يعتقد بعض علماء علم النفس أنَّ بحث البشر عن التميز الموجود داخلهم هو ظاهرة حديثة وليست قديمة؛ حيث كان البشر في القرون الأولى يولون اهتماما أكبر بقضايا البقاء الأساسية كالمأكل والمشرب والملبس والأمان، وبعد أن تمَّ تلبية معظم احتياجات البشر الأساسية في البقاء، فقد بدأ اهتمامهم بالبحث عن التميز والذي ظهر بدءاً من القرن التاسع عشر وحتى وقتنا هذا.
وفي نتائج معظم الدراسات في علم النفس الاجتماعي والتي تناولَت أمر التميُّز، نجد أنَّ البشر أغلبهم يفضِّلون ترسيخ شعور بالخصوصية والتفرد عند إعطائهم ملاحظات تفيد بتشابههم مع الآخرين، ومن هنا، يبدأ الشخص المشار إليه بالتصرف بشكل يريد أن يُظهِر من خلاله اختلافه عن الآخرين وتميُّزه.
ومن هنا يأتي التساؤل "هل التميز يولَد معنا؟ أم يتم صناعته؟ وبمعنى آخر، هل خُلِقنا جميعاً وبداخلنا بذرة التميز؟ أم أنَّها خُلِقَت مع بعض الأشخاص وبعضهم الآخر لم يحظَ بها؟ وللإجابة عن هذا التساؤل، نرجو منكم أعزاءنا القراء أن تمعنوا التفكير في تلك الأسئلة التي سيتم طرحها عليكم، وتجيبوا عنها بـ "نعم" أو "لا":
- هل جلستَ يوماً في ذلك المجلس الذي لا يسمع فيه أحد الآخر، وتغلب عليه الضوضاء، والجميع يتحدثون في أنٍ واحد، على الرغم من كبر سن الحضور وبلوغهم سن الرشد؟
- هل قابلتَ يوماً ذلك الشخص الذي يعرف إجابة لكل الأسئلة في دنياه على الرغم من تأكُّدك من عدم علمه بأي منها؟
- هل قابلتَ يوماً ذلك الشخص الذي دائماً هو صاحب الرأي الآخر المخالف حتى فيما لا يختلف عليه اثنان؟
- هل تحدثتَ يوماً إلى ذلك الشخص الذي دائماً ما يكون هو المثبط للعزائم، ودائماً ما يكون هو المحبط لكل محاولة تميُّز للآخرين؟
- هل تحدثتَ يوماً إلى ذلك الشخص الذي دائماً ما يشعرك بأنَّ أيَّ عمل مميَّز تُحقِّقه ما هو إلا عمل عادي ولا يتصف بالتميز؟
- هل تحدثتَ يوماً إلى ذلك الشخص الذي دائماً ما يقص عليك أمور الحياة العادية اليومية الخاصة به وكأنَّها إنجازات لم يسبق لها مثيل ولم يصل إليها غيره من قبل؟
- هل قابلتَ يوماً ذلك الشخص الذي دائماً يصاحبه شعور التفرد وأنَّ العالم يدور مَن حوله هو فقط؟
- هل قابلتَ يوماً ذلك الشخص الذي دائماً ما يُحدِّثك أنَّه إذا دخل إلى أي مكان، كان هو الملفت وهو الأفضل بين كل الحضور؟
- هل قابلتَ يوماً ذلك الشخص الذي لا يخبرك أبداً عن إنجازك حتى وإن بدا هذا الإنجاز واضحاً جلياً أمام الجميع؟
- هل صادفك ذلك الشخص الذي دائماً ما يعلو فوق كلامك، ودائماً هو فعلها قبلك وبشكل أفضل من فعلتك أياً كان مدى الإنجاز الذي حقَّقتَه أنت أو من تحكي عنه قصتك؟
إذا كانت معظم إجاباتك بـ "نعم"؛ بمعنى أن تكون الإجابة "نعم أكثر من ست إجابات"، فعليك أن تتأمل معي في باقي مقالي، وأما إن كانت معظم إجاباتك بـ "لا" فعليك أن تصالح نفسك وتراجعها جيداً، فقد تكون أنت ذلك الشخص الذي نتحدث عنه.
في حال كانت إجاباتك بـ "نعم"، فتعال معي نفكر في تصرفات هؤلاء الأشخاص، فلماذا هم يفعلون ذلك؟ ولماذا هم دائماً ما يرفعون أصواتهم بقوة ليعرضوا أراءهم؟ ولماذا هم دائماً لا يسمعون من حولهم؟ ولماذا لا يقبلون النقد؟
أعتقد أنَّ الإجابة تكمن في كونهم يبحثون عن التميز الذي لم يستطيعوا تحقيقه بشكل يخرس ألسنة من حولهم، فهم لم يستطيعوا التميز والتفرد بتحقيق إنجاز يتحدث عنه الآخرين قبل أن يتحدثوا هم أصحاب الإنجاز نفسه.
لماذا هم دائمو التظاهر بأنَّهم يعلمون ببواطن الأمور؟ ولماذا هم لا يقولون أبداً "لا أعلم؟"، وأعتقد أنَّ الإجابة أيضا هي البحث عن التفرد والتميز بالتظاهر بالعلم بأخبار معينة لا يعلمها غيرهم دون ذكر أي مصادر، وغالبا هم مصدر الشائعات في مجتمعاتنا ببحثهم أيضا عن التميز والتفرد.
لماذا هم دائماً مخالفو رأي الأغلبية ودون حجج؟ أعتقد أنَّها الإجابة نفسها وهي البحث عن التميز عن الآخرين وبأي شكل من الأشكال.
لماذا هم دائماً محبِطون للآخرين؟ أعتقد أنَّ الإجابة أيضا ً في خوفهم من أن يتميز أحد غيرهم، فلا يوجد حل سوي أن يتميزوا هم وحدهم وأن يحبطوا الآخرين عندما يرونهم في طريقهم إلى التميز فهم دائماً يرون الآخرين منافسين لهم سواء كان ذلك في أي مجال من مجالات الحياة حتى وإن كان ذلك المجال هو مجال العلاقات الأسرية والأهل والأقارب.
إنَّهم دائماً يضعون الجميع في حلبة المصارعة ولا مفر سوى هزيمة الآخرين بأي شكل من الأشكال، ومن أدوات الحرب التي يستخدمونها دائماً، التقليل من شأن إنجازات الآخرين مهما كبرت ومهما عظمت، فهم دائماً ما يُشعِرون منافسيهم - كما يرونهم - أنَّهم لم يفعلوا شيئاً يُذكَر.
هم دائمو الشعور بأنَّهم مميَّزون ومتفردون والعالم كله يدور حولهم من أجلهم، فمعظم أمور الحياة العادية هم يرونها حرباً انتصروا فيها على الآخر الذي صنعوه في خيالهم، سواء كان هذا الآخر شخصاً طبيعياً أم شخصاً اعتبارياً، وسواء كان فرداً أم نظاماً سياسياً أم نظاماً إدارياً أم أياً كان فهو منافس ولا بُدَّ من الفوز عليه وإقصائه خارج البطولة حتى يتسلموا كأس البطولة وحدهم.
دائماً ما يرون أنفسهم في أيَّة مناسبة أو جمع أو حشد أنَّهم هم المختلفون الذين يلتفت إليهم الجميع، فإن دخلوا إلى مكان ما، لا بد أن يلتفت الجميع ويهتم، فهم وحدهم من يلفت الانتباه، فدائماً يرون أنفسهم أبطال الرواية.
كن حذراً إن قصصتَ عليهم روايتك وفاحت منها رائحة التفوق أو التميز، فهم لا يسمعونك، وهم مشغولون بتجهيز الأعظم منها، وهم دائماً الأفضل.
وبناءً على ما سبق، يجب علينا التفكير بشكل أعمق، ونسأل أنفسنا "لماذا يفعل أولئك الأشخاص كل ذلك؟".
أعتقد أنَّه لا توجد إجابة سوى بحثهم الدائم عن التميز والتفرد الذي لم يستطيعوا تحقيقه بشكل ملموس في الحياة، فهم لم يحققوا تميُّزاً يرقي إلى مرتبة الإنجاز، وهم يحملون عقدة التميز، فمن حقَّقَ تميُّزاً أو تفرداً ملموساً وواضحاً جلياً للآخرين، سيسلك أحد المسلكين؛ إما أن يترك إنجازه يتحدث عنه أو ينشغل بإنجازه هذا ويتحدث عنه كثيراً، ولكنَّه بأي حال من الأحوال لم يهتم بشأن منافسة مَن هم أقل منه شأناً في الإنجاز.
ومن هنا، نكون قد توصَّلنا بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ التميز مخلوق فينا جميعاً نحن البشر، فهو يولَد بداخلنا، وقد يستطيع بعضهم أن ينميه ويستخدمه في تحقيق تميُّزٍ فعلي بإنجاز ملموس حقيقي يراه الآخرين، وبعضهم الآخر لا يستطيعون تنميته واستخدامه بشكل سليم، ولكنَّه ما زال موجوداً بداخلهم يبحثون عن إظهاره دائماً ولكنَّه يظهر في شكل إنجازات غير ملموسة يرونها هم فقط إنجازات ولا يراها غيرهم، وأحياناً ما يبحثون عن إظهار تميُّزهم الوهمي بمنافسة الآخرين الذين غالباً لا يعلمون أنَّهم طرف في مباراة وهمية في خيال الآخر.
ولذلك، فنحن ننصحكم أعزاءنا القراء بألَّا تقتلوا بذرة التميز داخلكم وأن تكونوا من أصحاب الإنجازات الملموسة التي يتحدث عنها الآخرين دون أن تظهروها أنتم، وإن لم يحالفكم الحظ ولم تستطيعوا أن تكونوا من أصحاب الإنجازات الملموسة، فابحثوا عن التميز دائماً داخلكم ولا تبحثوا عنه عند الآخرين حتى لأولئك الذين يبحثون عن التميز ولا يجدونه.
وأخيراً وليس آخراً، علينا إعادة النظر في تربية أبنائنا الذين من المؤكد أن تكون قد وُلِدَت معهم جميعاً بذرة التميز، فعلينا تنميتها باستمرار؛ وذلك بأن نتقبل أفكارهم، ونتقبل أنَّه ليس من الضروري أن يتفق تميُّزهم وتفرُّدهم مع طموحاتنا وأمانينا، فليس من الضروري أن يكون تميزهم في مجال التعليم، فقد يكون التميز في الرياضة، أو في الفن، أو في الدين أو في الشخصية القيادية، وغير ذلك، فمجالات التميز كثيرة جداً، وليس علينا سوى توجيههم ونصحهم فقط دون أن نختار عنهم، وإن اضطررنا للاختيار عنهم، فيجب أن يكون لفترة معينة هم يحتاجون فيها فعلاً مَن يختار عنهم.
الكاتب: د. عمر فهمي عمر
المصادر:
- د. عبد الستار إبراهيم، 2012، "أسس علم النفس"، عالم المعرفة.
- د. محمد أحمد يوسف، 2015، " مبادئ علم النفس الحيوي".
- د. هاني يحيى نصري، 2015 "علم النفس العام".
- د. معتز سيد عبد الله، 2018، "مدخل إلى علم النفس الاجتماعي"، جامعة القاهرة – كلية التجارة.
أضف تعليقاً