الرثاء في شعر النابغة الذبياني:
يعدُّ الرثاء من أبرز الموضوعات التي تشكل أساساً في الشعر العربي عبر العصور المختلفة، فهو يعبر عن عمق العواطف الإنسانية، مندمجة بين الحب والمودة والحزن والوجد، وكان لهذا النوع من الشعر دور هام في تعبير الشعراء العرب عن فقدانهم لأحبائهم وعزائهم في مواجهة الموت والفراق في العصور القديمة، وكان الشعراء يعبرون في قصائدهم عن الألم والحرقة التي تصيبهم عند فقدانهم أحد أفراد مجتمعهم، مخلدين ذكراهم وخصالهم الجليلة التي لهم في الحياة، وفي العصر الجاهلي، لم يكن الأمر مختلفاً، فكان للرثاء خصوصياته وميزاته التي جعلته يتميز بشكل خاص عن غيره من الأشعار.
من بين شعراء العصر الجاهلي، يبرز شعر النابغة الذبياني في الرثاء، الذي يعد من أبرز الشعراء في تلك الفترة، ويدعى النابغة الذبياني باسم زيادة بن معاوية بن غيظ بن مرة بن ذبيان بن قيس بن مضر، ولد في عام 535 ميلادي وكانت له شهرة واسعة بفضل بلاغته وأدبه الرفيع، تميز عن غيره بمعرفته الواسعة في الشعر والنثر، وقد أطلق عليه لقب "النابغة" نظراً لموهبته البارعة في البلاغة، وكانت كنيته الشائعة أبو أمامة.
عُرِف شعر النابغة الذبياني بشعر الاعتذارات والرثاء، فكان يعتذر ويعبر عن حزنه لفراق المحبوبة والأسف عن أفعاله، وكان يعتذر أيضاً من الحكام والمشاهير عندما تتعرض سمعته للتشويش، وكان يتميز أسلوبه بالقصصية والتشويق، وهذا جعل قصائده محط اهتمام القراء والمستمعين، وأضاف لها رونقاً وإثارة لا تنسى، ومع مرور الزمن، ظلت أشعار النابغة الذبياني حية ومتألقة، تنير درب الأدب العربي وتذكرنا بعظمة هذا الشاعر وموهبته الفذة.
قصائد النابغة الذبياني في الرثاء:
نُظمَت معظم الأشعار من قبل عقول كبيرة، وتُدرَّس هذه الأشعار في المدارس والجامعات ضمن تخصصات مختلفة، ويعد شعر النابغة الذبياني في الرثاء من أهم وأعظم الأشعار في التاريخ، وفيما يأتي بعض قصائده:
1. قصيدة أمن آل مية رائح أو مغتد:
أمن آل ميَّة رائحٌ أو مغتَد
عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّد
أفد الترجُّل غير أَنَّ ركابنا
لمَّا تزل برحالنا وكأن قد
زعم البوارح أنَّ رحلتنا غداً
وبذاك خبَّرنا الغداف الأَسود
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به
إن كان تفريق الأحبَّة في غد
حان الرحيل ولم تودِّع مهدداً
والصبح والإِمساء منها موعدي
في إثر غانيةٍ رمتك بسهمها
فأَصاب قلبك غير أَن لم تقصد
غنيت بذلك إذ هم لك جيرةٌ
منها بعطف رسالةٍ وتودُّد
ولقد أصابت قلبه من حبِّها
عن ظهر مرنانٍ بسهمٍ مصرد
نظرت بمقلة شادنٍ متربِّبٍ
أحوى أحمِّ المقلتين مقلَّد
والنظم في سلكٍ يزيِّن نحرها
ذهبٌ توقَّد كالشهاب الموقَد
صفراء كالسيراء أكمل خلقها
كالغصن في غلوائه المتأَوِّد
والبطن ذو عكنٍ لطيفٌ طيُّه
والإِتب تنفجه بثديٍ مقعد
محطوطة المتنين غير مفاضةٍ
ريَّا الروادف بضَّة المتَجرَّد
قامت تراءى بين سجفي كلَّةٍ
كالشمس يوم طلوعها بالأَسعد
أو درَّةٍ صدفيَّةٍ غوَّاصها
بهجٌ متَّى يرها يهل ويسجد
أو دميةٍ من مرمرٍ مرفوعةٍ
بنيت بآجرٍّ تشاد وقرمد
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتَّقتنا باليد
بمخضَّبٍ رخْصٍ كأنَّ بنانه
عنَمٌ يكاد من اللطافة يعقد
نظرت إليك بحاجةٍ لم تقضها
نظر السقيم إلى وجوه العوَّد
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
برداً أسفَّ لثاته بالإثمد
2. قصيدة أهاجك من سعداك مغنى المعاهد:
أهاجك من سعداك مغنى المعاهد
بروضة نعميٍّ فذات الأساود
تعاورها الأرواح ينسفن تربها
وكل ملثٍّ ذي أهاضيب راعد
بها كلُّ ذيَّال وخنساء ترعوي
إلى كلِّ رجَّافٍ من الرمل فارد
عهدت بها سعدى وسعدى غريرةٌ
عروبٌ تهادى في جوارٍ خرائد
لعمري لنعم الحيِّ صبَّح سربنا
وأَبياتنا يوماً بذات المراود
يقودهم النعمان منه بمحصفٍ
وكيدٍ يغمُّ الخارجيَّ مناجد
وشيمة لا وانٍ ولا واهن القوى
وجدٍّ إذا خاب المفيدون صاعد
فآب بأَبكارٍ وعونٍ عقائلٍ
أوانس يحميها امرؤٌ غير زاهد
يخطَّطن بالعيدان في كلِّ مقعدٍ
ويخبِّئن رمَّان الثدِيِّ النواهد
ويضربن بالأيدي وراء براغزٍ
حسان الوجوه كالظباء العواقد
غَرائر لم يلقين بأساء قبلها
لدى ابن الجلاح ما يثقن بوافد
أَصاب بني غيظٍ فأضحوا عباده
وجلَّلَها نعمى على غير واحد
فلا بدَّ من عوجاء تهوي براكبٍ
إلى ابن الجلاح سيرها الليل قاصد
تخبُّ إلى النعمان حتَّى تناله
فدىً لك من ربٍّ طريفي وتالدي
فسكَّنت نفسي بعدما طار روحها
وألبستني نعمى ولست بشاهد
وكنت امرأ لا أمدح الدهر سوقةٍ
فلست على خيرٍ أتاك بحاسد
3. قصيدة دعاك الهوى واستجهلتك المنازل:
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل
وكيف تصابي المرء والشيب شامل
وقفت بربع الدار قد غيَّر البلى
معارفها والساريات الهواطل
أُسائل عن سعدى وقد مرَّ بعدنا
على عرصات الدار سبعٌ كوامل
فسلَّيت ما عندي بروحة عرمسٍ
تخبُّ برحلي تارةً وتناقل
موَثَّقة الأَنساء مضبورة القرا
نعوبٍ إذا كلَّ العتاق المراسل
كأَنِّي شددت الرحل حين تشذَّرت
على قارحٍ ممَّا تضمَّن عاقل
أقبَّ كعقد الأندري مسحَّجٍ
حزابيَّةٍ قد كدَّمته المساحل
أضرَّ بجرداء النسالة سمحجٍ
يقلِّبها إذ أعوزته الحلائل
إذا جاهدته الشدَّ جدَّ وإن ونت
تساقط لا وان ولا متخاذل
وإن هبطا سهلاً أثارا عجاجةً
وإن علوا حزناً تشظَّت جنادل
وربِّ بني البرشاء ذهلٍ وقيسها
وشيبان حيث استبهلَتها المنازل
لقد عالني ما سرَّها وتقطَّعت
لروعاتها مني القوى والوسائل
فلا يهنئ الأَعداء مصرع ملكهم
وما عتقت منه تميمٌ ووائل
وكانت لهم ربعِيَّةٌ يحذرونها
إذا خضخضت ماء السماء القبائل
يسير بها النعمان تغلي قدوره
تجيش بأسباب المنايا المراجل
يحثُّ الحداة جالزاً بردائه
يقي حاجبيه ما تثير القنابل
يقول رجالٌ ينكرون خليقتي
لعلَّ زياداً لا أَبا لك غافل
أبى غفلتي أنِّي إذا ما ذكرته
تحرَّك داءٌ في فؤادي داخل
4. قصيدة كليني لهم يا أميمة ناصب:
كليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصب
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتَّى قلت ليس بمنقضٍ
وليس الَّذي يرعى النجوم بآئب
وصدرٍ أراح الليل عازب همِّه
تضاعف فيه الحزن من كلِّ جانب
عليَّ لعمرو نعمةٌ بعد نعمةٍ
لوالده ليست بذات عقارب
حلفت يميناً غير ذي مثنويَّةٍ
ولا علم إلَّا حسن ظنٍّ بصاحب
لئِن كان للقبرين قبرٍ بجلَّقٍ
وقَبرٍ بصيداء الَّذي عند حارب
وللحارث الجفنيَّ سيِّد قومه
ليلتمسن بالجيش دار المحارِب
وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت
كتائب من غسَّان غير أشائب
بنو عمِّه دنيا وعمرو بن عامرٍ
أولئك قومٌ بأسهم غير كاذب
إذا ما غزوا بالجيش حلَّق فوقهم
عصائب طير تهتدي بعصائب
يصاحبنهم حتَّى يغرن مغارهم
من الضاريات بالدماء الدوارب
تراهنَّ خلف القوم خزراً عيونها
جلوس الشيوخ في ثياب المرانب
جوانح قد أيقنَّ أنَّ قبيله
إذا ما التقى الجمعان أوَّل غالب
لهنَّ عليهم عادةٌ قد عرفنها
إذا عرِّض الخطِّي فوق الكواثب
على عارفاتٍ للطعان عوابسٍ
بهنَّ كلومٌ بين دامٍ وجالب
إذا استنزلوا عنهنَّ للطعن أرقلوا
إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
فهم يتساقون المنيَّة بينهم
بأيديهم بيضٌ رقاق المضارب
يطير فضاضاً بينها كلُّ قونسٍ
ويتبعها منهم فراش الحواجب
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم
بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائب
خصائص الشعر في العصر الجاهلي:
يعد العصر الجاهلي واحداً من أهم الفترات التي شهدت ازدهار الشعر العربي والبلاغة، فقد أنجبت هذه الفترة أعظم الشعراء، وكانت أيضاً وسيلة للترفيه والتعبير عن مختلف المشاعر مثل العتاب والحزن والرثاء والحب والغزل، كما تميزت هذه الفترة بخصائص فريدة من نوعها، منها:
- زادت استخدام التشبيه في العصر الجاهلي، فتحولت إلى وسيلة أساسية للتعبير عن الأفكار والمفاهيم، وازدادت التشبيهات التي ترتبط بالفراغ والصحاري والجبال، نظراً لأهميتها البارزة في تلك الحقبة.
- استخدام الاستعارات بأنواعها (مكنية، تصريحية وغيرها) التي تعد من السمات البارزة في العصر الجاهلي، فكانت تستخدم بشكل واسع للتعبير عن المفاهيم والأفكار بطرائق ملموسة ومجسدة.
- شرح ووصف طبيعة الحياة الجاهلية بدقة.
- استخدام الكلمات ذات المعاني الكبيرة والعميقة للإشارة إلى المعرفة والثقافة.
- استخدام المحسنات اللفظية بشكل كبير، التوظيف الغنائي في القصائد.
- عُرِفَت القصائد في العصر الجاهلي بالشعور الحسي عند الشعراء.
في الختام:
لقد وجدنا أنَّ قصائد النابغة الذبياني تشكل رمزاً للموهبة الشعرية والفكرية التي ارتقت بهذا الشاعر إلى قمم الإبداع، فيتجلى في شعره استخدام اللغة بمهارة ودقة، وتجسيد الأفكار بأسلوب راقٍ ومتقن، وهذا جعله يتربع على عرش الشعراء في عصره.
أضف تعليقاً