتشاف شيء لم نتخيل أنَّنا سنكتشفه أبداً.

عندما أتعثَّر في عملٍ ما، سواء كان مقالة ما أم غرفة أُزيِّنها أم هدية أقدمها، غالباً ما أدرك أنَّني تعثَّرت لأنَّني كنت أحاول أن أكون مثاليةً؛ وذلك إما لأنَّني بدأت أشعر بالقلق مما قد يعتقده الآخرون، أو لأنَّني أصبت بالشلل الشديد بسبب الخوف من الفشل لدرجة أنِّي لم أبدأ على الإطلاق، فأسأل نفسي في هذه اللحظات، ما نوع الحياة التي أريد أن أعيشها، أهي حياة مثالية، أم سعيدة؟ أتخيل نفسي، وأنا أبلغ من العمر 80 عاماً، أقوم بغربلة ذكرياتي، فأجد الإجابة الواضحة دائماً، ما فائدة الكمال بالنسبة إلي إذاً، إذا كنت خائفةً جداً من أن أكون غير كاملة لدرجة أنَّني لم أعش حياتي أساساً؟

ويكون شعار "المتعة، لا الكمال" هو خلاصة هذه المحادثة التي أجريها مع نفسي، ويساعدني ذلك فوراً على التخلص من الضغط الذي أشعر به والرغبة في التوافق مع توقعات الآخرين، وفي خلق مساحة لسماع صوتي وعَيش حياتي الخاصة.

المصدر




مقالات مرتبطة