أسرار التوازن بين التشغيل والرؤية الاستراتيجية
يبدأ كثيرٌ من المديرين المتوسطين يومهم بإيميلات عاجلة، ومكالمات متكررة، وحل مشكلات صغيرة هنا وهناك، ثم ينتهي اليوم وهم لم يقتربوا خطوةً من هدفهم الاستراتيجي.
وتكون النتيجة عندها:
- يراهم الفريق "موظفين كبار"، لا قادة.
- تراهم الإدارة مشغولين، لكن بلا أثر.
يشبه هذا لاعب شطرنج يقضي وقته كلّه في تحريك البيادق… بينما يخطط خصمه لإسقاط الملك؛ أي "كلما غرقت في التفاصيل… فقدت قدرتك على القيادة".
مفتاح اللعبة: "دوري أن أوجّه، لا أن أغرق"
"القائد الناجح هو من يجعل الآخرين ينجزون العمل بإتقان، لا من ينجزه عنهم". بيتر دراكر.
لا يُقاس المدير الحقيقي بعدد الملفات التي أنجزها بيديه أو بعدد المشكلات الصغيرة التي تصدّى لها شخصياً، بل بمدى قدرة فريقه على العمل بسلاسة دون أن يتوقف عند كل تفصيلة. حين يغرق القائد في الإدارة التشغيلية اليومية، يفقد البوصلة التي تقوده نحو التفكير الاستراتيجي. يجعل هذا كثيراً من المديرين المتوسطين أشبه بموظفين كبار، يركضون طوال اليوم خلف البريد الإلكتروني أو أعطال النظام، بينما استطاعت الشركات العالمية مثل (Amazon) أو (Toyota) أن تُبرز دور القائد كمنظّم وموجّه لا كمنفذ، فكانت النتائج نمواً أسرع وقدرة أكبر على التوسع.
يدرك القائد الذي يفهم هذا المعتقد أنّ النجاح لا يعني أن يكون "البطل الفردي"، بل أن يبني نظاماً يتيح لفريقه حل التحديات اليومية، فيما يوجه هو النظر نحو المستقبل. يظهر هنا التفويض الفعّال كأداة استراتيجية، حيث يصبح الفريق أكثر استقلالية، والوقت الذي يتحرر من التفاصيل يُستثمر في إدارة الوقت الذكية ومتابعة اتجاهات السوق.
بمعنى آخر: يحوّل القائد الذي يوجّه ولا يغرق، حضوره من "مُصلّح أعطال" إلى "بوصلة" تحدد الطريق. وهذا هو جوهر القيادة الحديثة: تركيز على التأثير والاتجاه الكبير، لا الانشغال المرهق بالتفاصيل.
شاهد بالفيديو: 6 علامات تشير إلى أنّ الشخص يتمتع فعلاً بمهارات القائد
وصفة النجاح: كيف تخرج من فخ الغرق في التشغيل؟
يعرف القائد الذكي أنّ الوقت أثمن أصوله؛ إذ يحميه توزيع متوازن بين التشغيل والرؤية الاستراتيجية من الغرق في التفاصيل ويقوده نحو قيادة مؤثرة وفعّالة. لذا، لتحقيق ذلك، اتبع النصائح التالية:
1. قسّم وقتك بوعي
"من لا يجد وقتاً للتخطيط، سيضطر أن يجد وقتاً لمواجهة الأزمات". ستيفن كوفي.
أحد أسرار القيادة الفعّالة هو معرفتك كيف توزّع وقتك بوعي بين المهام؛ إذ لا يترك القائد الناجح يومه يُسحب بالكامل نحو الإدارة التشغيلية، بل يوازن بين المتابعة اليومية والتخطيط الطويل الأمد. كشفت دراسة أجرتها (McKinsey) في عام 2020 أنّ القادة الذين يخصصون قُرابة 70% من وقتهم للتشغيل، و30% للتفكير الاستراتيجي، يحققون نمواً أسرع بنسبة 25% مقارنةً بغيرهم. لا تُعد هذه النسبة قاعدةً جامدة، لكنّها دليل عملي لتذكيرك أنّ وقت التفكير هو استثمار، لا ترف. وبينما انشغل بعض المديرين في أوروبا بالتفاصيل اليومية، استغلت شركات مثل (Spotify) الوقت الاستراتيجي للابتكار والريادة.
2. درّب فريقك على حل مشكلاته
"يعلّم القائد العظيم فريقه بصبر، ثم يقوده إلى النصر. القائد العظيم يقود في الطليعة عند الخطر، ويتحمّل مسؤولية الفشل". رالف نادر.
يقيّد القائد الذي يتعامل كـ "المصلّح الدائم" فريقه بدل أن يطوّره. الحل ليس أن تنغمس في حل كل عثرة يواجهها فريقك، بل أن تدربهم على التفكير التحليلي والبحث عن الحلول بأنفسهم. ففي (Google) مثلاً، يُطبّق مبدأ: (Coach the problem, don’t solve it)؛ إذ يُشجع المديرون الموظفين على اقتراح الحلول قبل رفعها للإدارة؛ إذ يبني هذا الأسلوب الثقة ويزيد من استقلالية الفريق.
في المقابل، تعثّرت كثيرٌ من الشركات في أوروبا الشرقية؛ إذ ظلّ المديرون يحتكرون القرارات الصغيرة، مما أعاق النمو. يصبح التفويض الفعّال هنا أداة لبناء قادة صغار داخل الفريق، لا مجرد منفذين.
3. ضع حدوداً لما تتدخل فيه
"ليست كل المعارك تستحق أن تُخاض". صن تزو.
من أكبر أخطاء المدير أن يظن أن كل مشكلة تستحق تدخله الشخصي. فالقائد الفعّال يعرف أن بعض القرارات يمكن تفويضها، وأخرى يمكن تجاهلها؛ لأنّها لا تؤثر في الاتجاه الكبير.
أشار "جيف بيزوس" إلى أنّ القرارات القابلة للتغيير لاحقاً، لا ينبغي أن تستهلك وقت القائد. بالتالي، جعل هذا المبدأ (Amazon) أكثر رشاقةً في اتخاذ القرارات. في المقابل، تراجعت شركات أوروبية متوسطة الحجم لأنها علقت في دوامة اجتماعات مطولة حول قرارات ثانوية. يحدد القائد الناجح بوضوح حدود تدخّله، فيضمن إدارة وقته بذكاء، ويحافظ على تركيزه على القضايا الاستراتيجية.
4. ابنِ نظام متابعة بدل المتابعة اليدوية
"ما لا يمكن قياسه، لا يمكن تحسينه". بيتر دراكر.
يستهلك القائد الذي يعتمد على المتابعة اليدوية طاقته في التفاصيل اليومية، بينما القائد الذكي يبني نظاماً يراقب الأداء نيابة عنه. تبرز هنا أهمية مؤشرات الأداء (KPIs) كأداة تجعل الإدارة التشغيلية أكثر وضوحاً وأقل استنزافاً.
على سبيل المثال، اعتمدت شركة (Toyota) على مؤشرات مرئية (Visual KPIs) تُعرض في ساحات العمل، مما يسمح للقادة برؤية وضع الفريق في لحظة واحدة دون الغرق في الاجتماعات المطوّلة.
في المقابل، شركات صناعية في شرق أوروبا خسرت تنافسيتها؛ لأنّها اعتمدت على التقارير اليدوية البطيئة. يوظّف القائد الفعّال هذه الأدوات ليحرر وقته من التفاصيل ويركز على التفكير الاستراتيجي.
5. فرّغ وقتك للتفكير الاستراتيجي
"العقل الذي لا يجد وقتاً للتفكير، سيضطر دائماً لإطفاء الحرائق". ستيفن كوفي.
يعرف القائد الناجح أنّ تخصيص وقت للتفكير ليس رفاهية بل ضرورة. ساعة أسبوعياً قد تغيّر مسار الفريق بالكامل إذا استُثمرت في قراءة تقارير السوق، متابعة المنافسين، أو حتى الاستماع المباشر للعملاء.
كان الرئيس التنفيذي لـ (Starbucks)، "هوارد شولتز"، يقضي وقتاً خارج المكتب ليستمع إلى آراء الزبائن، مما ساعده على تطوير منتجات تلبي توقعاتهم. في المقابل، تراجعت بعض الشركات في أوروبا الشرقية؛ لأنّها أهملت مراقبة تغيرات السوق وظلت عالقة في التشغيل فقط. ومنه، بتخصيص وقت استراتيجي منتظم، يتحول القائد من مدير يومي إلى صانع مستقبل، جامعاً بين إدارة الوقت والرؤية البعيدة.
6. تذكّر: القيادة ليست في الانشغال… بل في التأثير
"القائد هو الذي يلهم الآخرين ليحققوا أكثر مما كانوا يعتقدون أنهم قادرون عليه". د. طارق السويدان.
لا يعني الانشغال المستمر بالضرورة قيادةً فعّالة؛ إذ يقضي كثيرٌ من المديرين أسبوعهم في معالجة تفاصيل صغيرة، ثم يكتشفون أنّهم لم يقتربوا خطوة من الهدف الأكبر.
القيادة الحقيقية هي التأثير، أي أنّ تترك بصمةً استراتيجيةً تقود الفريق نحو إنجاز ملموس. تؤكد دراسة نشرتها (Harvard Business Review) في عام 2019 أنّ مجرد طرح سؤال بسيط كل أسبوع: "ما الذي فعلته ليقرب الفريق من هدفه الأكبر؟"، يغيّر جذرياً طريقة إدارة الوقت. بينما انشغلت شركات صناعية في شرق أوروبا بالمشكلات التشغيلية حتى فقدت حصتها السوقية، استثمرت شركات مثل (Siemens) وقت قادتها في التوجهات الاستراتيجية، فحافظت على تنافسيتها.
ختاماً
يجعلك الغرق في التفاصيل تبدو مشغولاً، لكنّه يسرق منك هويتك القيادية. لذا تذكّر: الفريق يحتاج إلى بوصلة، لا إلى "موظف أكبر". القائد الناجح هو من يعرف متى يرفع رأسه عن التفاصيل ليرى الطريق.
"من يغرق في اليوم… يُضيِّع الغد". عبد الرحمن الطريري.