« يا بنيّ ! اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلِم كما لا تحب أن تُظلَم ، وأحسِن كما تحبّ أن يُحسَن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من النّاس ما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك ».
إنّها ـ باختصار ـ تقول لنا: اجعلوا المقياس بينكم وبين النّاس أنفسكم، فالإيجابيّ بالنسبة لها إيجابيّ بالنسبة لهم، والسلبيّ بالنسبة لها سلبيّ بالنسبة لهم. فلو أخذنا بهذه النصيحة الذهبية، ترى ماذا يمكن أن نحصل عليه ؟
1 ـ بالعمل بهـذه القاعدة نصبح العادلين، والعدل هو غاية الإنسانية كلّها، فليس خلق أرفع وأجمل وأنفع من العدل يسود بين الناس. فأنت حسب هذه القاعدة لا تنتظر العدل يأتيك من الآخرين، بل إنّك تبادر إليه لتكون أول عامل به، وبطبيعة الحال فإنّ الخير يستجلب الخير، وانّ العدلَ يدفع إلى عدل مثله.
2 ـ بالعمل بهذه القاعدة الثمينة، نكون قد حوّلنا ساحة الحياة الواسعة من ساحة مزروعة بالألغام والمتفجرات، إلى ساحة تكثر فيها الواحات الجميلة والخمائل النضرة، أي أ نّها تتحوّل إلى جنّة مصغّرة .
فحين يكون الآخرُ ـ أخاً وصديقاً وزميلاً أو أيّ إنسان آخر ـ نصب عيني .. أستذكره في غضبي ورضاي ، وأعرف ما يزعجه ـ من خلال ما يزعجني ـ فلا آتي به، وأعرف ما يحبّه من خلال ما أحبّه وأرضاه ، فأفعله، فإنّني أكون أحد الساعين إلى تحويل جفاف الحياة إلى جنّة وارفة الظِّلال، تجري فيها الأنهار ، وتحلق الفراشات ، وتعبق الأزاهير.
يضاف إلى ذل ، أنّ هذه القاعدة ليست إسلامية فقط، إنّها إنسانية أيضاً، والإسلام ـ كما هو معلوم ـ إنسانيّ في كلّ ما جاء به ، فحتّى أبناء الديانات الاُخرى يدينون بهذه القواعد الأخلاقية والاجتماعية ، بل إنّ بعض أخصّائيّي علم النفس والاجتماع يدعون إلى الأخذ بها في مجال التهذيب الاجتماعي وتطوير العلاقات الإنسانية .
يقول مدير معهد العلاقات الإنسانية الأهلي في نيويورك (جيمس بندر) : « القاعدة الاُولى التي وصفها الحكماء هي تلك التي تمثّلت في القول الخالد : أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك »، فهو يصدّر بها لائحة القواعد التي تساعد على اجتذاب الناس ، ويعتبرها الخطوة الاُولى والمهمّة في الطريق إلى «الشخصية الجذّابة» .
ويقول صاحب كتاب «كيف تكسب الأصدقاء ؟! » (دايل كارنيجي) : « أظهر ما استطعت من اهتمام بالناس ، فهو ثروتك التي تزداد نموّاً كلّما أنفقت منها » .
فهل أنّ الطريق إلى الشخصية الاسلامية الاجتماعية الجذّابة .. تلك التي تُحِبُّ وتُحَبُّ .. تحبّ الناس ويحبّها الناس .. سالكة ؟!
بكلّ بساطة نقول : نعم .. ولكن !
وكلمة ( ولكن ) الاستدراكية كثيراً ما تقلب الصورة ، لكنّها هنا مجرد تنبيه إلى أن الـ (نعم) تحتاج إلى جهد معين نبذله في طبيعة التعامل مع الآخرين حتّى نحسنه ونتقنه ونجيده ، تماماً كما هو تعلّم أيّة مهارة من المهارات ، ففنّ التعامل الاجتماعي شأنه شأن أي فنّ من الفنون لا يتأتّى بالتمنّي ، إنّما هو حصيلة نشاط يبذله الشاب أو الشابّة ، وقد يبدو في البداية ـ كما هو طبيعة البدايات ـ صعباً لمن لم يتعوّده ، لكنّه مع مرور الأيام وتكرار التجربة والابتهاج بحصادها الوفير ، سيشكِّل متعة نفسية واجتماعية وروحية ما بعدها متعة ، يومَ تجد أ نّك وقد فتحت أحضانك للناس من حولك لتقوم لهم : أنا على استعداد إلى أن أضمّكم إلى قلبي .. وها أنذا أفعل !!
ستجد أنّ الأحضان المقفلة التي سبق أن واجهك بها الآخرون ، لا تلبث أن تتفتّح بمجرّد أن تستشعر صدق حبّك واحترامك لها .. فليس أجذب إلى الحبّ من الحبّ ، وإلى القلبِ من القلب ، وإلى الألفة من الألفة ، وإلى حسن المعاشرة من حسن المعاشرة . يقول حكيم مجرّب : « أصحاب العقول حسّادهم كثيرون ، أمّا أصحاب القلوب فأصدقاؤهم كثيرون » !!
وباعتراف جميع الأمم ، على اختلاف مشاربها ، فإنّ الانسان كائن اجتماعيّ يألف ويؤلف ، حتّى أ نّه لو عاش لوحده فترة من الزمن لاستوحش ، فهو في حالي ـ السعادة والشقاء ـ يحتاج إلى من يعيش معه دمعته وابتسامته، فيبادله فرحاً بفرح وحبّاً بحبّ، وهمّاً بهمّ وحزناً بحزن .
ومن هنا ، فإنّ مقولة «الجحيم هم الآخرون» التي أشاعها بعض أدباء الغرب قد تنطلق من واقع يفتقر إلى دفء العلاقات الاجتماعية ، ومن وطأة الإحساس بالمشاكل التي يخلقها المجتمع غير المؤمن ، ومن أجواء المنافسة غير الشريفة التي تدفع أحياناً إلى تحطيم الآخر وازاحته من الطريق بكلّ الوسائل والطّرق . ...
أضف تعليقاً