هذه المزاعم المثيرة الانتباه "والكاذبة" مرتبطة بحركة تُسمى "كيوآنون" (QAnon)؛ وهي شبه طائفة يمينية متطرفة تدعم الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" (Donald Trump). تُعرَف "كيوآنون" بابتداع نظريات مؤامرة بعيدة الاحتمال تتهم الخصوم السياسيين بارتكاب أفظع الجرائم التي يمكن تخيلها عادةً دون أي دليل.
بقدر ما قد تتصف هذه الأفكار بالغرابة، فإنَّ تأثير حركة "كيوآنون" في المجتمع لا يمكن إنكاره؛ إذ بدأت عام 2017 من خلال المنشورات عبر الإنترنت لشخص غامض يدعى "كيو" "Q"؛ إذ كان يدَّعي الوصول إلى معلومات حكومية سرية، وسرعان ما أصبحت حركة "كيوآنون" مرئية على أرض الواقع.
في البداية بدأت لافتات تحمل شعار "Q" تظهر باستمرار في مسيرات "ترامب"، ومن ثم انتُخِبَت "مارجوري تيلور جرين" (Marjorie Taylor Greene) - مؤيدة لـ "كيوآنون" ومزاعمه - عضواً في مجلس النواب الأمريكي، وانتشرت "كيوآنون" في النهاية حول العالم.
ما الذي يجذب الناس إلى نظريات المؤامرة الخالية من الأدلة؟
تركز التفسيرات النفسية التقليدية في المشاعر السلبية؛ فعندما يشعر الناس بالقلق أو خارج نطاق السيطرة أو عدم اليقين، يصبحون أكثر تقبلاً لروايات المؤامرة؛ ووفقاً لذلك تكتسب معتقدات المؤامرة قوة في حالات الأزمات المجتمعية وهي أكثر شيوعاً بين المجموعات التي تعاني من الاضطهاد المؤسساتي.
يشير بحث جديد إلى أنَّ المشاعر السلبية ليست فقط هي التي تساهم في جذب نظريات المؤامرة؛ إذ يمكن أن يجد الناس أيضاً نظريات المؤامرة الترفيهية فكلما وجدها الناس أكثر إمتاعاً، زاد احتمال تصديقهم لها.
تشترك نظريات المؤامرة والقصص الخيالية مثل الأفلام المخيفة أو الروايات البوليسية في الكثير من الأمور، وتماماً مثل هذه الأعمال الخيالية، فإنَّ نظريات المؤامرة لها حبكة تتضمن غالباً بطلاً شجاعاً ومجموعة من الأشرار، على سبيل المثال: "ترامب" يحارب مؤامرة الديموقراطيين الشيطانيين، وتوجد معركة تقليدية بين الخير والشر وتشمل الضحايا الأبرياء مثل الأطفال "النموذج المثالي للبراءة"، وعديمو الضمير لا يوقفهم شيء لمتابعة أهدافهم الملتوية؛ لذلك فإنَّ نظريات المؤامرة لديها قدرة كبيرة على إثارة التشويق، وتتميز العديد من الأفلام الناجحة بمؤامرة قوية.
يحارب الممثل "جيمس بوند" (James Bond) بشكل متكرر مؤامرة خادعة تهدد العالم. وتظهر المؤامرات الحاقدة والغامضة أيضاً في أفلام مثل "الماتركس" (The Matrix) و"ذا نت" (The Net) و"ذا ترومان شو" (The Truman Show) والعديد من الأفلام الأخرى.
قد تؤدي المشاعر الجياشة التي تثيرها نظريات المؤامرة إلى إضعاف قدرة الناس على التفكير بعقلانية حيالها.
من البديهي إذاً أن يجد الكثير من الناس أنَّ نظريات المؤامرة مُسلِّية؛ أي مثيرة للاهتمام وشائقة، فربما لا يكون السر في كونها ممتعة هو المشاعر السلبية بحد ذاتها؛ بل التجارب العاطفية الشديدة، وفي الواقع قد يكون الافتراض الشائع بأنَّ الناس دائماً ما يعانون من عواطف مثل القلق سلبياً إلى حد ما تبسيطياً.
شاهد بالفيديو: 10 طـرق لتفكـر بوضوح أكثر
الدراسات حول نظريات المؤامرة:
فلنُجرِ مقارنة بين الأفلام المخيفة: غالباً ما يشعر الناس بالقلق عند مشاهدة فيلم مخيف؛ ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ مشاهدته تجربة بغيضة، ففي الواقع يدفع الناس المال لمشاهدة الأفلام المخيفة، وقد يتركون السينما محبطين إذا لم يُخِفهم الفيلم بما فيه الكفاية؛ السبب المعقول الذي يجعل الناس يجدون مثل هذه الأفلام مسلية هو أنَّها تثير مشاعر شديدة؛ إذ يمكن أن تنسينا هذه المشاعر الملل وتجعلنا نشعر بأنَّنا على قيد الحياة، وبالمثل قد تثير نظريات المؤامرة تجارب عاطفية شديدة ومنها القلق؛ ولكنَّها أيضاً تثير العجب والشعور بأنَّ المرء يكتشف شيئاً فريداً وهاماً حقاً.
ما الذي يجعل الناس يؤمنون بنظريات المؤامرة لمجرد أنَّها تحمل صفات تشويقية؟ يكمن جزء من الإجابة في صفة يشير إليها علماء النفس بالسلاسة، فالمعلومات المثيرة للاهتمام والتي تجذب الانتباه أسهل في استيعابها عقلياً من المعلومات المملة، مثل المعلومات الواقعية وغير المثيرة بشكل خاص، والتي تكشف عن أنَّه في معظم الأيام يعمل السياسيون بسهولة على تشريعات جديدة في مكاتبهم، ومن المحتمل أن يكون استدلال السلاسة هذا موجوداً؛ لأنَّه في الحياة اليومية غالباً ما تكون المعلومات التي "تبدو صحيحة" بهذه الطريقة صحيحة.
على سبيل المثال: تطير الطيور تسبح الأسماك؛ ولكنَّ الأثر الجانبي هو أنَّه عندما يكون من السهل استيعاب المعلومات الخاطئة، يستنتج الناس بسهولة أكبر أنَّ المعلومات صحيحة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ المشاعر الجياشة التي تثيرها نظريات المؤامرة قد تكبح قدرة الناس على التفكير بعقلانية عنها، فالعواطف هي جزء من نظام داخل العقل البشري ينتج أحكاماً سريعة، في حين أنَّ التفكير التحليلي الأبطأ مطلوب للشك في نظريات المؤامرة؛ إذ إنَّ الجمع بين السلاسة وبين قمع العقلانية يمكن أن يعزز الاعتقاد بأنَّ هناك حقيقة في نظرية المؤامرة المسلية.
دور الترفيه في نظريات المؤامرة:
لدراسة دور الترفيه في الاعتقاد بنظرية المؤامرة؛ أجريتُ في الآونة الأخيرة سلسلة من الدراسات وفي اثنتين من هذه الدراسات قرأ المشاركون منشور مدونة حول الحريق في كاتدرائية "نوتردام" في "باريس" أو وفاة المعتدي الجنسي الثري "جيفري إبستين" (Jeffrey Epstein).
قرأ بعض المشاركين منشوراً على مدونة يعرض التفسير السائد لهذه الأحداث، على سبيل المثال: كان حريق "نوتردام" حادثاً مأساوياً؛ قتل "إبستين" نفسه في زنزانته في السجن، ومع ذلك قرأ المشاركون الآخرون منشوراً يروج إلى نظرية المؤامرة، على سبيل المثال: أُشعِلَت النار في "نوتردام" عمداً، قُتل إبستين على يد أشخاص ذوي نفوذ، ثم قيَّم المشاركون مدى الترفيه الذي وجدوه في المقال، وسجلوا السرد على صفات مثل "ترفيهي" و"مثير" و"ممل" و"لافت للانتباه"، كما أشاروا إلى مدى تصديقهم لنظريات المؤامرة المحيطة بهذه الأحداث.
من الواضح أنَّ المشاركين يميلون إلى تصنيف منشور المدونة الذي يدعم نظرية المؤامرة على أنَّه أكثر إمتاعاً؛ إذ ارتبطت تقييماتهم الترفيهية بحديثهم عن شدة تجاربهم العاطفية أكثر من ارتباطها بالسلبية أو الإيجابية للعواطف، والأهم أنَّ منشور المؤامرة أثار أيضاً معتقدات مؤامرة أقوى؛ وبدا هذا التأثير مدعوماً بالصفات المسلية للمنشور.
يمكن أن تضفي نظريات المؤامرة بعض الإثارة التي يرغب فيها الأشخاص الباحثون عن التشويق.
شاهد بالفيديو: 8 طرق ذهبية لاكتساب الثقة بالنفس.
القصص ونظريات المؤامرة:
واقترحت دراسة أخرى أنَّ الناس ميَّالون أكثر إلى توقع أن يتضمن سرد القصص المسلية بعض المؤامرات، وقرأ المشاركون عن انتخابات في بلد خيالي، ولكن هذه المرة لم يتضمن السرد إشارات إلى المؤامرات، فبدلاً من ذلك قرأ بعض المشاركين قصة ذات محتوى عاطفي لافت للانتباه - على سبيل المثال: "يحبس الجميع أنفاسهم حتى اللحظة الأخيرة؛ لأنَّه من غير المتوقع للغاية ومن المثير معرفة من سيفوز" - بينما يقرأ المشاركون الآخرون قصة ذات نص ممل باستعمال لغة منفصلة.
على سبيل المثال: "استناداً إلى استطلاعات الرأي من الصعب التأكد من نتيجة العملية الانتخابية"، في المتوسط وجد المشاركون الذين قرؤوا النص المثير أنَّه من المرجح أن تُزوَّر الانتخابات أكثر من المشاركين الذين قرؤوا النص الممل.
مع أنَّه من الواضح أنَّ بعض القصص مسلية أكثر من غيرها، فإنَّ الأمر يتعلق أيضاً باختلاف الناس في مدى توقهم إلى مثل هذا التسلية، وهو اختلاف قد يكون هاماً لقابلية نظرية المؤامرة للتأثير؛ لذلك في مجموعة أخيرة من الدراسات، فحصنا دور سمة شخصية تسمى البحث عن الإحساس، والتي تشير إلى رغبة شخص ما في تجارب جديدة ومثيرة.
على هذا النحو، كلما بحث الناس عن الإثارة أكثر، وجدوا قصصاً مسلية مثل نظريات المؤامرة أكثر جاذبية، واكتشفنا أنَّ ميول البحث عن الإثارة كانت مرتبطة بالفعل بمعتقدات المؤامرة المتزايدة، سواءً في سياق المنظمات - على سبيل المثال: المعتقدات بأنَّ مديريها يتآمرون لإيذاء الموظفين - وعلى نطاق أوسع - على سبيل المثال: الاعتقاد بأنَّ الصعود إلى القمر كان خدعة - ويبدو أنَّ نظريات المؤامرة يمكن أن توفر بعض الإثارة التي يرغب فيها الباحثون عن التشويق.
الدليل على أنَّ الترفيه عامل في اعتقاد نظرية المؤامرة له عدد من التداعيات.
أولاً:
من المحتمل أن تساهم خطوط الحبكة المذهلة لنظريات المؤامرة في جاذبيتها وتقليل قدرة الناس على التمييز بين الحقيقة والخيال، وكما يحدث، فإنَّ بعض معتقدات المؤامرة مستوحاة مباشرة من الأعمال الخيالية؛ إذ يصدق بعض الناس نظرية المؤامرة المذكورة في رواية "دان براون" (Dan Brown) الأكثر مبيعاً "شيفرة دافنشي" (The Da Vinci Code).
ثانياً:
يُبرِز دور الترفيه المخاطر التي تنجم عن إثارة وسائل الإعلام للقضايا السياسية أو المجتمعية أكثر من اللازم، في حين أنَّ الجهود المبذولة لجعل الأخبار أكثر إمتاعاً لها فوائد تجارية بالتأكيد، ولكن من الممكن أيضاً أنَّها تغذي العديد من الافتراضات القائلة إنَّ المؤامرات العدائية تعمل في الظل.
وعموماً، تؤكد هذه النتائج أنَّ محاولة تصحيح المعلومات الخاطئة وتقليل مشاعر القلق في أوقات الأزمات قد لا تكون كافية لمكافحة نظريات المؤامرة؛ فمن الهام أيضاً للآباء والمعلمين ووسائل الإعلام تعزيز الاعتراف بأنَّ أكثر القصص التي يجدها الناس مسلية في كثير من الأحيان لا تتوافق مع الواقع؛ ففي كثير من الأحيان يمكن أن تكون الحقيقة مملة للغاية.
أضف تعليقاً