والجميع يتفق على ان عمل الاطفال يمثل مشكلة ملحة من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية ومن ناحية حقوق الانسان.. واستنادا الى الاحصائيات فإن منظمة العمل الدولية تـقدر بأن هناك حوالي 250 مليون طــفل بين ســن الخامـسة والرابعة عشرة يعـملون في الدول النامية وحدها، محرومون من التعليم المناسب والصحة الجيدة والحريات الأساسية ويدفع كل طفل من هؤلاء ثمنا فادحاً لهذه المعاناة حـيث ان حوالي 50% منهم او ما يقدر بـ120 مليونا يعملون لكل الوقت في حين يدمج العدد الباقي ما بين العمل والدراسة . ويعمل في بعض الحالات 70% تقريباً من الاطفال في اعمال خطرة. وهناك من بين العدد الكلي هذا ، حــوالي 50-60 مليون طفل بين سن الخامسة والحادية عشرة ممن يعملون في ظروف يمكن اعتبارها خطيرة نظراً لصغر سن هؤلاء الاطفال وهشاشة قدراتهم. فهل عمالة الأطفال تمثل ظاهرة في البحرين؟ وما قصص ودوافع الأطفال الذين اختاروا الرجولة المبكرة؟ وهل هناك احصائية تكشف عدد العاملين من الأطفال والظروف التي اجبرتهم على العمل؟ وما التحليل الاجتماعي لعمل الصغار؟ هذا ما سيوضحه التحقيق التالي: فصلوني من المدرسة التقينا الطفل (موسى جعفر) البالغ من العمر 14 عاما الذي يعمل في الحمالة بالسوق المركزي قال: كنت أحد المنتظمين في صفوف الدراسة الا اني تعاركت مع احد المدرسين، الأمر الذي جعل ادارة المدرسة تتخذ قرار الفصل بشأني وبعد ذلك كرهت الدراسة ولم تعد ليّ رغبة في اكمال تعليمي ومللت جلوسي في المنزل دون عمل، فاقترح أحدهم عليّ ان انضم إليه في صيد السمك وبالفعل شاركته عملية الصيد رغم انها كانت محفوفة بالمخاطر وشاقة بالنسبة إلى طفل في سني. وبين موسى أنه ترك صيد السمك فيما بعد وزاول الحمالة في السوق المركزي كونها مهنة اسهل وآمنة اكثر من الصيد. وأكد أنه اختار العمل في هذه السن ليملأ فراغه وليتمكن من الاعتماد على نفسه والحصول على المال بالطرائق الشريفة والمشروعة. من جانبه اوضح (جاسم محمد) 17 عاما انه اجبر على العمل في سن مبكرة بسبب حاجة أسرته الماسة إلى المال خصوصا انه الوحيد الذي يعمل بين اخوته الصغار حيث انه لم يكن يملك الخيار في مواصلة الدراسة فترك المدرسة وبحث عن اعمال تناسبه ليؤمن حياة كريمة لوالده المتقاعد ووالدته واخويه. وبين أنه غير نادم على ترك الدراسة لأنه تعلم الكثير من مدرسة الحياة حيث ساهمت التجارب والمواقف التي تعرض لها في ان يتعرف إلى مشاق الحياة وان يأخذ حقه بيده وهو الذي لا تعلمه الكتب والمناهج المدرسية. واضاف ان المنافس الوحيد في مهنة الحمالة هم الآسيويون الذين يزاحمون المواطنين حتى في هذه الاعمال البسيطة ويأخذون الرزق منهم، ويأمل في أن يكتب الله له التوفيق في ان يحصل على مهنة أفضل وراتب يغطي مصاريفه اليومية هو وأسرته. من أجل أسرتي وشاركنا الطفل (زهير مهدي) 16 عاما يعمل في تنظيف قارورات المياه في إحدى الشركات الخاصة بقوله: تم فصلي من صفوف الدراسة بسبب رسوبي عامين متتاليين فاتجهت للعمل من اجل مساندة اخوتي الكبار في قضية الصرف على المنزل حيث لجأت إلى إحدى مقاولات البناء مدة أشهر إلا أن المهنة كانت تعرضني للكثير من المشاق والخطورة والانهاك بسبب العمل المتواصل تحت اشعة الشمس الحارقة، الأمر الذي دعاني إلى تغيير عملي لعدم تحملي الاجواء المرهقة رغم ان الاجر كان مغريا. وأكمل زهير أنه حصل على وظيفة أخرى براتب اقل في إحدى شركات المياه الخاصة وهو الآن يعمل بها منذ ما يقارب العام ويتمثل عمله في تنظيف قارورات المياه وترتيبها بشكل معين، وذكر انه لم يلجأ الى وزارة العمل في البحث عن وظيفة تناسبه بسبب ما سمعه عن الوزارة بأنها لا تملك اعمالا كافية للمتقدمين لذلك اعتمد على نفسه في عملية البحث. ويتمنى ان يتمكن من اكمال دراسته من خلال التعليم المسائي ليحصل على الشهادة الإعدادية ويتبعها بالثانوية ويتمكن من تحسين وضعه المالي والاجتماعي. العمل في البناء شاق من جانب آخر يؤكد لنا (عمار محمد حسين) انه غير نادم على ترك الدراسة منذ الصف الثاني الاعدادي كونها لا تقدم شيئا للإنسان ولا تساعده في حل مشاكله ورغم انه واصل تعليمه بالنظام المسائي نتيجة رسوبه أكثر من مرة فإنه لم يحتمل الوضع اكثر من عام على هذا الحال وترك الدراسة مع ان أسرته مستاءة من تصرفه وليس لها حديث في المنزل الا معاتبته على ذلك وحثه مجددا على الاندماج في سلك التعليم لضمان مستقبله الوظيفي. وبيّن عمار انه عمل مدة عامين موزعا للمواد الغذائية في إحدى الشركات وبعدها ترك العمل إلى شركة مقاولات مدة 4 أشهر لكنه لم يتمكن من تحمل الاجواء المرهقة والمتعبة تحت حرارة الشمس الحارقة فقدم استقالته اثناء كتابة هذا التحقيق وهو يبحث حاليا عن عمل مناسب يستطيع من خلاله تأمين العيش الكريم. وذكر انه يساهم في مصروف المنزل إلا أنه ليس الوحيد الذي يعمل بين اخوته، كما أشار إلى أنه ذهب إلى وزارة العمل التي عرضت عليه مهنة العمل بناء في شركة المقاولات لذلك سيقوم بنفسه بالبحث عن وظيفته القادمة. الظروف قاهرة واقتربنا من (حسن محمد صالح) 18 عاما الذي يعمل لدى إحدى شركات النظافة ويتمثل عمله في تنظيف الشوارع حيث بيّن انه نتيجة للمشاكل المتراكمة الذي تعرض لها أيام الدراسة اضطر إلى ترك المدرسة منذ المرحلة الإعدادية ولم يكن لديه أي اعتراض على العمل عامل نظافة للحصول على الراتب إلا أنه يناشد المسئولين في الجهات المختصة ان يرفعوا من رواتب المواطنين العاملين في هذه الوظائف الدنيا. أما (منهر جاسم) البالغ من العمر 14 عاما الذي يعمل في «الحمالة« بالأسواق المركزية فيشير إلى أن والده متزوج من أخرى وانه لديه 9 اخوة لذلك اضطرته الظروف المعيشية القاسية إلى أن يعمل ويكد على نفسه ويساهم في مصروف المنزل حيث إنه يدرس في الفترة الصباحية ويعمل في أوقات فراغه وخصوصا أيام الإجازة الرسمية ومضى على حاله هذا أكثر من عامين. ماذا يقول الاجتماعيون؟ وفي تعليق لمدير الدراسات الاجتماعية والتربوية والسياحية بمركز البحرين للدراسات والبحوث الدكتور راشـد نجـم حول قضيتنا ذكر أن الدراسات تشير إلى أن معظم هؤلاء الأطفال يعملون في ظروف قاسية ويتقاضون أجورا زهيدة أو يعملون لمجرد الحصول على الطعام أو المأوى، والخطير في الأمر أن هذه الدراسات الدولية تؤكد أن أعداد هؤلاء الأطفال في تزايد باستمرار، وذلك بسبب ظروف المعيشة المنخفضة للأسر التي ينحدر منها هؤلاء الأطفال والتي تدفعهم هذه الظروف إلى إرسال أطفالهم إلى هذه الأعمال القاسية بعد أن فشلوا في إرسالهم إلى المدارس. وأكد د. راشد نجم أن مشكلة عمل الأطفال دون سن السادسة عشرة لا تشكل ظاهرة بالمعنى المتعارف عليه في البحرين، ولكنها تمثل مشكلة قائمة وتطرح نفسها على انها جزء من مفرزات عصرنا الراهن إذا ما تركت دون حل فقد تصبح في يوم من الأيام ظاهرة يصعب علاجها. لذلك فان البحرين في السياق العام المعاصر قد لا تختلف عن الكثير من الدول العربية التي قد يضطر بعض الأطفال دون سن الرابعة عشرة للعمل سعيا وراء إيجاد مصدر للرزق. وحيث أنه لا توجد إحصاءات رسمية عن عدد هؤلاء الأطفال الذين يقومون بمثل هذه الأعمال ولا نوعية الأعمال التي يمارسونها، فان المشاهدة والملاحظة لمواقع وجودهم تمكناننا من الاستدلال على أن المهن التي يمارسها هؤلاء الأطفال تنحصر في القيام بغسل السيارات في المواقف العامة للسيارات وكذلك في البيوت، ونقل مشتريات الزبائن وتوصيلها إلى سياراتهم في الأسواق المركزية، وتنظيف الأسماك التي يقوم الزبائن بشرائها من أسواق السمك المختلفة في مناطق البحرين، والقيام بإنجاز بعض الأعمال مثل أعمال البناء ونقل المخلفات نظير أجر يومي أو أجر متفق عليه لإنجاز العمل كله. وبيّن انه بالإضافة إلى ما تم ذكره قد تكون هناك أعمال أخرى يقوم بها هؤلاء الشباب الصغار إما من قبيل اثبات الذات وإما التغرير وإما الحاجة ذات أبعاد خطرة على المجتمع وعلى الأطفال أنفسهم مما يترك آثارا اجتماعية سلبية مثل تعاطي المخدرات والإدمان والسرقات وارتكاب الجرائم وغيرها مما يدفعون دفعا إلى القيام به تحت إلحاح الحاجة وصغر السن من قبل أفراد أو مؤسسات غير أمينة عليهم ولا على مستقبل الوطن. دوافع عمل الأطفال وقال: نظرا لعدم وجود دراسات اجتماعية ميدانية عن أسباب تنامي مشكلة عمل الأطفال في البحرين من قبل المؤسسات البحثية والجمعيات المتخصصة تحدد الدوافع والأسباب التي تجبر من يجلسون على مقاعد الدراسة من الأطفال على ترك مدارسهم والانخراط في سوق العمل سوى ما ينشر من تحقيقات صحفية بين الحين والآخر، يمكن تلخيص الدوافع على الشكل التالي: تزايد حدة الفقر مما يضطر بعض الأسر إلى الدفع بأطفالهم للعمل وترك الدراسة، وتدني مستوى التعليم والتسرب من المدرسة وهذه ظاهرة مقلقة للمهتمين والمخططين للتعليم، وتدني العائد الاقتصادي والاجتماعي للعديد من الأسر التي تعول هؤلاء الأطفال، وكثرة الأبناء لآباء محدودي الدخل لكنهم متزوجون من أكثر من زوجة ويسكنون جميعا الزوجات والأبناء في بيت واحد ينوء بهم وغير قادر على تلبية احتياجاتهم المعيشية والاجتماعية والتعليمية ومراعاة فروقهم الفردية، وانتشار ثقافة الاستهلاك وعولمة الاقتصاد التي تدفع بالكثيرين إلى الرغبة في المظاهر الاستهلاكية مبكرا. وتابع انه انطلاقا من فهم العوامل المسببة لهذه المشكلة التي يبدو أنها في ازدياد فإن القضاء عليها أو الحد من خطورتها هو أمر غاية في التعقيد ويحتاج إلى تضافر جهود مختلف الأطراف ليؤدي إلى القضاء التدريجي أو التقليص من حجم هذه الظاهرة أو منع دخول أعداد جديدة إلى سوق العمل. الحلول المقترحة ويرى مدير الدراسات الاجتماعية والتربوية والسياحية بمركز البحرين للدراسات والبحوث أن الإجراءات التالية فيما لو تم تطبيقها ستكون عاملاً مساعداً على الحد منها، والإجراءات المطلوبة هي كالتالي: الالتزام بالاتفاقيات الدولية الصادرة من قبل منظمة العمل الدولية وغيرها من المنظمات مثل اليونسكو وغيرها كوسيلة حمائية بمتابعة التصديق عليها ومراقبة تنفيذها لحظر عمل الأطفال، وتصدي وزارات الدولة المعنية ومؤسساتها للقيام بدور فاعل في معالجة هذه المشكلة من خلال أجهزتها التنفيذية، وأهمية توافق أعضاء مجلس النواب ومجلس الشورى ومؤسسات المجتمع المدني بأطيافها كافة على أساليب وإجراءات معالجة مشكلة عمل الأطفال وفق خطة يتفق على جدولة تنفيذها. إلى جانب ذلك تكثيف الندوات العلمية والدورات التدريبية والحلقات النقاشية في مجال عمل الأطفال وكيفية الحد منه، وتوظيف وسائل الإعلام المختلفة لنشر الوعي للحد من عمل الأطفال وفق خطة مدروسة تهتم بثقافة الطفل في البحرين، ودعم أجهزة التفتيش العمالي التابعة لوزارة العمل وتطوير أساليبها وإعداد المفتشين المدربين والقادرين على تتبع مشكلة عمل الأطفال والتأكد من تطبيق القوانين الخاصة بمنع عمل الأطفال. مصرية تترأس أول جمعية لمحاربة عمالة الأطفال نشر مؤخراً خبر عن إنشاء أول جمعية لمحاربة عمالة الأطفال بجمهورية مصر العربية نظراً لما تشكله هذه القضية من ابعاد إنسانية خطيرة على فئات عريضة وضعيفة لها الحق في الاستمتاع بحياة طيبة وآمنة. تقول حنان الصعيدي رئيسة الجمعية في إحدى المجلات: إن الجمعية ستتعاون مع المجلس القومي للطفولة والأمومة ووزارة القوى العاملة والاتحاد العام لنقابات عمال مصر بهدف معالجة هذه القضية وان تصورها للحل يكمن في ايجاد صيغة متوازنة بين اطراف العمل وإنشاء فصول لمحو الأمية واستقطاب المتسربين من التعليم والتعاون مع الجهات المعنية لجمع البيانات المطلوبة والمعلومات عن الأطفال العاملين بالإضفة إلى وضع برامج تدريبية وحرفية للأطفال العاملين لرفع مهاراتهم وقدراتهم مؤكدة أن التصدي لهذه المشكلة يستلزم تغيير الانماط الاقتصادية والاجتماعية بالمجتمع. ووسط موجة إنشاء الجمعيات الأهلية والسياسية بالمملكة بهذا الكم المبالغ فيه هل هناك أمل في إنشاء جمعية على غرار هذه الجمعية المصرية.. قبل ان تصبح عمالة الأطفال بالبحرين ظاهرة؟
أضف تعليقاً