فمن السهل على الإنسان أن يفهم الأمراض العضوية من التهابات وجروح، وكسور بشكل أسهل من فهم الأمراض النفسية. وكذلك يستطيع الإنسان أن يشعر بشعور المصاب بالتهاب أو كسر، فهذا المريض ما هو إلا «مثلي»، ولكن يصعب على الإنسان أن يعتبر نفسه مثل المصاب بالأمراض النفسية، ولذلك يشعر الكثير من المرضى النفسيين بالعزلة عن بقية الناس بسبب مرضهم، وبسبب موقف الناس منهم. وحتى قد يعاني البعض منهم من سوء المعاملة من جراء اختلافه عن الآخرين.
من هم المرضى النفسيون
هناك عدة طرق ومدارس للإجابة عن هذا السؤال. وقد تكون بعض هذه المدارس أرقى وأفضل من غيرها بالنسبة لبعض الحالات دون غيرها. فالمرض النفسي يلاحظ عادة من خلال سلوك المصاب، أو دلائل مشاعره وتفكيره، أو في أسلوب نظرته للعالم من حوله، أو كل هذه الأمور مجتمعة.
وليس لدى الطبيب النفسي وسيلة للدخول إلى عقل المصاب ليؤكد تشخيصه للمرض. ولكن المرض النفسي يتوقع عادة عندما يختل واحد من ثلاثة جوانب في حياة الإنسان النفسية، وتصبح غير «طبيعية» أو غير «صحية»
وهذه الجوانب هي:
· التفكير.
· المشاعر.
· السلوك.
ويمكن أن نعرّف المرض النفسي بأنه:
«حالة نفسية تصيب تفكير الإنسان أو مشاعره أو حكمه على الأشياء أو سلوكه وتصرفاته إلى حد تستدعي التدخل لرعاية هذا الإنسان، ومعالجته في سبيل مصلحته الخاصة، أو مصلحة الآخرين من حوله.»
وهناك أمور قد تصيب الإنسان لحد ما دون أن تعتبر علامة لمرض نفسي معين، وإن كان يشير بعضها مجتمعة إلى أن هذا الإنسان قد يحتاج إلى المساعدة.
ومنها:
· أن يصيب الشخص تغير عقب حادثة مفجعة لمدة أطول مما يعتبر عادياً.
· أن يتغير الإنسان في سلوكه أو علاقاته بشكل شديد، أو طويل الأمد مسبباً له معاناة وألماً.
· تمر بالإنسان مشاعر غير اعتيادية من الصعب عليه أن يعللها أو يفهمها ويجد صعوبة في شرحها للآخرين.
· حدوث تغيير في الإنسان بحيث يحدث اضطرابات لديه، أو معاناه الآخرين من حوله.
· حدوث تغيير في الإنسان من الصعب ربطه أو فهمه في ضوء الأحداث الجارية من حوله.
· حدوث صعوبات في إقامة علاقة طبيعية مع الآخرين، وفي الإستمرار في هذه العلاقات.
وهناك قلة من الناس لا يعتقدون مطلقاً بمفهوم المرض النفسي ولا يرون أن مظاهر اضطراب المصابين علامات «لمرض»، وإنما هي أساليب متوقعة لسلوك بعض الناس في صراعهم مع ظروف معيشية وحياتية معينة.
الأمراض النفسية ومدى انتشارها
إن تقديرات نسبة الإصابة تتفاوت من مكان لآخر ولعوامل متعددة وبسبب قلة الدراسات الطبية الإحصائية في البلاد العربية والإسلامية، فإن الإنسان لا يستطيع أن يعطي إجابة شافية عن قضية إنتشار الأمراض النفسية في بلادنا. وإذا سمعنا بنتائج الدراسات الغربية والدولية، فيمكن أن نقول أن هناك تقديرات عامة تقول بأن امرأة من كل خمس أو ست نساء، وكذلك رجل من كل تسعة أو عشرة رجال، قد يحتاجون لمساعدة اختصاصية بسبب مرض أو حالة نفسية في مرحلة ما من مراحل حياتهم. وقد وجدت بعض الدراسات أن عشرة بالمئة من الذين يراجعون عيادات الطبيب العام لديهم إصابات نفسية، ويقدر أن شكاوى ثلث زوار العيادات الطبية عبارة عن شكاوى وثيقة الصلة بالمشكلات النفسية والعاطفية.
ويقدر بأن أسرة من كل خمس أسر في المجتمع قد يصاب أحد أفرادها بمرض نفسي، ولذلك فهناك احتمال كبير أننا في مرحلة من مراحل حياتنا قد نصاب نحن أو غيرنا من العائلة، أو أحد معارفنا أو أصدقائنا بمرض من الأمراض النفسية
الطبيب النفسي وفريق العمل
إن الطبيب النفسي هو الطبيب المتخصص في الأمراض العقلية والنفسية بالإضافة إلى إلمامه بالأمراض العصبية والأمراض العامة.
وقد تعددت فروع تخصصات الطب النفسي في السنوات الأخيرة. ومن هذه التخصصات:
· الطب النفسي العام، ويهتم بالأمراض عند البالغين.
· الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين.
· الطب النفسي القضائي والقانوني، عندما يترافق المرض النفسي مع مشكلة قضائية.
· الطب النفسي والتحليل النفسي.
· الطب النفسي للإدمانات (المسكرات والمخدرات)
· الطب النفسي للتخلف العقلي.
· الطب النفسي في المستشفى العام، سواء أكان القسم الداخلي أو الجراحي.
· الطب النفسي الإجتماعي، وهو يهتم برعاية المريض النفسي في المجتمع مع تأمين الخدمات اللازمة.
فهناك عدد من العاملين الإختصاصيين الذين يعملون مع الطبيب النفسي، كفريق واحد يهدف إلى الفهم الشامل للمريض وظروف حياته، ومساعدة هذا المريض على الحياة الإنسانية الكريمة وهو في مجتمعه وبين أهله قدر الإمكان.
ومن هؤلاء الذين يعملون في هذا الفريق:
· الباحث النفسي، والذي يمكن أن يقوم بإجراء بعض الإختبارات النفسية، أو يساهم في وضع ومتابعة تطبيق برامج المعالجات السلوكية.
· الباحث الإجتماعي: والذي يساعد المريض على حل بعض المشكلات العملية في المجتمع، من توفير السكن المناسب وتأمين الدعم المطلوب من الأسرة، أو البحث عن عمل مناسب لهذا المريض، أو الحصول على المساعدة المالية من الجهات الرسمية الحكومية.
· الممرض الإجتماعي، وهو الذي يزور المريض في منزله ليتابع معالجته من خلال التأكد من تناوله الدواء، أو بإعطائه الحقنة الدوائية الموصوفة من قبل الطبيب.
· المعالج المهني، وهو الذي يشرف على ورشات التدريب والعمل الخاصة التي يحضرها المريض ليتلقى التدريب المهني المناسب، وقضاء بعض وقته بالعمل الإيجابي النافع
تاريخ الطب النفسي
منذ آلاف السنين كان ينظر إلى الأمراض العقلية وكأنها من صنع قوى خارقة أوجدتها , فأولئك المرضى كان ينظر إليهم أحياناً أنهم أناس مغضوب عليهم من تلك القوى الخارقة، أو كان ينظر إليهم بوصفهم أناساً منبوذين، ولهذا فكثيراً ما كانوا يقتلون تخلصاً منهم ومن الشياطين التي تلبسهم، أما المحظوظون منهم، ممن كانوا يكابدون حالات جنون أخف وطأة، فكانوا يحاطون بالرعاية، ومن مظاهر تلك الرعاية أنهم كانت تخلع عليهم الأردية المزركشة، وتزين هاماتهم بأكاليل الغار. غير أن المحاولات الأولى لمعالجة الأمراض العقلية على أسس علمية رصينة، قد تمت عندما بدأت العلوم الطبية تتقدم بشكل سريع في بلاد الشرق وفي بلاد الإغريق.
وجد الطب الإغريقي القديم سنداً له إتكأ عليه في الفلسفة الطبيعية المنبثقة عن المدرسة الأيونية وبالأخص منها مدرسة طاليس، وإنكسيمندر، وإلكسيمانس في مالطية.
ويتلخص موقف هذه المدرسة وقتذاك في أن أصل جميع الأشياء يقوم على أساس من مادة أولية هي قوام ما كان في الطبيعة.
وفكرة أصحاب هذه المدرسة الطبيعية تأثر بها كل من جاء بعدهم من المفكرين والمهتمين بالطب، من أمثال الكيمايون.
ثم جاء أبقراط، فالتقط فكرة الكيمايون تلك، وطورها في القرن الخامس قبل الميلاد.
والأساس الفلسفي الذي اتكأت عليه آراء أبقراط في الطب النفسي، يرجع إلى تعليمات استمدها أبقراط من ديمقريطس في فلسفته المادية التي انعكست مباشرة في تسمية أنماط الجسم وأمزجته الأربعة التي ارتبطت باسم أبقراط. والأمزجة الأربعة التي سماها أبقراط :
· المزاج الدموي.
· المزاج البلغمي.
· المزاج الصفراوي.
· المزاج السوداوي.
وقام أبقراط بمحاولات حثيثة في سبيل الأمراض العقلية.
فلعلاج حالات الإدمان على الكحول مثلاً، أوصى باستخدام أسلوب العلاج بالتنفير: أي بإحداث حالة من التقزز عند المريض ليبتعد عن الكحول وينفر منها، وذلك بإعطاء المدمن جرعات من مادة مرّة مقززة، أو عن طريق فصده وإسالة دمه وهو في حالة سكره، ليرى دمه يسيل فيرتبط في ذهنه منظر دمه بما يتعاطاه من شراب مسكر، وبذلك يكره المادة التي أدمنها. وكان يقترح علاجاً لبعض المرضى عقلياً ونفسياً بأن يغيروا أماكنهم. فتغيير المكان كما اقترح من شأنه أن يغير من الذكريات المؤلمة، فينسى المريض آلامه وهمومه.
وفي الشرق فقط كان الطب حينذاك يخطو نحو مزيد من الإرتقاء، وذلك إبّان الحقبة الممتدة من القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر.
وإن كثيراً من العلماء الأوروبيين قد نجوا مما كان يهدد حياتهم في بلدانهم فلجأوا إلى بلدان أخرى في حوض البحر المتوسط وبلاد فارس، وفي بعض المحميات العربية الأخرى. وهنا يجدر أن نذكر ابن سينا الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي. كان هذا الطبيب الألمعي، يشاطر أبقراط الرأي، بشأن الأمراض العقلية، وقام بمحاولات منتظمة وناجحة في علاج الذين كانوا يعانون من أمراض عقلية. وأولى المستشفيات التي أنشئت لهذا الغرض قد فتحت في القرن التاسع الميلادي، في كل من بغداد، والقدس ودمشق.
رافقت الإنطلاق الفكري في فرنسا خاصة، وفي أوروبا عامة، في القرن التاسع عشر انطلاقة منصفة تخص النظرة إلى الذين يكابدون أمراضاً عقلية، نظرة إتسمت بالنزعة الإنسانية. ففي فرنسا مثلاً، تطورت الاتجاهات نحو المرض ونحو من يعانون منه، تطوراً كبيراً، وذلك بفضل حملة جديدة حمل لواءها يومذاك الطبيب الفرنسي فيليب بينيل ثم من بعده تلميذه أسكويرول.
وفي الثلاثينات من القرن التاسع عشر، طور الطبيب الإنجليزي كونللي فكرة: (لا قيود ولا احتجاز بعد اليوم)، وهو التقييد والاحتجاز الذي كان يخضع له المرضى العقليون.
كانت حملة كونللي هذه مكملة لما كان قد قام به كل من بينيل واسكويرول. من قبل، فوصلت أصداء عمل كونللي هذه إلى روسيا حيث تم تلقفها هناك بسرعة، وطبقها على نطاق واسع طبيب الأمراض العقلية آنذاك كورساكوف ثم سرعان ما بلغت آراء كونللي تلك الولايات المتحدة، فأخذت بتطبيق علاج الأمراض النفسية ـ العصبية على أسس من الإتجاهات الإنسانية اللازمة، وأهم دور في ذلك يرجع هناك إلى بي.روش b.rush 1813-1745 وهو أول طبيب نفسي في الولايات المتحدة.
ولعل أكبر إسهام في ميدان الطب النفسي هو ما قام به الطبيب النفساني الألماني المرموق بونهايفر bonheffer 1948-1868 الذي أكد على العوامل الخارجية التي تبدو أعراضها على المريض فيستشفي منها ومما يكمن وراءها من عوامل داخلية. وإذا أهملت هذه الأعراض فإنها تتفاعل فيما بينها فتفضي إلى ما يضر بالصحة النفسية والجسمية.
ويزخر تاريخ الطب النفسي بعدد هائل من أعلام الطب النفسي، فالعلماء الذين نذروا أنفسهم للبحث فيه والعلاج في ميدانه لا حصر لهم. فقد أسهموا أيما إسهام في هذا المجال وعلى مختلف الصعد في شتى الميادين العلمية. تضافرت جهودهم في مضامير التشخيص الخاص بالأمراض العقلية وعلاجها، وفي أسباب الأمراض النفسية وطبيعتها، وفي ميدان دراسة الصيدلة النفسية، ومشكلات الأوهام، والهلوسات، والخرف المبكر، والخرف المتأخر وفي السبل الوقائية لدرء مخاطر الأمراض العقلية منها والجسمية. كل هذا الكم الهائل من العلم قد أرسى أسسه علماء أوقفوا حياتهم على خدمة العلم من أجل إسعاد الإنساني
المصدر: الطبي
أضف تعليقاً