من هذا المنطلق، بدأ الباحثون بالعمل على إعداد منهجيات وتقنيات جديدة لتدريس وتعلم الفيزياء، ويقدم المقال مجموعة من الأفكار الواردة في كتاب المؤلفَين "جينيفر دوكتور" (Jennifer Docktor)، و"خوسيه ميستر" (José Mestre) "علم تعلم الفيزياء: استراتيجيات معرفية لزيادة فعالية التدريس" (Science of learning physics, the: cognitive strategies for improving instruction).
صعوبة تعلم مادة الفيزياء:
يواجه الطلاب صعوبة في تطبيق القوانين الرياضية والعمليات الحسابية اللازمة لحل المسائل الفيزيائية، ولكن تكمن المشكلة الرئيسة بحسب المؤلفَين "جينيفر" و"خوسيه" في استيعاب المفاهيم والأفكار النظرية التي تفسر الظواهر الفيزيائية بحدِّ ذاتها والقوانين المستخدمة في الحسابات.
يولد الإنسان في عالم مادي، وهو يتمتع بقدرة غريزية على التعامل مع الأجسام المادية الموجودة حوله، ولكن لا تتوافق كثيراً من الأفكار التي يكوِّنها الفرد بناءً على الحدس مع قوانين الفيزياء التي يكتشفها العلماء.
يتبع معظم الأفراد نهج الفيلسوف "أرسطو" (Aristotle) في تفسير الظواهر الفيزيائية مفترضين أنَّ الأجسام المتحركة تصبح ساكنة عند إيقاف القوى المطبقة عليها، وأنَّ القوى المؤثرة في الكرة المرمية نحو الأعلى تتغير خلال صعودها، وعندما يتصادم جسمان ماديان فإنَّ الأكبر بينهما يفرض قوة على أصغرهما.
لكن ينبغي أن يفكر الفرد بعقلية العالِمَين "إسحاق نيوتن" (Isaac Newton) و"ألبرت أينشتاين" (Albert Einstein) التي تفترض أنَّ الأجسام المتحركة تبقى في حالة حركة دون قوة خارجية، والقوة المؤثرة في الكرة المرمية نحو الأعلى هي قوة الجاذبية الأرضية وشدتها ثابتة لا تتغير مع صعود الكرة، ولكل فعل رد فعل يساويه بالشدة ويعاكسه بالجهة.
اقترح المؤلِّفَان "دوكتور" و"ميستر" استراتيجية لتعليم مبادئ الفيزياء عن طريق تقسيمها إلى وحدات جزئية، ولا تقتضي هذه الاستراتيجية تصحيح المفاهيم المغلوطة للطلاب عن طريق تقديم الحلول والإجابات الدقيقة الجاهزة، بل إنَّ الطالب يصوب معلوماته ويبني مفاهيم صحيحة بشكل تدريجي في أثناء التعلم، ويستنتج أفكاراً منطقية في بعض الحالات، ويعتمد على حدسه في صياغة استنتاجات مغلوطة في حالات أخرى.
تختلف القدرة على استنتاج الأفكار وتكوين المفاهيم الفيزيائية عن حل المسائل الواردة في المناهج الدراسية؛ وذلك لأنَّه بإمكان الطالب أن يحفظ طريقة حل المسألة دون أن يفهم الظاهرة الفيزيائية بحد ذاتها.
رأي الفيزيائيين بمادة الفيزياء:
تهدف دروس الفيزياء إلى تنمية قدرة الطلاب على تكوين استنتاجات وأفكار منطقية عن المسائل الفيزيائية مثلما يفعل الخبراء، ولقد خصص علماء النفس فترة زمنية مطولة لدراسة الاختلاف في طريقة التفكير بين الخبراء والمبتدئين في معظم المجالات ومنها الفيزياء.
تقارن هذه الدراسات أنماط التفكير المنطقي بين الخبراء والمبتدئين في مجال الفيزياء، وفيما يأتي مجموعة من نتائج هذه الدراسات البحثية:
1. يفهم الخبير المبادئ، في حين يلاحظ المبتدئ الخصائص الظاهرية:
كُلِّف المشاركون بالدراسة بتصنيف المسائل الفيزيائية، فقام الخبراء بتنظيمها في فئات بناءً على المبادئ الفيزيائية الأساسية، في حين ركز المبتدئون على الخصائص الظاهرية مثل وجود فكرة في المسألة على سبيل المثال.
2. يبدأ الخبير من المعطيات، في حين ينطلق المبتدئ من النتائج:
يبدأ الخبير من المعطيات ويختار المعادلات الرياضية المناسبة لحساب المقادير اللازمة لحل المسألة وينطلق المبتدئ من الهدف النهائي ويحاول اختيار المعادلات الرياضية المناسبة، أي إنَّه يبدأ بصورة عكسية، تبين أنَّ النهج الذي يتبعه المبتدئ يستنزف القدرات العقلية، وهذا يفسر الصعوبة التي يواجهها المبتدئون في حل مسائل الفيزياء.
3. يقضي الخبير وقتاً أطول في دراسة المسألة في حين يسارع المبتدئ إلى إجراء العمليات الحسابية:
ينجح الخبير في حل المسائل بسرعة أكبر من نظيره المبتدئ، لكنَّه بالمقابل يقضي وقتاً أطول في دراسة المسألة وفهمها قبل أن يبدأ بإجراء العمليات الحسابية، ويعجز المبتدئ عن تحليل المسألة وتصنيفها وفهم مبادئها، لهذا السبب يسارع إلى إجراء العمليات الحسابية علَّها تقوده إلى الحل.
يمكن تفسير هذه الاختلافات بالمخططات العقلية وأنماط التفكير والتصنيف المتطورة التي يمتلكها الخبراء، وتساعد هذه المخططات على تحليل المسألة عن طريق تفسير الظاهرة بحد ذاتها وفهم المبادئ الفيزيائية للمعادلات الرياضية والحلول، ويلجأ المبتدئ للعمليات الحسابية والمعادلات الرياضية، أو يعتمد على خطوات حل المسائل المشابهة التي يحفظها بسبب افتقاره لأنماط التفكير والتحليل المتطورة.
تحسين أسلوب تلقين الأفكار الفيزيائية المعقدة:
كشف المؤلِّفَان "دوكتور" و"ميستر" عن وجود أساليب حديثة أكثر فاعلية في تلقين مادة الفيزياء من النهج التقليدي الذي يقوم فيه الأستاذ بإلقاء المحاضرات على جمهور من الطلاب، وشرح الأمثلة، والاستنتاجات، وتكليف الطلاب بحل المسائل في المنزل.
تقتضي إحدى الاستراتيجيات التي رشحها المؤلفان تلقين خطوات عملية التفكير والتصنيف التي تدخل في حل مسائل الفيزياء، فيركز المدرس الخبير على شرح كيفية حل المسألة باستخدام الرياضيات لكنَّه لا يفسر سبب استخدام المعادلة بحد ذاتها.
ينبغي أن يوضح المدرس خطوات حل المسألة مع الحرص على عدم الاكتفاء بشرح العمليات الحسابية والرياضية، بل يجب تفسير المفاهيم والأفكار التي تساعد على تحديد طبيعة المسألة والظاهرة التي تعبر عنها، هذه الطريقة أكثر فاعلية من حل الأمثلة، وهي تساعد الطلاب على تحليل الظواهر الفيزيائية وتكوين الاستنتاجات كما يفعل الخبراء.
يُنصَح بالتركيز على شرح طريقة تصنيف المسائل بعد توضيح المبادئ الأساسية في الفيزياء، فيتحسن أداء الطلاب عند تخصيص مزيد من الوقت لطريقة تصنيف المسائل بحسب النوع بدلاً من التركيز على إيجاد الحلول فقط.
التشجيع على التعلم الفعال:
يشجع المؤلِّفَان من ناحية أخرى على التعلم الفعال الذي يفرض على الطالب مهمة اكتساب المعلومات وتكوين المفاهيم والاستنتاجات بدلاً من الاكتفاء بتلقي الأفكار الجاهزة، وتتضمن ممارسات التعلم الفعال تمرينات حل المشكلات، والتجارب العملية، والبحث عن المعلومات، وإجراء الاختبارات وتقديم التغذية الراجعة بانتظام.
تتضمن استراتيجيات التعلم الفعال الإجراءات الآتية:
1. المراجعات والاختبارات الدورية:
يفضل الطلاب قراءة المعلومات والمواد الدراسية، ولكن تبين أنَّ حل المسائل والأمثلة الفيزيائية يساعد على زيادة فاعلية التعلم.
2. دمج الأمثلة العملية مع الاختبارات:
تساعد هذه الطريقة على تخفيف مشكلات الحمل المعرفي الناجمة عن حل المسائل فقط مع تشجيع الطلاب على الممارسة والتطبيق العملي.
3. التمرينات والتقنيات معتدلة الصعوبة:
يمكن تعزيز عملية التعلم ومساعدة الطلاب على ترسيخ المعلومات عن طريق استخدام تقنيات التعلم المتباعد، ومراجعة المعلومات، ودمج أنواع مختلفة من الأمثلة والمواد رغم أنَّ الطلاب لا يدركون فاعلية هذه الممارسات في بعض الأحيان.
4. الصفوف الدراسية المقلوبة:
تقتضي هذه الطريقة تكليف الطلاب بمشاهدة المحاضرات المسجلة في المنزل وحل المسائل في الصف بحيث تُتاح لهم إمكانية التعاون مع بعضهم والاستفادة من المساعدة والتغذية الراجعة التي يقدمها المدرسون.
5. تقنيات التعلم التعاوني وطرح الأسئلة والنقاشات الجماعية:
يتم ذلك عن طريق إجراء اختبار قصير خلال المحاضرة من أجل تعزيز عملية التعلم والتأكد من فهم الطلاب للشروحات.
6. الشروحات الذاتية:
يتم تكليف الطلاب بشرح الأمثلة العملية أو الحلول بغية تعزيز فهمهم للمسائل وزيادة فاعلية التعلم.
في الختام:
الكتاب مفيد لكل من متعلمي ومدرسي مادة الفيزياء، ويمكن الاستفادة منه في المواد المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات رغم اختلاف صعوبات تعلم الكيمياء العضوية وعلم الأحياء الجزيئية عن مواد الميكانيكا التقليدية.
لم يتطرق الكتاب لتقييم فاعلية النظريات التعليمية في التطبيقات العملية، ولقد تحدث الباحثون "لين جانغ" (Lin Zhang)، و"جون سويلر" (John Sweller)، و"بول كيرشنر" (Paul Kirschner)، و"وليام كوبيرن" (William Cobern) عن المبالغة في تقدير أهمية وفاعلية التعلم القائم على حل المسائل والنقاشات وغيرها من التقنيات التعليمية الحديثة، ويحتج هؤلاء الباحثون بأنَّ العديد من التجارب التي تدعم نهج الإصلاح أحدثت تغييرات جذرية في تقنيات التدريس، بالمقابل أُجرِيت العديد من الدراسات الخاضعة للرقابة لتقييم العناصر الجزئية في استراتيجيات التدريس آنفة الذكر ولم تنصح باستخدامها.
التعلم القائم على حل المسائل هو نهج شائع يقتضي تخصيص مزيد من الوقت للمشاركة الفاعلة في حل المسائل وتقليل الوقت المخصص لشرح المناهج.
كشف بحث "سويلر" أنَّ المبتدئ يتعلم بسرعة أكبر ويتحسن أداؤه بعد دراسة الأمثلة أكثر مما يفعل عندما يحل المسائل وحده، ولكن تبين أنَّ استخدام المنهجيات التي تعتمد على طرح الأسئلة والنقاشات وتحاكي طريقة تحليل الخبراء للمسائل العلمية هو أقل فاعلية من تلقين المعلومات بشكل مباشر.
خلاصة القول، لا يجب الخلط بين مفهومي التعلم الفعال والتعلم غير الموجه، كما ينبغي أن يشارك الطالب ويكوِّن أفكاره واستنتاجاته الخاصة، ويحاول استيعاب المفاهيم المعقدة ويدرك التطبيقات العملية لهذه المسائل، ولكن تجدر الإشارة إلى أنَّ هذه النشاطات لا يمكن أن تغني عن تلقين المعلومات والشروحات.
يجب أن يركز طالب الفيزياء على التدريب وحل الأمثلة العملية من جهة، وفهم القواعد والمبادئ التي تفسر طريقة الحل من جهة أخرى، أي لا ينبغي أن يكتفي بحفظ المعادلات الحسابية وتعويض الأرقام وحساب النواتج النهائية.
أضف تعليقاً