أُسس عملية التنفس

يمكنك البقاء على قيد الحياة لأسابيعٍ قليلة دون طعام وأيام قليلة دون ماء، لكن من دون هواء ستكون محظوظاً إذا حافظت على حياتك أكثر من بضع دقائق.



لطالما كان الرابط بين الحياة والتنفس واضحاً، لكنَّ الأمر تطلَّب جهود العلم الحديث للكشف عن آليات التنفس على المستوى الخلوي؛ إذ تتغذَّى خلايانا على الغذاء والماء؛ ولكنَّها تحتاج إلى الأوكسجين لتحليل هذه المواد، وتفرز الخلايا أيضاً غازاً آخر، وهو ثاني أوكسيد الكربون بوصفه نفايات؛ ويسمَّى تدوير الجسم لهذه الغازات بالتنفس، وإذا كان التنفس ضعيفاً تضعف الخلايا وتتباطأ وتموت قبل أوانها.

تُربط عملية التنفس بالرئتين فقط، ولكنَّ هذه العملية ضرورية لخلايانا جميعها؛ فكلَّما تنفست خلايانا جيداً كان الجسم بمجمله سليماً.

الرئتان والمرض:

تقوم الرئتان بعملية التنفس بطريقتين؛ أولاً: تعمل الرئتان مثل المنفاخ؛ إذ تضخان الهواء ميكانيكياً داخل الجسم وخارجه، ثانياً: تنقلان هذا الهواء إلى داخل الدم وخارجه باستخدام أكياس مجهرية تسمى الأسناخ (الحويصلات) الرئوية.

تفرز الأسناخ الهوائية الأوكسجين إلى الدم مع كلِّ نَفَسٍ نقوم به، وتسحب ثاني أوكسيد الكربون منه، ولدينا مئات الملايين من الأسناخ الهوائية التي تُسهِّل تبادل الغازات، فإذا أخذنا الحويصلات الهوائية كلَّها من رئتي شخص بالغ ونشرناها، فسوف تساوي مساحتها مساحة ملعب تنس.

تستهدف أمراض الرئة عادةً إحدى هاتين الوظيفتين؛ فالربو على سبيل المثال هو مشكلة في آلية النفخ؛ إذ تصبح المسالك الهوائية ضيقةً وملتهبة، وهذا يُصعِّب الشهيق والزفير، وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ النفاخ الرئوي، وهو حالةٌ تتميَّز بتندب الأنسجة في الرئتين يدمِّر الحويصلات الهوائية؛ ومن ثمَّ يصبح ملعب التنس ذلك أصغر فأصغر.

إنَّ الداء الرئوي الانسدادي المزمن وذات الرئة وغيرها من الأمراض الرئوية تعوق تنفسنا بطرائق مختلفة؛ إذ يمكن أن تسبِّب لنا أمراض القلب المختلفة أيضاً ضيقاً في التنفس، لكنَّك قد تجد أحياناً صعوبةً في التنفس مع أنَّ قلبك ورئتيك سليمون تماماً، وفي كثير من الأحيان قد ينجم ذلك عن ضعف اللياقة البدنية.

أُسس عملية التنفس:

لا تعمل الرئتان وحدهما؛ إذ يتطلَّب تبادل الهواء على المستوى الخلوي بنيةً تحتيةً تنتشر عبر كامل الجسم، ألا وهي أوعية دموية صغيرة يمكنها الوصول إلى كلِّ خلية، فإذا تدهورت هذه الشبكة من الأوعية، ستتدهور وظيفة الخلية أيضاً.

قد لا تلاحظ التدهور حتى يُطلب منك القيام بشيء مُرهقٍ جداً، فعندما تُرهق عضلاتك أكثر ممَّا اعتادت عليه، فإنَّها تحتاج إلى مزيدٍ من الهواء لتُنفذ هذا المجهود الإضافي، وهذا ما يسبِّب كلَّ ذلك التنفس السريع؛ إذ تضخُّ رئتاك بقوة أكبر لتلبية احتياجات الخلايا التي تعاني.

مع أنَّ رئتيك تعملان بأقصى طاقتهما، فإنَّ التنفس قد لا يكون قادراً على الوصول إلى الخلايا جميعها، وذلك لعدم وجود بنية تحتية كافية لإيصاله، فتخيَّل حيَّاً مليئاً بالمنازل، لكن من دون شوارع، فسوف تتراكم القمامة ولن تصل الطرود إلى المنازل.

فعندما تمارس نشاطاً مُجهداً بوتيرة منتظمة، فسيصبح كلٌّ من جسمك وتنفسك أكثر كفاءة، ولا يقتصر دور التمرين على تقوية الأنسجة العضلية فحسب؛ بل يحسِّن التنفس الخلوي أيضاً؛ لأنَّ العضلات عندما تتقلَّص تُطور شبكةً أكثر تعقيداً من الأوعية الدموية.

فسيصبح من السهل توصيل البضائع إلى المنازل، وستجمع جميع القمامة بانتظام، فمن خلال  التدريب، يمكنك أن تجعل هذه العملية أفضل.

إذا تعرَّضنا لنشاط شاق، فإنَّنا نبدأ في فقدان الدهون؛ فتقوم الرئتان بطرح معظم هذه الدهون من أجسامنا، وخلافاً للاعتقاد الشائع لا تخرج الدهون من الجسم عبر القولون أو تتحول إلى عضلاتٍ بأعجوبة، بدلاً من ذلك فإنَّها تنقسم إلى بعض العناصر الأساسية وتخرج مع هواء الزفير.

وجد الباحثون في دراسةٍ أجريت عام 2014 أنَّه عندما يحرق الشخص 10 كيلوغراماتٍ من الدهون، يُطرح أكثر من 9 منها على شكل ثاني أوكسيد الكربون والباقي يخرج على شكل ماء.

كما أنَّ التخلُّص من الدهون الزائدة يجعل التنفس أسهل، فإنَّ الدهون قد تُقيِّد المساحة التي تحتاج إليها الرئتان إلى التوسع بالكامل؛ أي تحصر انتفاخ الرئتين.

أولئك الذين لديهم بطن كبيرة عادةً ما يكون لديهم مستويات منخفضة من الأوكسجين في الليل؛ إذ تحافظ الجاذبية على البطن بعيداً عن رئتيهم عند وقوفهم في أثناء النهار، ولكن عندما يستلقون، فإنَّها تضغط على الحجاب الحاجز وتجعل التنفس سطحياً.

إقرأ أيضاً: 6 أعراض صحيّة يجب عليك ألَّا تتجاهلها أبداً

التنفس والدماغ:

تحتاج كلُّ خلية إلى الأوكسجين؛ ولكنَّ الخلايا الدماغية تحتاج إليه أكثر من غيرها؛ إذ تستخدم خلايا الدماغ نحو ثلاثة أضعاف كمية الأوكسجين الذي تستخدمه خلايا العضلات، فإذا حصل الدماغ على كمية أوكسجين أقل بقليل ممَّا يحتاج إليه، فقد يؤدي ذلك إلى ضعف القدرة على اتخاذ القرارات ونقص التناسق وحتى الخرف.

نظراً لأنَّ الدماغ حساسٌ جداً لمستويات الأوكسجين، فلا عجب أنَّ التنفس أيضاً مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحالتنا العاطفية.

يكون التنفس العميق غالباً هو الخطوة الأولى التي نتخذها لتهدئة أنفسنا، فقد تؤثِّر الأنفاس القصيرة والسريعة أيضاً في طريقة تفكيرنا، فإنَّ الأشخاص الذين يعانون القلق غالباً ما يكون لديهم أنماط تنفس غير طبيعية، ويميلون إلى فرط التنفس (فرط التهوية)، وتشير الدلائل إلى أنَّ هؤلاء الذين يتنفسون بسرعةٍ وتنفساً سطحياً قد يتسبَّبون جسدياً في تحفيز حالتهم العاطفية السلبية، وقد يكون التنفس بشكلٍ أفضل قادراً على إلغاء هذا التأثير.

لقد أظهرت بعض الدراسات أنَّه عندما تعيد تدريب أنماط التنفس لدى شخص ما، يمكنك تقليل مستويات قلقه، وقد تؤثِّر بدورها العواطف أيضاً في تنفسنا؛ ففي الطب الصيني التقليدي - وهي فلسفةٌ يرتبط فيها كلُّ عضو بعاطفة مختلفة - ترتبط الرئتان بالحزن والأسى.

فإنَّ الحزن رد فعل طبيعي تجاه الألم والخسارة؛ ولكنَّه قد يكون قاسياً أيضاً على الجسم، وكلَّما حزنا لمدةٍ أطول زاد الضرر الذي يمكن أن يحدثه؛ إذ لم يتمكن العلم الحديث إلا في الفترة الأخيرة من فهم كيفية إضعاف التوتر النفسي لجهاز المناعة؛ ولكنَّها فكرةٌ فهمها الطب الصيني منذ آلاف السنين.

يصف اختصاصي الوخز بالإبر الأسترالي واختصاصي العلاج بالأعشاب الصيني "أوليفييه ليجوس" (Olivier Lejus) في المجلة الإلكترونية "نوفا" (NOVA) كيف تجلت هذه العلاقة بين الرئة والحزن في حياته الخاصة بعد وفاة والده؛ إذ سافر "ليجوس" إلى فرنسا لحضور الجنازة؛ ولكنَّه مرض فور وصوله؛ فأمضى معظم رحلته في السرير مصاباً بعدوى في الجهاز التنفسي.

كتب "ليجوس": "عندما تطغى علينا هذه المشاعر أو لا نستطيع التعبير عنها، فإنَّ ذلك يؤدي إلى ضعف الرئتين؛ إذ تنخفض مناعتنا ويمكن بسهولة أن نصاب بأمراض الجهاز التنفسي".

عملية التنفس

بعض النصائح لتنفس أفضل:

ثمَّة عدة عوامل تؤثر في جودة تنفسنا، فيمكننا اتخاذ خطوات لمعالجة هذه المشكلات وضمان حصولنا على الأوكسجين الذي نحتاج إليه بشكل أفضل.

البيئة:

لقد أدرك الناس منذ مدة طويلة أنَّ الهواء النظيف والنقي ضروريٌّ للصحة الجيدة، وما تزال الأدلة الداعمة لهذه الفكرة تزداد يوماً بعد يوم، فليس عليك إلا أن تضع في الحسبان الضرر الناجم عن بعض الأنشطة، مثل التدخين واستنشاق المذيبات لفهم ذلك جيداً.

لكنَّ الهواء الملوَّث لا يتعلق بعاداتنا الشخصية فقط؛ إذ يمتلئ الهواء في أيامنا هذه بكثير من المواد السامة لخلايانا؛ فالانبعاثات من المصانع والمركبات والعطور الاصطناعية والمواد الكيميائية المنبعثة من منتجات عديدة في منزلنا ومكاتبنا؛ جميعها تلوِّث الهواء الذي نتنفسه.

فعندما نعيش في مدنٍ ذات نوعية هواء رديئة، فإنَّ صحة رئاتنا تتأثر؛ لذا علينا جعل صحة الرئة قضية صحة عامة.

ابحث عن النباتات لكي تحصل على هواء نقي؛ إذ تعدُّ النباتات شريكاً طبيعياً في التنفس لأنَّ تنفسها يكمل تنفسنا؛ فهي تمتص ثاني أوكسيد الكربون وتطرح الأوكسجين، وإذا لم تتمكَّن من التنزه في الغابة بالقدر الذي تريده يمكنك أن تقتني بعض النباتات، كنبتة العنكبوت، أو نبتة لسان الحماة؛ إذ تتطلب هذه الأنواع القوية القليل من العناية، وهي من أفضل منظفات الهواء أيضاً.

وضعية الجسم:

تتراجع وظيفة الرئة عادةً بحلول الثلاثينيات من العمر، وقد ينجم ذلك جزئياً عن سوء وضعية الجسم؛ إذ يتغير شكل العمود الفقري العلوي، والمنطقة المحيطة بالرئتين عادةً مع تقدمنا في العمر، ونتيجةً لذلك نأخذ أنفاساً أقصر وأقل عمقاً، ونتعب بسرعة أكبر ممَّا اعتدنا عليه عندما كنَّا أصغر سناً؛ لأنَّ أجسامنا تضطر إلى العمل بجهد أكبر لتوصيل كمية الأوكسجين نفسها إلى الدم.

يزداد عادةً تقوُّس الجزء العلوي من الظهر بمقدار 10 درجات عند بلوغ عمر 60 عاماً، إضافة إلى ذلك فإنَّ الأربطة الشوكية لدينا عادةً ما تصبح متيبسة وتفقد مرونتها، ولقد أثبتت الأبحاث أنَّ هذا المزيج من تشوه العمود الفقري وصلابة الأربطة يُقلِّل سعة الرئة؛ ومن ثمَّ يؤثِّر سلباً في قوتنا وصحتنا ومقدار تحملنا؛ ولكنَّ العلاج بسيط: اجلس منتصباً وقِف منتصباً.

إقرأ أيضاً: أسباب وأعراض التهاب الجهاز التنفسي عند الأطفال

التمرينات الرياضية:

يوصي خبراء اللياقة البدنية لزيادة سعة الرئة بالتمدد لفتح الصدر، وإخضاع رئتيك لقليل من تمرينات المقاومة، فضع يدك على بطنك واستنشق من خلال الأنف مع دفع البطن برفقٍ للخارج، وازفر ببطء مع اتخاذ الشفتين شكلاً دائريَّاً وأنت تدفع برفق إلى الداخل وإلى الأعلى على البطن بيدك للمساعدة على إفراغ الرئتين تماماً، وسحب السرة إلى العمود الفقري.

إضافة إلى تقوية عضلات البطن، فإنَّ هذه التمرينات ستساعد على تنظيم التنفس إذا أُصيب المرء بضيق في التنفس، وخاصةً في أثناء النشاط الجسدي؛ إذ سيساعد هذا النوع من التنفس المرء أيضاً على اجتياز أيِّ نشاط يعاني فيه ضيقاً في التنفس.

يؤدي مزيد من التمرينات إلى تنفس أفضل؛ فالرئتان مثل كثير من أعضائنا تفقد وظيفتها إذا لم نستخدمها؛ فعندما تمارس الرياضة سواءً الجري أم المشي السريع أم صعود السلالم، فإنَّك تأخذ أنفاساً أعمق وأكثر تواتراً، فتُمدد تلك الأنفاس العميقة الرئتين وهذا التمدد صحيٌّ لهما.

المصدر




مقالات مرتبطة