لكن الحقيقة التي نطق بها كتاب الله تعالى تلخص الحدث، فلا يتم التغير نحو الأفضل عن طريق نُظم وأفكارٍ مستوردة، إنما القضية أن يكون التغير من الداخل، مصداق ذلك قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دون من وال} [الرعد: 11].
ولعلّ للإعلام الإسلامي الدّور الكبير في حركة التغير، وذلك من خلال التأكيد على أهم وظائفه، ويأتي في مقدمتها:
1- الإعلام بالدين الإسلامي (التعليم والتوجيه):
والإعلام الإسلامي هنا يُوجَّه إلى المسلمين وغير المسلمين، أي على المستويات الداخلية والخارجية، للإعلام بالدين نفسه، للمؤمنين به وغير المؤمنين في كل مكان.
فأما المسلمون المؤمنون برسالة الإسلام فيوجَّه الإعلامُ الإسلامي إليهم في هذه المرحلة من مراحله لتعليمهم دينهم، ولكشف بعض الجوانب التي ربما جهلوها عن الإسلام. ويجب أن يكون الإعلام في هذه المرحلة محتوياً على تعليم واضح ومُحبَّب للمناسك والشعائر الدينية، ليس هذا فحسب، وإنما تعليم كيفية المعاملات الإسلامية والسلوك الإسلامي القويم، كحسن الخلق، وحسن الحديث، وحسن معاملة الناس، وما يأمر به الإسلام من حسن الجوار، وبر الوالدين، والرحمة للصغير، وتوقير الكبير.
ووظيفة الإعلام الإسلامي هنا إنما هي الإرشاد والتوجيه والتعليم بالطرق المباشرة وغير المباشرة، فلا يجب أن يقتصر الأمر على الأحاديث الدينية بالطرق الجافة، المحتوية على الأمر والنهي بصورة مباشرة، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو على شاشات التليفزيون، وإنما إلى جانب ذلك يجب أن يكون هناك فنّ الحوار، وهناك إعمال للفكر في كيفية توصيل الرسالة الإعلامية المشتملة على التعليم الديني بالصورة المحبّبة الجذّابة وغير المباشرة، فالتعليم المباشر شاقّ على النفس البشرية في بعض صوره، لا سيما التعليم الموجَّه للأطفال، فيجدر أن يقترن بأسلوبٍ قصصي مشوِّق جذَّاب، وأن ترافقه المتعة الهادفة، وأن يُجْريه أناس متخصصون في فن تعليم وتربية الصغار، وأن يكونوا من الحاملين لأرقى الشهادات العلمية في المجتمع.
كما يجب أن يمارس الإعلام الإسلامي هذه الوظيفة مستخدماً ضرب الأمثلة والأساليب الفنية غير المباشرة، كالتمثيليات والقصص الطريفة، التي تؤخذ منها العبر والأمثال، ولاستخلاص القيم المفيدة النافعة للجماهير المستقبلة في حياتها، سواء في العبادات أو المعاملات، أو الآداب والأخلاق العامة.
غير أنه يجب التنبيه هنا إلى أننا إذا تناولنا بعض القصص أو الأمثلة لتقديمها عن طريق المعالجة التمثيلية أو غيرها من الأساليب الجذّابة، فإنه يجب تحرّي الدقة والأمانة، سواء في ناحية العرض نفسه، أو في ناحية تناول المادة العلمية التي تمثّل مضمون أو محتوى الرسالة الإعلامية، فلا بدّ من أخذ هذه المضامين من كتب التراث، وهنا أشير إلى أن بعضهم يحلو لهم إعادة كتابتها بشيءٍ من التحوير أو التحريف. وسواء حدث ذلك بسوء نية من أجل التحريف والتضليل، أو حدث بحسن نيّة من أجل تسهيل وتبسيط العرض، إلا أنه يجب على رجال الإعلام الإسلامي تحرّي الدقة حين تناول مادتهم العلمية والرجوع إلى كتب الحديث الصحيحة وكتب التراث الأصيلة للوقوف على صحة الروايات، وللتأكد من سلامة النقل، حتى لا تنتقل إلى الجمهور المستقبل معلومةٌ خاطئةٌ، سواء كان الخطأ قليلاً أو كثيراً، ذلك أن الخطأ القليل في مظهره في النقل، قد يؤدي إلى تغير الكثير من المدلولات أو المفاهيم، أو تغير بعض الاستنتاجات التي يمكن أن يستخلصها المستقبل.
ووظيفة الإعلام الإسلامي إذن كشف مثل هذه المغالطات والردّ عليها، والقيام بمهمة الإعلام عن الإسلام، وبيان حقائقه، ومبادئه العظيمة، وتعليمها للمسلمين ولغير المسلمين.
فأما تعليمها للمسلمين فيكون بتعليم الشعائر، وبيان الأجر والمثوبة وتعميق الإيمان لدى المؤمنين، والتذكير دائماً بأعمال الخير، حتى يسعد المؤمنون في دنياهم وفي آخرتهم.
وأما غير المسلمين فيجب أن يقوم الإعلام الإسلامي بشرح الدين لهم بطرق عملية وغير مباشرة، ويجب ألا يتم ذلك في صورة دعاية، أو في صورة حث على الدخول في الإسلام بأيِّ صورة من الصور، وإنما يجب عرض فضائل الإسلام حتى يحبّها غير المسلمين، فإذا ما أحبّوها وسألوا عنها، فإنه في هذه المرحلة يجب إعلامهم بالدين وتعليمهم إيّاه(1).
2- تنظيم حياة البشر على أسس سليمة مستمدة من الإسلام:
كما هو معروف، فلا ينحصر معنى الإسلام في أداء الشعائر والعبادات فقط مع إهمال النواحي السلوكية والخلقية، وإنما الإسلام منهج حياة، وهو دين يربط العبادات بالمعاملات، في علاقة ثنائية مزدوجة، فما مِنْ عبادةٍ في الإسلام، فردية كانت أو جماعية، إلا ولها أثر في المجتمع، قلَّ أو كثر، خَفي أو ظهر، وإن كانت الوظيفة الاجتماعية، أو الآثار العامة، تبرز أكثر وأكثر في العبادات الجماعية. فهو يأمر بالصلاة لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهو يأمر بالزكاة طهارة للمال وتكافلاً اجتماعياً بين الأغنياء والفقراء، وهكذا نجد أن الإسلام دينٌ يهتمّ أشدّ الاهتمام بتنظيم حياة البشر على وجه الأرض، ويهتمّ بإصلاح أمور دنياهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض على المستويات الفردية والجماعية.
ومن ذلك نجد أن الإسلام يأمر بصلة الرحم ويحثّ عليها، ويأمر بالإحسان إلى الجار، ويأمر بالإحسان إلى الفقراء، ويأمر بالبرّ وحسن المعاملة حتى مع المسيء، قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90].
وإن إحدى وظائف الإعلام الإسلامي تعليم المسلمين هذه السلوكيات عن طريق مختلف فنون الإعلام، وبثّ هذه القيم على هيئة مضامين ومحتويات البرامج والمقالات المختلفة، مكتوبة ومسموعة ومرئية، وذلك حتى تصل إلى جماهير المستقبلين في كل زمان ومكان كما أراد الله عز وجل لها، وكما أمر بها.
والإعلام الإسلامي يستطيع أن يقوم بهذه الوظيفة بطريقة غير مباشرة، مستخدماً أيضاً الأسلوب الفني الجذّاب، بالوسائل الحديثة المتطورة، مبتعداً عن الإسفاف والسقوط الذي نراه في كثير من التمثيليات الإذاعية، والتي تقوم بغرس كثيرٍ من القيم والعادات البعيدة عن أوامر الإسلام، والتي تهدف إلى هدم كثيرٍ من القيم الإسلامية الأصيلة، وما ذلك إلا لأن الأفكار القائمة عليها هذه البرامج والتمثيليات مستمدّة من إعلام الدول غير الإسلامية، بل المعادية للإسلام، والتي تتمنى هدم الإسلام وقيمه الأصيلة.
ومن الأمثلة الدالّة على ذلك ما نراه في بعض المسلسلات التليفزيونية، من بثّ الأفكار التي تبدو في ظاهرها أفكاراً بنّاءة، وقد تكون كذلك بالفعل، أو معالجة بعض المشكلات الاجتماعية، الموجودة في المجتمع بالفعل، والتي تمسّ حياة الأفراد بصورة مباشرة، لذا تجد هذه المسلسلات قبولاً من المشاهدين، بل تجد تعاطفاً من الجماهير وتوحّداً واندماجاً يؤدي إلى حدّ الإدمان على مشاهدتها والحرص عليها، خاصة ما يبذله المخرجون والممثلون من جهدٍ لإتمامها وإخراجها في أكثر صور الإثارة لتتم عملية الجذب، وبالتالي التأثير والتأثّر.
ويعيب هذه المسلسلات أمران يجب أن يتم تلافيهما في إنتاج المواد الإعلامية الإسلامية:
أولهما: الأسلوب الذي يتمّ به عرض هذه المسلسلات التمثيلية من خلاعةٍ ومناظر غير لائقة من نساءٍ عاريات، ومن ميوعةٍ في الأداء، علماً بأن هذه الأمور قد نهى عنها الإسلام صراحة، ومصداق ذلك قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59] ونهى عن ميوعة القول من النساء، فقال تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفا} [الأحزاب: 32].
ولأن المشاهد يحسّ أن ما يراه ويسمعه على شاشات التليفزيون شيء مثاليّ، ولو كان هذا عيباً أو عكس شرائع الإسلام لما تمّ التصريح بإذاعته على هذا النحو، وهذا الإحساس لدى جماهير المستقبلين بصفة عامة، ولدى الأطفال وقليلي التعليم بصفة خاصة،يؤدي إلى هدم القيم الإسلامية، وتعليم العادات والتقاليد المنافية لعادات وتقاليد الإسلام.
ثانيهما: طريقة معالجة المشكلات في حدّ ذاتها كثيراً ما تتمّ بصورة غير إسلامية، حيث نجد أن الغاية تبرر الوسيلة، وهذا غير صحيح.
فعلى سبيل المثال كثيراً ما نجد بطل المسلسل أو بطلة التمثيلية تضطر (في التمثيل) إلى الزنى مثلاً، أو السرقة، للوصول إلى هدف معين، مثل كسب لقمة العيش، أو الدفاع عن مظلوم، أو القيام بعمل وطني، أو نحو ذلك.
والغاية هنا جميلة، وهي الدفاع عن مظلوم، أو الأعمال الوطنية، أما طريقة أو وسيلة تحقيقها فغير شرعية، وعلى عكس أوامر الإسلام، وهي الوقوع في جريمة الزنى أو السرقة أو نحوها، والمخرج والمؤلف التليفزيوني يقوم بعرضها في صورةٍ تقنع المشاهد بأنه لولا فعل هذه الجريمة لما تمّ الوصول إلى هذه الغاية.
وهذا يدفع المشاهدين إلى سلوك مثل هذه الجرائم في حياتهم وتبريرها بمثل تلك التبريرات التي يرونها على شاشات التليفزيون، مما يغرس فيهم عادات وتقاليد وقيم، تبدو في ظاهرها أنه لا شيء فيها، بينما هي عكس القيم الإسلامية، وتتنافى مع ما أمر الله عز وجل به.
وقد حدث مثل هذا في الولايات المتحدة الأمريكية، حينما أنتجت بعض شركات السينما فيلماً عن محاربة المخدرات، وعندما قام رجال الإعلام بقياس تأثير ذلك الفيلم، وجدوا أن نسبة الذين يتعاطون المخدرات قد زادت عمَّا كانت عليه قبل عرض الفيلم، وبدراسة الموقف اتضح أن الفيلم هو السبب، حيث أبرز الذين يتعاطون المخدرات في صورة الأبطال من غير قصد، وهذا مع الفارق، ونسوق هذا المثال لبيان خطأ الوسيلة في الوصول إلى الغاية.
يَكْمُنُ دور الإعلام الإسلامي ووظيفته في عرض القيم والعادات والتقاليد والمبادئ الإسلامية السليمة الصحيحة الأصيلة، التي تسعد الناس جميعاً في حياتهم، وتؤدي إلى نشر الأمن والسلام والسعادة بين البشر، مسلمين وغير مسلمين، في كل مكان، وذلك بالأساليب الراقية الجذّابة المثمرة البعيدة عن الجفاف والغموض، حتى يتأثّر بها كل من يراها ويسمعها ويقرؤها، فيعمل بها(2).
3- بيان الحق ودفع الباطل والفساد:
إن الإعلام الإسلامي يعمل على بيان الحق وتزيينه لجمهور الناس، ويُقْصَد بالحق كل ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويستخدم في ذلك كل الطرق والأساليب والوسائل المشروعة، مع كشف زيف الباطل ووجوهه وتقييمه في نظر الناس بالطرق المشروعة، كل ذلك لجلب العقول نحو الحق، ورفض الباطل والبُعد عنه.
4- التربية:
يقوم الإعلام الإسلامي بدوره الكبير في التربية، ويُسمى الإعلام بالتربية الموازية، وتتمّ التربية والتعليم بطرق مباشرة وغير مباشرة، وتتطلب الخبرة والدراية وفهم العلاقات الإنسانية، والتعامل بالقدوة والمثل لتقريب الناس وكسب ثقتهم دون تنفيرهم، لا سيما وأن الدعوة الإسلامية موجهة للناس كافة، مسلمين وغير مسلمين، مؤمنين وغير مؤمنين، على المستوى الداخلي والمستوى الخارجي، وفي إطارٍ من التنسيق بين عناصر العملية التربوية وعناصر العملية الإعلامية وتكامل مؤسساتها، حيث تعمل جميعها في إطار نظام تربوي شامل مستمر.
وتركز التربية الإسلاميةُ على عدة نقاط، أهمها:
أ - تحقيق التوازن بين حاجات الإنسان على مختلف الأصعدة: الروحية والمادية والاجتماعية، فيتلقى الإنسان تربية متوازنة منضبطة.
ب - التركيز على الجانب العملي ؛ ليتم تأهيل الفرد تأهيلاً سلوكياً ؛ لينطلق في رحاب الحياة ويحقق مسؤولياته الملقاة على عاتقه بكل جدارة واقتدار.
ج - الاستفادة من منطق التطور الإنساني، فلم تكن التربية متقوقعة على ذاتها، فالمفاهيم العامة التي تلقاها المسلمون أهَّلتهم للتكيف مع المطالب الجديدة، فكان الاجتهاد أمراً متمماً، لا يخرج عن نطاق النظرية الإسلامية التربوية.
5-رفع الناس إلى المثل الأعلى، والاقتناع بالعودة إلى الدين القويم:
يتم رفع الناس إلى المثل الأعلى بالقدوة التي تزيّن هذا المثل، وبإبراز ما هو مخالف لمثلنا الأعلى، وذلك من خلال محاربة المادية التي هي من الأسباب الرئيسية في الكثير من أمراض عصرنا ومشكلاته، سواء كانت أمراضاً جسمية أو معنوية، فقد استَشْرَتْ هذه الأوبئة بمختلف الطرق والأساليب، وبصورة سريعة تُنْذِر بالهلاك والدمار، وتهدّد العالم بأسره.
ويرجع كل هذا إلى بُعْدنا عن ديننا الإسلامي القويم، وتعلّقنا بنظريات مادية وضعية ضيّقة تقصر اهتماماتها على الحياة الفانية، وتنسى أو تتناسى أن وراءها حياة أخرى خالدة، تجري وراء المكاسب المادية، وتتجاهل الحقيقة أن المادة في حياة الناس وسيلة وليست غاية، وأن هذه الوسيلة لا يمكن لها وحدها أن تحقق للإنسان أي قدر من السعادة، هذه النظريات المادية التي هي من صنع البشر وبنات أفكارهم، إن صلحت فلا تصلح للغد، وإن أفادت فرداً بعينه فقد لا تفيد مجتمعاً متكاملاً، لأن نظرات البشر غالباً ما تكون قاصرة.
إن وظيفة الإعلام الإسلامي هي بيان إخفاق هذه المذاهب ونظرياتها وأفكارها، وإظهار الحلول المناسبة الملائمة، وعرضها بأساليب جذّابة، مستمدّين مادتهم في ذلك من واقع حياة هذه المجتمعات، مع عرض حلول لهذه المشكلات من خلال الالتجاء إلى الدين الإسلامي القويم، وتزيين تلك الحلول للناس وإيصالها إليهم مدعمة بالأدلة والحجج المنطقية ليصلوا إلى مرحلة الاقتناع الكامل.
6- تحقيق التعارف والتآلف والتعاون:
فالمسلمون أمة واحدة، تربطهم رابطة الإسلام، كما قال تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92].
مما يتطلب أن لا نبقى متفرّقين في الأقطار العربية والإسلامية، فوحدتنا قوة، وتعارفنا وتآلفنا محبة، بحيث يقدم كل منا للآخر كل ما يساعده، وينصره، ويعضده، بدلاً من خصامنا، قال تعالى: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} [الحجرات: 13] هذا الحثّ على التوحّد والتعارف أو التآلف والتعاون أمرٌ ضروري ومبدئي، ويتطلّب تخطيطاً وإعداداً لمناهج العمل، والبرامج المدروسة، والأساليب والوسائل المختارة، لتستخدم في وضعها المناسب، وليتحقق ذلك ضمن أهدافٍ منشودةٍ واضحةٍ محدّدة.
7- التنمية:
حين يجري الحديث عن التنمية في ميدان الإعلام، يُقصد بها غالباً التنمية الاقتصادية، وهذه التنمية التي تسعى إليها كثيرٌ من البلدان التي يسمّونها بلدان العالم الثالث، أو البلدان النامية، سواء كانت في آسيا أو في أمريكا اللاتينية أو في إفريقية، والتي منها البلدان العربية والإسلامية، وحين نتحدث عن التنمية الاقتصادية فلا بدّ أن نسجل نقاطاً مُهمَّة بالنسبة لها، منها: أن لكل تنمية ثمناً وجهداً، ثم أيضاً لا بدّ من تحديد أهداف واستراتيجيات للتنمية، مع الإشارة أيضاً إلى أن ميدان التنمية لا يقتصر فقط على القضايا الاقتصادية، بل يشتمل على الخدمات الاجتماعية، من صحةٍ وتعليمٍ وإعلامٍ وإسكانٍ، وهناك أيضاً ما يمكن أن نضيفه إلى ذلك وهو التنمية الخُلُقية، والتي تعني التنمية الفكرية والعقدية والتعليمية.
وهذا أمر مهم للغاية، فالعقيدة أساس الدين، والفكر الإسلامي مرتكزٌ إلى الإعلام بكل جوانبه، والناحية التعليمية مهمةُ كل إعلامي يسعى لتحقق الخير، والحق في هذه الحياة.
8- الترويح والترفيه:
لقد شرع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الترويح قولاً وفعلاً، وذلك من خلال التزامه بهما في أوقات معينة، ودون إهدار للوقت، وطغيان على البرامج الجادّة، ومع الالتزام بالضوابط الشرعية والخلقية، بعيداً عن الأخلاق القرآنية، أخلاق قدوتنا ومعلمنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فهي أخلاق في عقيدة، وعقيدة في أخلاق، مصدرها خالق السموات والأرض، تلك الأخلاق التي على الإعلام أن يتبنّاها أيضاً منهجاً وإطاراً وهدفاً وغاية، أخلاق ربانيّة، تتسم بالاتزان والسوية، والاعتدال والحدود الواضحة المحدّدة، أخلاقٌ تجمع بين الدين والدنيا(3).
أما ما نلاحظه على شاشات الصحون المقعرة فأمر مخزٍ للغاية، ويتسم بالنأي عن الخُلُق القويم، وبثّ الفواحش والمنكرات، لتشيع في الذين آمنوا، ويتم تدمير أخلاق الأمة، فلا تقوم لها قائمة البتة.
9- الإقناع بأهمية الاتجاه الروحي:
فمن أول وأهم وظائف الإعلام الإسلامي، محاربة النزعة المادية والإلحادية السائدة في العالم الآن، وإبراز أضرارها، وبيان أنها السبب وراء الكثير من مشكلات العصر، بل وأمراضه المستعصية، سواءً كانت هذه الأمراض أمراضاً جسمانية أو أمراضاً معنوية، فقد استَشْرَتْ هذه الأوبئة بمختلف الطرق، وبصورة سريعة تنذر بالهلاك والدمار، وتهدّد العالم بأسره.
والسبب في إخفاق هذه الاتجاهات والنظريات المادية أنها من صنع البشر، ومن بنات أفكارهم، وما يضعه البشر من نظريات وأفكار قد تصلح اليوم ولكنها لا تصلح للغد، وقد تصلح لفرد معين ولكنها لا تصلح لمجتمع متكامل.
ذلك أن نظرة البشر غالباً ما تكون نظرة قاصرة، حتى وإن نبعت من أفكار الفلاسفة أو قادة الفكر والرأي، لأنهم في النهاية بشر يخطؤون ويصيبون، لذا نجد هذه الأفكار تحتاج إلى التغيير والتعديل والتطوير دائماً في مواجهة حاجات المجتمع، ومعالجة مشكلات أفراده.
وبالتالي، فهذه الأنظمة والمذاهب الداعية إلى الإلحاد والعلمانية، والرافضة للأديان السماوية، والمتّجهة نحو المادية الصِّرفة، قد أثبتت إخفاقها، بما نتج عنها عن عدم استقرار نفساني، وبما تولّد عنها من فراغٍ روحي في حياة الأفراد والشعوب.
ووظيفة الإعلام الإسلامي هو بيان إخفاق هذه المذاهب والنظريات، وإظهار الحلول المناسبة والملائمة للتخلّص من ويلات ومشكلات هذه الاتجاهات في كل مكان من العالم، وسوف يلقى هذه الاتجاه قبولاً لدى الجماهير والشعوب المختلفة والتي تعاني من أخطار تلك النظريات، خاصة وأن جمهور الإعلام الإسلامي ليس هو جمهور المسلمين فقط، وإنما هو البشر كافةً، في كل زمان ومكان، ذلك أن الإسلام رسالة عامة، لا يختصّ بها شعب دون شعب، وإنما هي رسالة إلى كل البشر كلهم، ولإسعاد البشرية كافةً.
غير أنه يجب على القائمين على أجهزة الإعلام في الدول الإسلامية، أن يقوموا بحسن عرض هذه الأفكار، مستخدمين الأساليب الجذّابة في بيان ما يعانيه من مشكلات، مستمدين مادتهم في ذلك من واقع حياة هذه المجتمعات، ضاربين الأمثلة المناسبة والحيَّة والمعاشة على ذلك.
كما يجب أن يعرضوا في المقابل كيفية حلول هذه المشكلات بالاتجاهات الروحانية، والالتجاء إلى الدين، ويجب أن يكون ذلك حسب برامج مدروسة ومنظمة ومخططة، فيجب أن يتمّ الترغيب في الاتجاه إلى الأديان بصفة عامة.
وقد رأيتُ منذ مدة قريبة فيلماً يُعرض على إحدى القنوات العربية، يسرد قصة مغنٍّ قد أرخى لنفسه الحبل على غاربه، وذات مرة التقى مصادفة بفتاة متدينة، تصلي وتدعو وتبتهل إلى ربها، فأُعجب بها، ولاقت مكاناً في قلبه، فكان أن غيَّرتْ حياته نحو ترك المنكرات، والبعد عن الفاحشة وما يُغضب الله تعالى، وأخيراً انتصر الإيمان على الانحراف، وصلح أمرُ الرجل، وتزوج الاثنان، وعاشا تحت سقف إيماني واحد.
إن عرض مثل هذه الأفلام مفيد للغاية، ويحقق وسيلة إعلامية إسلامية، بحيث تُحل المشكلات عن طريق الرجوع إلى الله عز وجل.
ثم يلي ذلك في خطوة قادمة إبراز أهمية الإسلام على أنه الدين المناسب، والاتجاه الملائم، مستخدمين في ذلك أيضاً الأساليب الجذّابة، والأمثلة والأدلة المقنعة.
كما يجب استخدام اللغات المختلفة والسائدة لدى الجمهور المخاطب، سواء كان ذلك كتابة أو بالوسائل المسموعة أو المرئية، مع القيام بدراسة هذه الجماهير دراسة واعية للوقوف على أنسب اللغات والأساليب والأوقات الملائمة للاستماع، بل المحبّبة لذلك، بل الأوقات التي يكون فيها الفرد مستعداً نفسياً لتلقّي معلوماتٍ كهذه، ثم استخدام الوسائل المناسبة للوصول إلى الجمهور في كل مكان.
وإذا تمّ ذلك بحماسةٍ ووعيٍ ودراسةٍ ودرايةٍ وحنكةٍ من القائمين على الإعلام الإسلامي، فإنه سوف يجد رواجاً، وردّ فعلٍ قويٍّ من الجماهير المستقبلة، لأنها تعاني من المشكلات في حياتها، وسوف تجد الحل لهذه المشكلات والخلاص من كثيرٍ مما يؤرق الفرد في حياته اليومية، وبالتالي سوف يُعمل الفرد فكره، ويستجيب لهذه الرسائل الموجّهة لتخليصه من هذه المعاناة.
وهنا يجب على رجال الإعلام الإسلامي أن يقوموا بقياس ردود الفعل في كل مجتمعٍ من المجتمعات التي يوجّهون إليها إرسالهم وإعلامهم، وبالتالي تعديل خططهم وبرامجهم ورسائلهم بما يتناسب مع الجمهور.
10- التعريف بالحياة الآخرة والسعادة فيها:
إذا كانت النظم الإعلامية في مختلف أنحاء العالم، أيّاً كانت اتجاهاتها، تهدف إلى إسعاد البشر في حياتهم الدنيا، وتعليمهم وإرشادهم وحثّهم على ما يفيدهم، والعمل على إمتاعهم وتسليتهم، وقضاء أوقاتهم فيما يحبون، فإن الإعلام الإسلامي يتميّز عن هذه الأنظمة بأنه يعمل على إسعاد البشر في دنياهم بكل ما فيها وعلى مختلف مناحيها، ويعمل في ذات الوقت على إسعادهم فيما بعد الموت.
ذلك أن الإسلام دين يتعلّم فيه الفرد أن الدنيا ليست هي نهاية المطاف، ولا هي كل شيء، وإنما هي دار مؤقتة، بنيت على النقص لا على الكمال، وأن الفرد فيها يتمتع بأنواع قليلة من المتع، وأنها مزرعة للآخرة التي هي الحياة الأبدية الخالدة، وعلى هذا فإن الأعمال الدنيوية والسلوكيات المختلفة فيها معلّقة بأمور العبادات، وهذه وتلك تتعلق بالسعادة في الحياة الآخرة.
ومن وظائف الإعلام الإسلامي أن يقوم بإقناع المسلمين وغير المسلمين بهذه الحقائق، حتى يكون الفرد راضياً بحياته الدنيوية، غير ساخطٍ على الوضع الذي يعيشه، إن كان فقيراً أو مريضاً أو محروماً من أيّ نوعٍ من النعم.
فهو وإن كان كذلك إلا أنه يتمتع بغيرها، وهو وإن كان كذلك إلا أنه يعيش حياة دنيوية مؤقتة يجب عليه الرضا بها، والقناعة بما فيها، من قليلٍ أو كثير، وعليه أن يحسن معاملاته مع الناس، وأن يحسن أخلاقه وسلوكياته حتى ينعم بالحياة الآخرة التي هي دار الخلود، والتي يكون النعيم فيها من أجمل وأبهى الصور، حيث فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقد قام الإعلام الإسلامي بهذه المهمة منذ بدايته، فلم يكن القرآن الكريم يَعِدُ المسلمين بالملك أو الجاه أو الثروات الطائلة أو الحدائق الغنّاء أو نحو ذلك جزاء لأعمالهم الدنيوية، وإنما كان يعدهم بالسعادة في الحياة الآخرة، قال الله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الحديد: 21].
والمتأمل في التراث الفكري لأئمة الصحابة والتابعين والعلماء على مرِّ العصور، يلحظ كماً كبيراً من الدعوات الإعلامية للتزود من أجل الآخرة، فالدنيا جسر يعبر عليه المؤمنون, لينالوا الخير والجزاء الأوفى عند الله تعالى.
ففي كل عملٍ من أعمال الخير، سواء كان صلاةً أو صياماً أو زكاةً أو صدقةً أو حسن خلق، أو جهاداً، أو صبراً على الأذى أو تحمّل مشاق أو نحوها، نجد الإسلام يبيّن أن لذلك جزاءً دنيوياً، وأن له أيضاً جزاء في الحياة الآخرة بعد الموت، بل إن الجزاء الأخروي أكثر من الجزاء الدنيوي، وأفضل، ويتصف بالديمومة والاستمرار.
ففي أمر الصدقات ـ مثلاً ـ والتي هي أصل التكافل الاجتماعي، ودعوة إلى أن تعمّ السعادة البشر كافةً ـ فالفقير يسعد لما يصله من مال، والغني يسعد برضا الناس عنه ومحبتهم له، ومع ذلك يبيّن الله تعالى أنه يرضى عن العبد بسببه، ويخلفه عليه، ويدخره له ليسعد به في الآخرة، قال الله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم * الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنففوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم} [البقرة: 261ـ263].
وفي مقابل ذلك يبيّن أن البخيل بالمال له فقر وضنك في الدنيا، وعليه عذاب ووبال في الآخرة، قال الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكون بها جباهم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34ـ35].
ومن وظائف الإعلام الإسلامي إذن أن يرشد الناس إلى ما يسعدهم في حياتهم الآخرة وفي قبورهم بعد موتهم، وأن يبيّن لهم أن هذه الأعمال الصالحة والعبادات، كما أنها تتعلّق بما يفيدهم في انتشار السعادة والأمن والاستقرار على وجه الأرض، فإنها كذلك تتعلّق بسعادتهم في الحياة الآخرة، وعلى النقيض من ذلك فإن ترك العبادات يؤدي إلى ترك الأعمال التي من شأنها استقرار الإنسان في حياته الدنيا، أو إلى معيشته في قلقٍ وزعزعةٍ روحية، وطيش في الحياة، وحمق في البعد عن الحق، ومن شأنها أن تؤدي به في الآخرة إلى جهنم، وإلى العذاب المقيم.
غير أنه في هذه الوظيفة يجب عدم الإسراف في جانب التخويف ؛ وإهمال جانب التبشير والرجاء، لأن الإسلام يسعى لبناء شخصية الفرد بشكل متوازن وإيجابي، فالاعتدال والوسطية سفينة النجاة.
ومن القرآن الكريم يجب أن يتعلّم رجال الإعلام الإسلامي، حيث لم يذكر العذاب إلا وتذكر المغفرة، ولم يذكر النار إلا وتذكر الجنة، وهكذا. ومن ذلك قوله تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر: 49ـ50].
وقوله سبحانه: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} [غافر: 3].
فيجب ألا يسرف رجال الإعلام الإسلامي في جانب التبشير فحسب، حتى لا يتواكل الناس، وأيضاً ألا يسرفوا في جانب التخويف فحسب حتى لا ييأس الناس(4).
(1) الأسس العلمية والتطبيقية .
(2) الأسس العلمية والتطبيقية.
(3) للتوسّع يراجع: نحو إعلام إسلامي، علي جريشة، الإعلام: قراءة في الإعلام المعاصر والإعلام الإسلامي، محمد منير سعد الدين.
(4) الأسس العلمية والتطبيقية.
أضف تعليقاً