أهم المسائل العميقة في الحياة: التردد والإفراط والصداقة

إنَّ مقالنا اليوم في غاية الروعة والجمال والأناقة والفائدة، بالإضافة إلى المتعة الفكرية؛ وذلك لأنَّه يتحدث عن أكثر مشكلاتنا تكراراً مثل الحيرة والتردد، ويأتي لنا بـ "هاملت" من مسرحيته ليساعدنا على الخروج منها، وبعدها سننتقل إلى الإفراط الذي يبدو بالظاهر حالة سلبية، لكن في هذا المقال ستجدون استثناءً لهذه القاعدة، وأخيراً وليس آخراً سنتعرف إلى واحدة من أجمل وأهم مفاهيم الحياة وهي الصداقة، وفق فلسفة المعلم الأول "أرسطو".



في حال وقعت في حفرة الحيرة والتردد والألم، افعل ما فعل "هاملت" 

في حال تلبَّسك الألم والخوف الشديدين في مرحلة ما من مراحل حياتك، ووقعت أسيراً للتردد المفرط أو الزائد عن حدِّه، لدرجة لا تستطيع معها أن تتخذ أي قرار؛ لأنَّك تقع في حيرة شديدة تجعلك عاجزاً عن معرفة الخيار المناسب لك، فهنا استخدم الحكمة الشيكسبيرية التي نستطيع أن نستنتجها من المسرحية الشهيرة "هاملت".

وهي أن تقوم باتخاذ قرار يكون صائباً بذاته لا بنتائجه؛ وبمعنى آخر، ليس بالضرورة أن يؤدي القرار إلى ظروف أفضل أو مرتبة أعلى؛ بل هو قرار صائب لأنَّه يبتر حالة الغم والحزن والقلق التي يكون الشخص الحائر غارقاً بها، وقد يكون هذا القرار مؤلماً في بداية الأمر، لكن سرعان ما يدخل الإنسان في حالة من الاستقرار والتوازن.

وعلى الرغم من الشك الذي يشوب هذا القرار من ناحية صوابية النتائج، إلا أنَّ نتائجه مهما كانت غير مُرضية، إلا أنَّها ستكون أفضل من البقاء في حفرة القلق والتردد والضياع؛ أي إنَّها تشبه إلى حد كبير عملية كي الجرح، التي تكون مؤلمة جداً ولكنَّها توقف النزف وتؤدي إلى التئام الجرح، وعلى الرغم من الألم الكبير الذي يرافق عملية الكي، غير أنَّه أفضل بكثير من أن يعيش الإنسان مع كل الآلام والمشكلات والأمراض التي قد يسببها هذا الجرح في حال الامتناع عن كيه.

على الرغم من سلبية الإفراط، شيءٌ واحدٌ يجب عليك أن تفرط فيه، فما هو؟

يقول الحكماء يجب على الإنسان أن يكون وسطاً بين الإفراط والتفريط، ويرى آخرون أنَّ هذه الحالة الوسطية ما هي إلا حالة وهمية قد لا يمكن للإنسان بلوغها، فعلى الرغم من المحاولات الحثيثة التي يبذلها الإنسان، إلا أنَّه يبقى ضائعاً بينها، فالنجاح والتميز في العمل يلزمه دراسة مستمرة وعمل مستمر، وهذا ما يجعل الإنسان يبتعد نوعاً ما عن أولاده وزوجته، وخلاف ذلك صحيح.

ويوجد رأي آخر للنقَّاد وهو أنَّه يجب على الإنسان ألا يكون مفرطاً في أي شيء؛ لأنَّ الإفراط يُعَدُّ أمراً سلبياً في أغلب الحالات، إلا في حالة واحدة وهي استخدام العقل؛ إذ يقول أصحاب هذا الرأي إنَّ الإنسان لن يصل إلى الحقيقة أو الفكر الفريد أو الاختراع المذهل أو التطور الذي يطمح له في مختلف المجالات، إلا من خلال إعمال العقل والإفراط في استخدامه، لدرجة تسمح لنا باكتشاف بواطن الأمور، وليس إلقاء نظرة سطحية عليها، لن تكون ذات فائدة تُذكَر.

إذ إنَّ الحقائق العميقة هي التي يمكن استخدامها في عملية التطور والبناء، بخلاف ما يعوم على سطح الحقيقة من أشياء، قد تخدعنا وقد تقودنا إلى الوراء.

كيف غيَّر الإفراط في استخدام العقل ضمن مسار التاريخ؟

إنَّ لذة المعرفة تكمن في الغوص عميقاً للحصول على لآلئ الفكر، بدل التركيز على ما يطفو في السطح، وهذا ما يجعلنا نضيع بين أصحاب الفكر السطحي وبين مدعي العلم ومدعي الحقيقة، وهو ما يجعل مجتمعنا أيضاً ينتج أنصاف كتَّاب وأنصاف روائيين وأنصاف أدباء.

فلولا هذا الإفراط في استخدام العقل والفكر، وامتلاك الجرأة للمناقشة في بواطن الأمور، لما ظهر لنا "ديكارت" مؤسس فلسفة الشك، ولما عرفنا الشيخ الرئيس "ابن سينا" وفلسفة النفس، فكل هؤلاء وغيرهم من العلماء والمفكرين، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من خلال الإفراط في استخدام العقل والبحث في دقائق الأشياء بعيداً عن خوض القشور وظواهر الأمور. 

ما هو النقد الموجه إلى نظرية الإفراط في استخدام العقل؟

يوجِّه النقَّاد سهامهم النقدية إلى أنصار مذهب الإفراط في استخدام العقل، بصفته مذهباً ضيقاً؛ أي إنَّه يقتصر على فئة قليلة من الناس، وهي فئة النخبة أو ما يسمى بالطبقة المثقفة، أو قد تكون مقتصرة على فئة أضيق وهي طبقة العلماء والمبتكرين والمخترعين والفلاسفة الذين غيروا مسار التاريخ، وساهموا مساهمة جوهرية في بناء الحضارة الإنسانية.

شاهد بالفيديو: 7 طرق تمنع بها نفسك من الإفراط في التفكير

الحياة قصيرة والمعرفة لا تنتهي، فكيف نستطيع أن نتعامل مع هذه المعضلة؟

لا يمكن أن تكتمل حياتنا دون أن تَشغَل الكتب جزءاً ثابتاً منها، فهي وعاء الفكر وضمانة التطور والتقدم لنا سواء بصفتنا أفراداً أم شعوباً، ولكنَّ الحياة قصيرة ودرب المعرفة طويل ومتشعب ومعقد، وإذا أراد الإنسان أن يقرأ ما هو متوفر من كتب وأبحاث ومراجع، فإنَّ حياته قد لا تكفيه. 

لذلك ينصحنا الأديب المعروف "رفاعة الطهطاوي" بأنَّ القراءة أو المطالعة يجب أن تكون انتقائية، فالعمر قصير والعلم لا ينتهي، فليست كل الكتب تستحق القراءة، وليست كل الكتب جديرة بإضاعة وقتنا عليها؛ لذا يجب انتقاء أفضل الكتب من كل مجال وقراءتها. 

وقد توصَّل "الطهطاوي" إلى هذه القناعة حين كان لديه عطلة في العاصمة الفرنسية "باريس"؛ إذ جلس في غرفته وجمع الكتب التي يود أن يقرأها في هذه العطلة، ولكنَّه تفاجأ بجبل الكتب التي كان يخطط لقراءتها، وأحسَّ هنا أنَّ عمر الإنسان قصير جداً مقارنة بما هو موجود من معارف وعلوم وأفكار. 

ما هي نوعية الكتب التي يجب علينا قراءتها حسب "فرانز كافكا"؟

بالحديث عن القراءة والمطالعة، يتساءل الروائي الشهير "فرانز كافكا"، عن قيمة أي كتاب إن لم يوجِّه ضربة قوية لرؤوسنا، وإن لم يحرك تيارات الشك في مستنقعات يقيننا، فإن كان الكتاب الذي نقرأه تأكيداً لما نحن نعرفه أو يتوافق مع المبادئ والمعارف الموجودة لدينا مسبقاً، فما هي الجدوى من القراءة؟

فالكتاب الجيد هو الذي يعرِّفنا إلى أماكن مجهولة لم نكن نعرف وجودها سواء في أنفسنا أم في العالم من حولنا، ويشجعنا على الغوص في بحار لم نعتد الغوص بها، والكتاب الجيد هو الكتاب الذي يضيف إلى مهاراتنا مهارات جديدة، وإلى معارفنا معارف جديدة، ويوسع الأفق الذي نفكر به؛ عبر فتح أبواب ربما كنا نمر بالقرب منها دون أن ندري بوجودها؛ باختصار، يمكن القول إنَّ الكتاب الجيد هو حياة جديدة لم نحيَ بها من قبل.

إقرأ أيضاً: 6 خطوات تُشجّع القارئ المبتدئ على قراءة الكتب

"صديق الجميع ليس صديقاً لأحد"، ما الذي يعنيه "أرسطو" في كلامه هذا؟

"رفع "أرسطو" من أهمية وقيمة الصداقة في الحياة، وعَدَّها الأساس الأول لبناء المجتمع الفاضل أو المدينة الفاضلة؛ لا بل تجاوز ذلك إلى حدٍّ جعله يقدمها على العدالة، ورأى أنَّ الصداقة الحقيقية يمكن أن تحل محل العدالة وتغني البشر عن وجود القانون، ولكنَّ أرسطو لم يقصد أي علاقة صداقة؛ بل وضع شروطاً ومعايير صارمة للصداقة.

وأحد أهم المعايير التي وضعها "أرسطو" للصداقة الحقيقية، هي ألا يمتلك الإنسان عدداً كبيراً من الأصدقاء، على مبدأ أنَّ صديق الجميع ليس صديقاً لأحد، ويستند "أرسطو" في معياره هذا إلى أنَّ مفهوم الصداقة يقتضي تقديم الخدمات سواء المعنوية أم المادية أم الروحية أم السلوكية للصديق عن طيب خاطر، وهذا هو نصف الصداقة، الذي لا يكتمل دون نصفه الثاني، الذي يتجلى في رد الجميل بطريقة لبقة تليق بالصداقة والمحبة والاحترام بين الصديقين.

ويرى "أرسطو" أنَّ هذا لا يمكن تحقيقه في حال وجود الكثير من الأصدقاء؛ فلن يستطيع هذا الشخص رد جميع الخدمات التي يتلقاها من أصدقائه الكثر؛ وهذا يولِّد شعوراً بالغبن أو إحساساً بنقص التقدير والمحبة والاحترام.

وتشكل كثرة الأصدقاء عائقاً أمام استمرار الصداقة أو حتى بناء الصداقة الحقيقية؛ وذلك لأنَّك لن تستطيع إرضاء جميع أصدقائك في أوقات الخلافات، ولن تكون قادراً على الوقوف مع الجميع في وقت واحد؛ لذلك يؤكد "أرسطو" أنَّ أهم أسس بناء الصداقة الحقيقية هي عدم الإكثار من الأصدقاء، فبينما نتمنى أن نأخذ كل شيء، ينتهي بنا المطاف دون أي شيء.

إقرأ أيضاً: ملخص كتاب نصائح من صديق للمؤلف أنتوني روبينز

ضرورة اللقاء الدائم لبناء الصداقة الحقيقية وفق فلسفة "أرسطو":

من المعايير الهامة التي وضعها "أرسطو" لبناء الصداقة الحقيقية هي العيش المشترك أو اللقاء المستمر الذي لا تتخلله الكثير من الانقطاعات، أو لا تكون الانقطاعات طويلة الأمد، فكما يقول المثل العربي الشهير "البعيد عن العين، بعيد عن القلب"؛ لأنَّ الصداقة لا تكون من خلال التخاطر؛ وإنَّما تقتضي اللقاء على أرض الواقع، الذي يُعَدُّ أحد أهم مقتضيات التواصل الإنساني.

وهذا يقودنا إلى البند الرئيس الذي وضعه "أرسطو"، وهو عدم الإكثار من الأصدقاء؛ لأنَّ ذلك سيقتضي بالضرورة صعوبة اللقاء وربما استحالة التواصل الحقيقي والفعَّال مع كل الأصدقاء.

في الختام:

يجب على الإنسان أن يكون دائم الاطلاع على كل ما هو جديد ومختلف في جميع مجالات الحياة، حتى لو كان هذا الجديد مخالفاً لما درسنا أو تربينا عليه؛ وذلك لأنَّ أكثر ما يغني الفكر وينيره هو الانفتاح على المختلف والجديد وتقبُّله والتعايش معه مهما كان مخالفاً لما نحن عليه الآن.

المصدر: 1،2




مقالات مرتبطة