فما هو جوهر الاهتمام؟ عندما يهتم إنسان ما بإنسان آخر أو بحيوان أو بشيء ما فإنه يركز انتباهه على هذا الشيء. ولكن هذا التركيز لا يشير بعد إلى أن هذا الاهتمام ينبع من نوايا طيبة أو سيئة.
ولكن عموماً يستخدم مصطلح الاهتمام بالمعنى الإيجابي. فالاهتمام بالآخرين يولد لديهم مشاعر طيبة ومريحة وتداعيات إيجابية.
والاهتمام يعني الحب. فالشخص المحبوب هو الشخص الذي يحظى باهتمام من يحب، علماً أن الحب هو الشكل المكثف من الاهتمام. كما ويعني في الوقت نفسه العطف والحنان. والأطفال بشكل خاص يحتاجون إلى مثل هذا النوع من العطف والحنان الذي يشتمل على اللمسات الجسدية. وهم عندما يحصلون على "وجبتهم اليومية" من اللمسات والكلمات الطيبة ينمون انفعالياً بشكل أفضل. كما وأن الكبار يحتاجون إلى الاهتمام، فالحنان الذي يحصل عليه الكبار من محبيهم يجعلهم مشحونين بالطاقة أكثر ويحصنهم ضد مشاعر القنوط والحزن.
ويعتبر الإصغاء شكل من أشكال الاهتمام. وهذا الشكل من الاهتمام أصبح يتناقص مع الزمن بسبب انتشار التلفزيون والكمبيوتر وطول أوقات العمل ونقص القدرة عند الناس للإصغاء لبعضها ..الخ. وتشير الدراسات أن الراشدين لا يتواصلون في اليوم إلا لدقائق معدودة مع بعضهم. وكثير من الناس يهربون إلى من يصغي إليهم ويسمعهم ونجدهم متعلقون بمن يصغي إليهم لا لشيء إلا لمجرد أنه ينصت إليهم، حتى وإن كانت دوافعه أحياناً مشكوكاً بها.والبعض الآخر يلجأ إلى المعالج النفسي ويدفع له المال من أجل أن يسمح لهم بالاسترخاء عنده والتحدث إليه…من أجل أن ينصت إليهم. وكثير من المشكلات النفسية كان يمكن تجنبها لو أن الناس يصغون لبعضهم ولهموم بعضهم. وهناك اتجاه عام نحو النقص في القدرة على الإصغاء للآخرين، وقبل أن يبدأ الآخر بقول ما يريد قوله تتم مقاطعته و إعطاءه النصائح أو إفهامه بأن لا وقت لدينا للإصغاء له. وفي الحقيقة فإن كثير من الناس لا يحتاجون للنصيحة لأنهم أقدر الناس على نصح أنفسهم وكل ما يحتاجونه هو من ينصت إليهم ويشعرهم أنه مهتم بما يقولونه وأن ما يقولونه جدير بالاهتمام.
والالتزام كذلك شكل من أشكال الاهتمام. ويمكن ملاحظة الالتزام على مستويات عدة، في المهنة والسياسة والأعمال الخيرية الاجتماعية. والالتزامات المهنية أو السياسة أو غيرها تتطلب من الإنسان مقدار عال من المقدرة على الإبداع والتي لا يمكن أن تتم دون وجود نظام دعم اجتماعي للشخص المعني.
والاهتمام عموماً ليس عملية وحيدة الاتجاه فالاهتمام نحو الخارج يتطلب أيضاً الاهتمام نحو الداخل، فمن يقدم الاهتمام للآخرين لابد وأن يحظى باهتمامهم. ولكن لابد من الانتباه كذلك إلى أن الاهتمام بالآخرين قد يكون على حساب الشخص نفسه. وإذا كان لابد للإنسان من الاهتمام بالآخرين فإن ذلك يجب ألا يكون على حساب مصلحته الشخصية وأن يشعر بالاستغلال من الآخرين.
ويمكن ملاحظة عواقب نقص الاهتمام بشكل واضح جداً في الأطفال. وتعرف هذه الظاهرة في علم النفس تحت مصطلح الحرمان. فالأطفال الذين يعانون من الحرمان من الاهتمام والدفء الانفعالي تظهر عليهم أعراض الانسحاب والعزلة والتباطؤ الذهني و يموت بشكل أبكر من الأطفال الذين يحصلون على الاهتمام العاطفي والرعاية بدرجة مقبولة. وكثير من الأمراض والاضطرابات النفسية ترجع أسبابها إلى فقدان الاهتمام. والذنب لا يكمن في المحيط نفسه، ففي أحيان كثيرة يمكن أن يكون الشخص نفسه مسؤولاً عن ذلك من خلال عجزهم عن التعبير عن مشاعرهم.
ويرى علماء النفس أن الخط الفاصل بين جنوح الأحداث ونقص الاهتمام الأسري ليس بالكبير. كما وأنه خلف السلوك العدواني غالباً ما تكمن الرغبة في الاهتمام. ولفرط الاهتمام كذلك مضار كثيرة.فمن الحب ما يقتل، وهو مثل عربي لا يعنى به المعنى الدارج فقط، وإنما يعني كذلك أن فرط الحب يجعل الإنسان مخنوقاً من كثرة الاعتناء والرعاية المقدمة له إلى درجة لا يعود فيها قادر على التصرف الحر والعفوي. فالأم التي تفرط في الاهتمام بطفلها ولا تسمح له بأي مجال من الحركة والحرية بحجة حمايته من الأخطار المتنوعة التي تتوهمها أو تتوقعها، تكون بتصرفها هذا قد بدأت تزرع بذور الخوف وعدم الثقة في طفلها، وتمهد لجعله عاجزاً في المستقبل عن التصرف المستقل واتخاذ القرار.
اللامبالاة: الوجه المعاكس للاهتمام
عندما نسمع شخصاً ما يقول لنا " إن هذا الأمر لا يعنيني أو أن هذه القضية سيان عندي أو لا يهمني هذا أو ذاك الأمر أو دعوني وشأني فليس لي علاقة بأي أمر أو افعل ما تشاء فأنا لم أعد أهتم ..الخ " فإن هذه إشارة تدل على أن هذا الإنسان لا يريد أن تكون له علاقة ما بأشخاص أو بأشياء معينة ، أي أنه بمعنى آخر لا يهتم فيما إذا سارت الأمور على هذا النحو أو ذاك. فالللامبالاة تعني عدم الاهتمام وترك الأمور كما هي أو ربما تركها تسير نحو الأسوأ دون التدخل ومحاولة تغيير الأمر الواقع ولو ضمن الحدود الفردية المتاحة.
والللامبالاة تمتلك وجوهاً عدة : فهي قد تظهر في الحياة الزوجية . فعندما يتهم أحد الشريكين الآخر بأنه لا يهتم به أو لم يعد يهتم به ولا بهمومه ومشاكله ، فإن ذلك دلالة على دخول اللامبالاة إلى العلاقة . فالحب قد خف وروتين الحياة اليومية قد غطى المشاعر الحميمة التي كان يحملها كل طرف للآخر . ولا يعني هذا وجود مشكلات بين الطرفين. إنهما ليسا على خلاف ، ولكنهما باردان تجاه بعضهما، إنهما يعيشان معاً ( مع بعضهما ) إلى جانب بعضهما ولكن ليس لبعضهما، ( لا يعيش كل واحد للآخر ومن أجل الآخر (
والعلاقة التي تصل إلى مرحلة اللامبالاة هي في الواقع علاقة ميتة، بسبب عدم وجود الدافع للتغيير. وقد يكون انفصال الطرفين في النهاية هو الحل الأمثل لمثل هذه العلاقة الميتة. وتشير الدراسات بالفعل إلى أن الأزواج الذين يقررون الانفصال عن بعضهما قد مرا بفترة قد تطول أو تقصر من اللامبالاة في العلاقة الزوجية . وقد نصاب كلنا بفترة من عدم الاهتمام أو اللامبالاة بسبب إرهاقات الحياة اليومية ومشاغلها، سرعان ما يزول بزوال الإرهاق إلاّ أنه لمن المؤلم أن يستجيب الآخر بالملل وعدم الاهتمام بشكل دائم. فهذا سوف يقود عاجلاً أم آجلاً إلى اليأس ، الذي يتجلى من خلال مقولة " لم يعد هناك أي أمل " ، وخلال فترة قصيرة يصبح الإنسان لامبالياً تجاه نفسه أيضاً ومن ثم تعود هذه اللامبالاة لتصبح لامبالاة تجاه الآخرين والعالم من حولنا.
كما ويمكن لللامبالاة أن تمتد لتشمل اللامبالاة تجاه القضايا السياسية والاجتماعية والبيئية . وتكمن خطورة هذا النوع من اللامبالاة في أنه تترك عملية اتخاذ القرارات التي تمس كل الأفراد للآخرين . كما وأن اللامبالاة تجاه التدمير المتزايد للبيئة لها تأثير واضح وسريع على كل فرد. ولعلنا نلاحظ لامبالاتنا تجاه البيئة في سلوكنا اليومي مع التخلص من القمامة، التي نرميها بشكل عشوائي في كثير من الأحيان دون الاهتمام بما يمكن أن يكون لسلوكنا هذا من انعكاسات حتى علينا نحن أنفسنا.
ولعل أكثر تأثيرات اللامبالاة هي تلك التي تتجلى من خلال التعامل مع الأطفال. فمن يواجه رغبات ومطالب أطفاله الذين يطلبون الحب والتقدير والاعتراف بسلوك اللامبالاة فإنه سوف يحول هؤلاء الأطفال إلى عدوانيين وهائجين. فعندما يلاحظ الأطفال أن أهلهم لا يمنحونهم الحب والاعتراف فسوف من خلال الاهتمام بهم فسوف يحصلون على الاهتمام من خلال السلوك العدواني والمخرب. وبما أن السلوك العدواني غالباً ما يحظى بالعقاب ( الذي هو شكل من أشكال الاهتمام ) فسرعان ما سيصاب هؤلاء الأطفال باليأس ويتحولون إلى أطفال باردين انفعالياً.
ماهي الأسباب الكامنة خلف اللامبالاة ؟
يمكن لللامبالاة أن تكون ذات فائدة نفسية وجسدية بالنسبة للشخص في بعض الأحيان. أي أنها تؤدي وظيفة الحماية في بعض الأحيان. فقد يعاني الإنسان من خبرات الرفض والصد من قبل الآخرين، وبالتالي يصاب بالإحباط، ويتولد لديه الخوف من تكرار هذه المواقف المؤلمة. فيتظاهر المرء باللامبالاة من أجل حماية الذات . وغالباً ما يكون هذا التظاهر لا شعورياً في غالبية الأحيان. والمشكلة هنا أنه غالباً ما يمكن أن يتم حدوث ثمثل ( تبني ) لا شعوري للموقف اللامبالي بسرعة كبيرة، وبالتالي يمكن لللامبالاة أن تتحول إلى اتجاه عقلي دائم وثابت في الشخصية.
وهناك حالات مرضية من اللامبالاة تجاه الذات والمحيط ، وفي بعض الأحيان تكون حالات لا يمكن الشفاء فيها، كبعض حالات الإعاقة العقلية، أو تناول المخدرات والأدوية لفترة طويلة أو في بعض الأمراض النفسية كالسلوك المضاد للمجتمع ( السلوك السيكوباتي (
وهناك حالات من اللامبالاة تظهر بشكل عابر وتكون قابلة للشفاء تغلب ملاحظتها بعد المرور بخبرة حدث صادم ( كفقدان شخص عزيز ) ، كما وتظهر اللامبالاة العابرة عند الأطفال الذين تعرضوا لسوء المعاملة الجسدية الشديدة وعدم الاهتمام من قبل الأهل.
كيف يمكننا التغلب على اللامبالاة
في الحالات المرضية من اللامبالاة يمكن للعلاج أو الإرشاد النفسي أو الزوجي - وذلك حسب طبيعة الحالة - الذي يقدمه متخصص في علم النفس العيادي أن يقدم المساعدة من أجل كسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها الموقف اللامبالي أو الموقف الفاقد للإحساس.
وفي الحالات غير المرضية وهي الحالات الأكثر انتشاراً في حياتنا اليومية لابد لكل شخص من أن يطرح السؤال على نفسه فيما إذا كان موافقاً على أن يتعامل و يفكر ويتصرف كل الناس بالطريقة نفسها التي يفكر ويتصرف هو نفسه بها وما هي عواقب مثل هذا النوع من التفكير والتصرف على المستوى الفردي والجماعي؟
إن من يدرك أن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تكون ممكنة بدون العطف والاهتمام والمساعدة المتبادلة فإنه عندئذٍ لن يكون متبلداً وفاقداً للاهتمام ولن يستجيب للأحداث بسلوك لامبالٍ.
المصدر: نفساني
أضف تعليقاً