كيف نخدع أنفسنا؟
جميعنا يخدع نفسه؛ لكنَّ هذه الحقيقة لا تجعل الأمر خالياً من المضار لارتباطه بضعف الصحة النفسية عند ظهوره بمستويات مرتفعة، إلا أنَّه يحمي من المشاعر السلبية مؤقتاً عند وجوده بمستويات متوسطة. ويشكل ذلك عائقاً أمام السلامة التي تأتي من العيش بنزاهة؛ لذا، إن أردنا أن نكون سعداء، فعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا.
يوجد قلة من الناس صادقة تماماً مع الآخرين، وقد وجدت أبحاث أُجرِيَت على عدد من الطلاب في جامعة ماساتشوستس (Massachusetts) أنَّ 60% منهم كذبوا مرة واحدة على الأقل خلال محادثة دامت 10 دقائق فقط، بينما كذب كثير منهم مرات عديدة.
وقد يكون تحريف الواقع داخل أذهاننا شائعاً للغاية، يقول أحد العلماء: "جميع البشر يخدعون أنفسهم"، فما من شخص صادق مع نفسه بشكل كامل لأنَّ الحقيقة مؤلمة بكل سهولة.
وتُعَدُّ الدقة في إدراك العالم من حولنا سمة شائعة للاكتئاب، ويشار إليها أحياناً باسم "الواقعية الاكتئابية" (depressive realism)، فالحياة بسهولة مليئة بالحقائق القاسية، ولتزيد من فهمك للأمر، تذكَّر المرة الأخيرة التي سخرت فيها من شخص غادر الغرفة للتو، إنَّه يعلم في أعماق نفسه أنَّ هذا ما يحدث؛ لأنَّه قام بهذا الفعل في إحدى المرات التي غادرتَ أنت الغرفة فيها، ومع ذلك سيتجاهل هذه المعلومة ليتابع يومه دون انزعاج.
نخدع أنفسنا للدفاع عنها:
ينخرط بعض الأشخاص أحياناً في خداع الذات دفاعاً عن نظرتهم لأنفسهم أو لاستجماع شجاعتهم، وقد جسَّد العضو السابق في مجلس الشيوخ الأمريكي آل فرانكن (Al Franken) هذه الظاهرة في برنامج المنوعات ساترداي نايت لايف (Saturday Night Live) عندما أدى دور مضيف برامج تلفزيونية مضطرب ومنغمس في المساعدة الذاتية يدعى ستيوارت سمولي (Stuart Smalley)، فقد استمر بقول: "أنا جيد وذكي بما يكفي، وأنا متمكن مما أفعل والجميع يحبني".
وبأسلوبٍ مماثل، إن لم يكن التحدث أمام الجمهور من نقاط قوَّتك، فيمكنك تجربة التعزيز الذاتي لتحصل على الشجاعة قبل عرض تقديمي مخيف بأن تقول لنفسك: "أنا متحدث رائع". وعلى مستوى أكبر، قد يقنع أحد المقاولين نفسه أنَّ مخططه الطائش الذي يتمسك به بتشدد هو فكرة رائعة.
أن تزيِّف الأمر حتى تتقنه شيء، أما أن تخفي الحقيقة عن نفسك حتى النهاية فهو شيءٌ مختلف تماماً. ومن المحتمل أن تنجح في المدرسة باتباع وسائل الغش، أو بسبب معاملة الأساتذة التفضيلية لك؛ لكنَّك تقنع نفسك أنَّ نجاحك ناتج عن مجهودك.
تظهر التجربة التي أجراها عالم النفس بول كيه بيف (Paul K. Piff) وزملاؤه عام 2020 أنَّ البشر يميلون إلى تقدير دور الحظ عند فشلهم أكثر من أوقات نجاحهم، على سبيل المثال: تؤمن زميلتك أنَّ ترقيتها في العمل هي ثمرة براعتها؛ لكنَّ الآخرين يرون أنَّها حصلت عليها لكونها ابنة أخ رب العمل.
شاهد بالفيديو: 8 طرق لهدوء النفس.
الإنكار وخداع النفس:
قد تبرر المعاملة المميزة التي تحظى بها من خلال خداع نفسك في تقييم جدارتك؛ لكنَّ ذلك يجعل ملاحظتك وتقديرك للاجتهاد الحقيقي أكثر صعوبة، وهو بحد ذاته أمر سيء، فالخداع الذاتي يصبح خطيراً عند إنكار الحقائق المؤلمة التي يجب عليك مواجهتها، كالعلاقات السامة والعادات الضارة.
يؤدي الإنكار عند مدمني المخدرات إلى تبرير اعتمادهم عليها لتفادي آلام الانسحاب وإعادة التأهيل، وقد وجد الباحثون عام 2016 أنَّ مدمني الكحول والمخدرات يظهرون درجات مرتفعة من خداع الذات، بما في ذلك الإنكار (يمكنني الإقلاع متى أردت)، وفقدان الذاكرة الانتقائي (لم أكن ثملاً ليلة أمس).
يقود الكذب على الذات إلى تأجيل إجراء التغييرات التي نحتاجها، ويحرِّضنا على الكذب على الآخرين أيضاً. وفي الحقيقة، يُعَدُّ خداع المرء لذاته تقنية كلاسيكية للتلاعب والإقناع.
يقول المثل القديم: "إنَّها ليست كذبة إن كنت تؤمن بها"، وبالفعل، أوضح عالم الأحياء روبرت تريفيرس (Robert Trivers) عبر أبحاثه أنَّ الأشخاص المسؤولين عن أداء مهمة معينة يعارضون عمداً سماع أدلة مناقضة لها؛ بعبارة أخرى، يمكن أن يكون بائع الليمون الذي يحاول إقناعك أنَّ بضاعته هي الأجود في السوق، قد أقنع نفسه بصحة هذه الفكرة أيضاً.
كل هذا الخداع الذاتي، سواء كان متعلقاً بالمهارات أم الإدمان على المخدرات، يتطلب مقداراً كبيراً من طاقتك لاستمراره، ويُعَدُّ التسويف من أشكال خداع الذات، فقد يكون سهلاً (سأفرغ غسالة الصحون لاحقاً) أو كارثياً (سأتصل بطبيبي الأسبوع المقبل بشأن الألم الصدري الذي أعاني منه)، وهذا الشكل من الخداع مكلف للغاية لأنَّ تجنب المشكلات قد يفاقمها، فالشخص المماطل مضطرٌ للتفكير في مهامه مراراً دون جني ثمار نتائجها على أرض الواقع.
يزيد القليل من خداع الذات، دون إلحاق الأذى بالآخرين، من السعادة على الأمد القصير، ويعمل على حماية المشاعر وتسهيل الحياة، فمن المحتمل أن تقنع نفسك أنَّ الآخرين يقدرونك، مع السماح ببعض المماطلات غير الضارة، لكن حاذر أن تنكر الحقائق التي تشكل خطراً عليك أو على الآخرين، ولا تتلاعب بغيرك عبر الكذب على نفسك.
خداع النفس يقلل من السعادة:
ماذا عن السعادة طويلة الأمد؟ ستشعر بالراحة عندما تحيا داخل شرنقة من الأكاذيب، فهي مشابهة للإدمان؛ لكنَّك لن تحصل أبداً على الشعور بالرضى، ولن تتمكن من العثور على القناعة إلا عند مواجهة حقيقة نفسك.
يرى الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر (Jean Paul Sartre) أنَّ جميع أنواع خداع الذات مهما كانت قليلة، هي جزء مما يدعى "سوء النية": وهي عدم الرغبة في اكتشاف جوهرنا وتحمُّل مسؤولياتنا الحقيقية ككائنات واعية، فالجهل نعمة من هذا المنظور؛ لكنَّه إهدار للحياة دون حساب.
بالتأكيد كان سارتر (Sartre) سيئ السمعة، فقد نصَّت وصاياه على العيش: "من دون مستقبل، ومن دون أمل، ومن دون خيال"؛ لكنَّ فكرته الأساسية صحيحة، فالنزاهة مع الذات ضرورية حتماً للتطور الشخصي، وتُعَدُّ عنصراً أساسياً من عناصر السعادة لدى علماء النفس، ويتطلب التقدم أن تعرف بصدق مكانك مقارنة بما كنت عليه من قبل.
لن تتمكن من تصحيح أخطائك إن تغافلتَ عمداً عن عيوبك؛ إذ يقول عالم النفس ستيفن بينكر (Steven Pinker): مهما كان خداع الذات مفيداً للتحفيز، يجب تطبيقه بشكل متوازن لتجنب أضرار عدم التعلم من الأخطاء.
أراء الباحثون:
يرى الباحثون أنَّ خداع النفس متلازم مع العجز عن رؤية الأخطاء التي نرتكبها، وهو ما يجعل تطوير الذات أمراً أكثر صعوبة، وقد يكون الإنكار الداخلي لبعض الصفات العصابية مريحاً في الوقت الراهن؛ لكنَّه يثبط العزيمة لبذل مجهود للتغير على الأمد الطويل فيما يصب ضمن مصلحة الفرد ومن يحيطون به.
ولا يعني ذلك عَدَّ جميع الآراء السلبية حقيقية أو تقبل الآراء الإيجابية دون تفكير، فالمفتاح هو استقبال المعلومات الهامة دون اتخاذ موقف دفاعي، ومعالجة الأدلة المتعلقة بك بالطريقة نفسها التي تعالج بها الأمور المتعلقة بالآخرين.
وفي النهاية:
يجب على كل منا أن يقرر إن كان يريد رؤية الحقيقة كاملة مهما كان المكان الذي ستقود إليه، ويمكنك تجربة الأمر إن كنت جاهزاً لمعرفتها، وننصحك أن تبدأ بتحدي نفسك لكشف خداعك في بعض الأمور الصغيرة حتى تصبح قادراً على الشعور بها في أمور أخرى لاحقاً.
اسأل نفسك هذا السؤال: ما هو الأمر الذي يجعل الآخرين يضحكون عليَّ خلف ظهري؟ اكتب قائمة بغراباتك ونقاط ضعفك، وتخيل نفسك تطلق النكات عليها، وتأكد أنَّك ستشعر بالراحة وستضحك مع الآخرين على هذه السمات عند ذكرها، وسيمنحك هذا التدريب فيما بعد كلاً من الراحة والثقة الحقيقية بنفسك نتيجة اعترافك بما كنت تخفيه.
ويمكنك لاحقاً التوسع في مجالات أصعب لمعرفة الأسباب الحقيقة وراء نجاحك وإنجازاتك، ومواجهة مخاوفك الصحية ومعرفة السبب وراء عاداتك.
وإن كنت تخاف ذلك، فاسأل نفسك ما يأتي: هل أفضِّل أن يضحك الناس عليَّ في غيابي أم في حضوري؟ وهل أرغب في الحصول على ما لا أستحقه أحياناً؟ وهل سيكون الإقلاع عن التدخين أسهل إن تجاهلت المشكلة عاماً آخر؟ طريق الحقيقة ليس سهل التقبل؛ لكنَّك ستشعر بالفخر عندما تدرك أنَّ الشخص الذي تراه في المرآة ليس كاذباً؛ بل صريحاً مع نفسه في الواقع.
أضف تعليقاً