- "أعطِني إعلاماً بلا ضمير، أُعطِك شعباً بلا وعي".
- "اكذب ثم اكذب ثم اكذب، حتى يُصدقك الناس".
رسالة الإعلام رسالة سامية، وأهم سماته الصدق وكشف الحقائق وتنوير عقول البشر، لكن للأسف تحوَّل الإعلام إلى مشروع سياسي ومصالح شخصية لأشخاص أو لدول، فاليوم لم تَعُد الحرب عسكرية؛ بل باتت حرباً نفسية من خلال الآلة الإعلامية.
1. مفهوم التضليل الإعلامي ووسائله:
التضليل في اللغة من الفعل ضلَّ: وهو ضد الهُدى والرشاد، وتضليل الإنسان هو تصييره إلى الضلال أو الباطل.
كما يُمكن القول إنَّ التضليل هو الكذب، والذي هو عكس الحقيقة.
التضليل الإعلامي:
هو إخفاء الحقائق عن الجمهور أو تحريفها عن طريق وسائل الإعلام؛ وذلك لتوجيه الرأي العام نحو أهداف معيَّنة بعيدة عن المصلحة العامة.
يُعرِّفه الدكتور فريد حاتم في كتابه "الدعاية والتضليل الإعلامي" بأنَّه: "معلومات كاذبة مقصودة، تُقدِّم فائدة من أجل شن عمليات عسكرية فاعلة، والكشف عن تسريب المعلومات وإعادة توجيه تسريبها، وتوجيه عملية التلاعب بالوعي والتحكم به كذلك، وتنويه أحد ما عن طريق تقديم معلومات ناقصة، أو كاملة لكن غير مفيدة، وتحريف جزء منها في الوقت نفسه".
ينشَط التضليل الإعلامي خلال فترات الحروب والصراعات والانقلابات وتغيير الأنظمة، ويقول باولو فرير: "الحُكَّام لا يلجؤون إلى التضليل الإعلامي إلَّا عندما يبدأ الشعب بالظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية".
أمثلة واقعية عن التضليل الإعلامي:
كشفت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في أحد تقاريرها الصحفية التضليل الإعلامي في وسائل الإعلام العالمية؛ إذ قالت الصحيفة: "إنَّ مسؤولي البنتاجون والأمن القومي الأمريكي لم ينكروا أنَّ الـ CNN أعلنَت أنَّ الهجوم قد بدأ على الفلوجة قبل حصول الهجوم بشكل فعلي بثلاثة أسابيع، وكان الهدف من هذا الإعلان الوهمي حسب ما يقول العسكريون الأمريكيون هو كشف تحركات المقاومين والمقاتلين العراقيين".
كما تقول الصحيفة: "من الوسائل التي كانت تتبعها وزارة الدفاع الأمريكية خلال غزو العراق عام 2002 هي إنشاء مكتب الخداع الاستراتيجي الذي يختص بإمداد وسائل الإعلام بالأكاذيب والمعلومات المُضللة، واختيار ناطقين عسكريين أمريكيين يتمتَّعون بمهارات عالية في الحرب النفسية".
من أبرز الأمثلة أيضاً عن تأثير التضليل الإعلامي في رأي الجمهور السياسي واستغلال النخب والشخصيات المؤثِّرة في بناء موقف الجمهور ما حدثَ في عام 1942؛ وذلك عندما انخفضت شعبية الرئيس الأمريكي "كالفن كوليدج"؛ مما جعله يستدعي الخبير الإعلامي "بيرنز" لطلب النصيحة منه، ودعا بيرنز 34 نجماً من نجوم هوليود وأقنعهم بأن يقوموا بزيارة للرئيس الأمريكي، وفعلاً هذا ما كان؛ وكانت النتيجة زيادة شعبية الرئيس لدى الجمهور.
نرى التضليل الإعلامي جلياً اليوم في أحداث الصراع الروسي الأوكراني في تداوُل العديد من مقاطع الفيديو التي يُدين بها كل طرف الآخر، ثم تبيَّن أنَّها مشاهد من لعبة فيديو تُسمى "وور ثاندر"، وأحد هذه المقاطع يدَّعي ناشروه أنَّه إسقاط لطائرة روسية بصاروخ جوي أوكراني، ليتبيَّن فيما بعد أنَّ المقطع يعود إلى طائرة ليبية سقطت في بنغازي عام 2011.
يميل الناس إلى متابعة الأخبار الكاذبة:
أجرى المعهد الأمريكي Massachusetts Institute of Technology دراسةً بإشراف باحثين متخصصين، والتي شملت حوالي 130 خبراً كاذباً وإشاعة على موقع تويتر، وكانت النتيجة أنَّ الخبر الكاذب ينتشر بسرعة أكبر بست مرات من الخبر الحقيقي، وأنَّ نسبة الناس الذين يبحثون عن الأخبار الكاذبة ويُعيدون تغريدها ومتابعتها أكثر بعشرة أضعاف من نسبة متابعي الأخبار الحقيقية.
وسائل التضليل الإعلامي:
- القنوات الفضائية والتلفزيونية والإذاعية.
- المجلات والجرائد والصحف.
- البرامج والندوات والمؤتمرات.
- الدعايات التجارية.
- الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
2. أساليب التضليل الإعلامي:
تتمثل أساليب التضليل الإعلامي بـ:
- تحريف المعلومات.
- التكتُّم أو التجاهل الإعلامي لقضية ما.
- الشائعات والتشويش.
- الكذب والاختلاق.
- إخفاء الحقائق.
- المصادر المجهولة.
- التهويل أو التضخيم.
شاهد بالفديو: كيف تمتلك مهارة الإقناع والتأثير في الآخرين
أهداف التضليل الإعلامي:
يهدف التضليل الإعلامي إلى ما يأتي:
- السلبية: أهم أهداف التضليل الإعلامي هو السعي إلى نقل السلبية إلى الفرد، ومن ثم نقلها إلى الجماعة؛ وذلك انطلاقاً من أنَّ قيادة الجماعات السلبية أسهل من قيادة الجماعات الإيجابية.
- تفريغ الانفعالات: أحد أهداف التضليل الإعلامي هو تأمين قنوات وسُبل لهذه الجماعات السلبية لتفريغ انفعالاتها المكبوتة؛ مما يجعل قيادتها وتوجيهها أسهل.
- توجيه الثقافة: يهدف التضليل الإعلامي إلى توجيه الجمهور إلى ثقافات معيَّنة تخدم أهداف التضليل.
- لفت الأنظار: يسعى التضليل الإعلامي إلى لفت الأنظار إلى حدث ما وصرفها عن حدث آخر.
- قلب الصورة: أحد أهداف التضليل الإعلامي هو قلب الصورة؛ إذ تُصبح الضحية مجرماً والمجرم ضحية.
- تعتيم الحقائق: يسعى التضليل الإعلامي إلى اختيار ما يناسبه من الحقائق، ويدعم أهدافه ومصالحه ويعرضها ويركز فيها.
- البلبلة: يهدف التضليل الإعلامي إلى إحداث حالة من البلبلة لدى الرأي العام؛ وذلك من خلال نشر أخبار ومعلومات متضاربة.
- بث الذعر: قد يهدف التضليل الإعلامي أحياناً إلى بث الذعر والخوف لدى فئة معيَّنة من الناس من خلال الإلحاح على الخطر المحيط بهم؛ وذلك لخدمة مصالح فئة أخرى.
- التدليس: من أهداف التضليل الإعلامي هو التدليس على المشاهد أو القارئ، وإيهامه بأنَّ الخبر من مصدر موثوق، وجعله يبني رأيه أو موقفه بناءً على معلومات غير صحيحة.
- دس السُّم في العسل: وهو من أخطر أهداف التضليل الإعلامي؛ وذلك بتقديم الخبر أو المعلومة وتزيينها بطريقة توحي بأنَّها لمصلحة المشاهِد، وبأنَّها موثوقة ومبنية على أسس سليمة، ومن ثم تمرير أفكار وغايات مسمومة ضمنها.
- التكرار: يقول جوبلز: "الدعاية الذكية لن تُحقق أي نجاح ما لم تعتمد على تكنيك هام؛ وهو أن تُحدد نقاط معيَّنة وتُكررها كثيراً"، فتكرار الخبر وجعله حكاية يومية يجعل المشاهد يُصدِّقه، ويتكيَّف أو يتعوَّد عليه مهما كان سلبياً ويستدعي الرفض أو الاستنكار.
- السخرية: يهدف التضليل الإعلامي إلى السخرية والتهكُّم بالأحداث والشخصيات السياسية الهامة؛ وذلك بغاية تسخيفها والاستهزاء بها من قبل المشاهد، وصرف اهتمامه عنها أو عدم التعامل معها بجدية.
- الأسبقيَّة في نقل الخبر: يقول جوبلز: "إنَّ الإنسان الذي يقول للعالم الكلمة الأولى هو دائماً على حق"؛ إذ يميل الجمهور إلى الاقتناع بما يسمعه لأول مرة؛ لذا تتسابق وسائل الإعلام في نقل الخبر وصياغته بالطريقة التي تخدم مصلحتها، لِعلمها بتأثيره في وعي الجمهور بالشكل الذي يسمعه فيه لأول مرة.
4. أبرز الكتب عن التضليل الإعلامي:
تناولت العديد من الكُتب موضوع التضليل الإعلامي بعناية واهتمام، ومن أبرزها:
المُتلاعبون بالعقول:
يُناقش الكاتب "هربرت شيللر" في كتابه "المتلاعبون بالعقول" الذي صدر عام 1973 أساطير التضليل الإعلامي الخمس في أمريكا؛ وذلك في محاولة منه لشرح كيف يُحاول الإعلام الأمريكي فرض نفسه على باقي ثقافات العالم، وكيف يتلاعب بخيوط الرأي العام، ويُرسِّخ المفاهيم التي يريد تحت باب التوعية أحياناً والترفيه أحياناً أخرى.
سيكولوجية الجماهير:
يتحدث "غوستاف لوبون" في كتابه "سيكولوجية الجماهير" عن أهم السمات العاطفية والعقلانية للجمهور، ويشرح كيف أنَّ للجماعة إدراك وسلوك مختلف تماماً، ويستعرض أساليب السيطرة عليها وكيف يفرض الزعيم أو القائد إرادته على الجماعة من خلال التحريض والشعارات البهيجة وليس الأفكار المنطقية، وقد كان هذا الكتاب أحد أهم مصادر النازية خلال الحرب العالمية في ترويج أفكارها وفهم الجمهور.
وسائل الإعلام: الإله الثاني
يشرح "توني شوارتز" في كتاب "وسائل الإعلام: الإله الثاني" الذي صدر عام 1981 دور وسائل الإعلام في التأثير في الحالة النفسية للجمهور، وطريقة إدراكهم للمعلومة وحكمهم عليها، ودور الإعلانات في تعزيز رغبة واحتياج وهمي لدى الجمهور؛ والذي تحوَّل إلى مُتلقٍ سلبي في كثير من الأحيان، وتنبَّأ الكاتب بشكل وسائل الإعلام في عام 2000.
السيطرة على الإعلام: تشوميسكي
يُشير "تشوميسكي" في كتابه "السيطرة على الإعلام" إلى أنَّ الدعاية "البروباجندا" في الدول الديمقراطية هي بمنزلة الهراوات في الدول الشمولية؛ لأنَّ هذه الدعاية تُحقق نفس غاية الحكم الاستبدادي في سلب الجمهور إرادته وحرية القرار لكن بطريقة أكثر تحضراً.
التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول:
يُحاول "بيير بورديو" في كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" لفت النظر إلى التزاوج الحاصل بين رأس المال والتكنولوجيا الحديثة؛ لأنَّ التلفزيون تحوَّل من وسيلة للترفيه إلى وسيلة للتلاعب بالجمهور من حيث حجب المعلومة أو عرضها ناقصة أو مبتورة، ويُقدِّم الكاتب هذا الكتاب بوصفه صرخة للجمهور لتحذيرهم من التلاعب بهم.
هندسة الجمهور:
يشرح الكاتب "أحمد فهمي" في كتابه "هندسة الجمهور" الذي نشره عام 2015 أهم الجوانب النفسية والعاطفية التي يستخدمها الإعلام للسيطرة على الجمهور، وتوجهات الإعلام وأساليب خداع الجمهور، والنظريات النفسية التي يعتمد عليها في ذلك، وقدَّم الكاتب عدداً من الأمثلة من واقعنا المعاصر التي تدل على سيطرة الإعلام على الجمهور وإقناعه بما يريد.
في الختام: الجمهور الذكي غير قابل للخداع
يسأل الكاتب المصري والباحث في الشؤون السياسية أحمد فهمي في كتابه "هندسة الجماهير": "متى يتوقف الإعلام عن الكذب؟" ويُجيب هو أيضاً: "عندما يتوقف الجمهور عن التصديق".
بعد هذا الكم الهائل من التضليل الإعلامي الذي يحيط بنا من كل جانب بات من الضروري مواجهته والوعي إلى خطورته وكيف يخدعنا ويقود تفكيرنا حسبما يريد أصحابه؛ وذلك من خلال البحث والتمحيص عن أساليب التضليل الإعلامي وكشفها، وعدم تبنِّي آراء ومواقف وسائل الإعلام، والتدقيق في خلفية الوسيلة الإعلامية ومن يقف وراءها، والمصدر الذي تعتمد عليه في معلوماتها، وعدم تصديق الإعلام.
لأنَّه توجد فئة من الناس تُقدِّس الإعلام وتعتقد أنَّ الإعلام لا يكذب أبداً، يجب التشكيك بمصداقية المعلومات مهما كانت عراقة الوسيلة الإعلامية ومهما صدَّعت رؤوسنا بشعارات المصداقية والمهنية والموضوعية، فلا توجد وسيلة إعلام حيادية أو بلا أجندة، ولا تنسَ الثالوث الأخطر والخلطة السرية للإعلام "المال والسياسة والإعلام" وكيف يتداخل كل منهم بالآخر ويدعمه ويسانده، ويبقى السلاح الأنجع في مواجهة التضليل الإعلامي هو زيادة المعرفة والثقافة والمطالعة، فالجمهور الذكي غير قابل للخداع.
أضف تعليقاً