ما هي التربية المنشودة؟
من الخطأ أن نعمم أن التربية هي توظيف مثمر للأموال، فليست كل أنواع التربية ينطبق عليها هذا الوصف، فكم من تربية أعاقت النمو الشامل للمجتمع وكم من تربية أنتجت نفوسا محبطة لميادين الإنتاج عاجزة عن مواجهة تحديات الحياة. ولكن التربية المنشودة هي التي تحقق غايات و أهداف المجتمع وفق عقيدته وقيمه؛ ومن الطبيعي أن يأخذ هذا النوع من التربية جل اهتمام المجتمع، وذلك لأن المستقبل كما أشار جون توما في كتاب معلمون لمدارس الغد – " إنما يكون المستقبل للأمم التي تستثمر أعظم استثمار ذكاء شبابها، جميع شبابها "،
والذكاء في أشمل تعريف له أنه العمل بهدف والتفكير بعقلانية والتفاعل المثمر مع المحيط، وهو الذي يحدد وظيفة العقل وينمو من خلال التجارب التي يكتسبها الفرد من البيئة، ويتأثر بعامل موروث. ويتفق هذا التعريف مع غاية التربية في إعداد الفرد المنتج في المجتمع " التفاعل المثمر مع المحيط " كما أن هذا التعريف يساعد في تحديد المهارات اللازمة لذلك، فعلى سبيل المثال؛ العمل بهدف يتطلب امتلاك الفرد لمهارات التخطيط وما يندرج تحتها من علم وفن ومنطق، كما أن التفكير بعقلانية يرتكز على تمكن الفرد من مهارات التفكير المختلفة، استدلالي، ناقد، إبداعي، ومهارات التفكير الفوق معرفي. وعلى الرغم من أن المهارتين السابق ذكرهما متداخلتان وتعتمد إحداهما على الأخرى وقد يكون مثار جدل الفصل بينهما؛ إلا أننا نتفق على أن كلتا المهارتين يعتمد عليهما الفرد في التعامل مع مشاكل الحياة للتغلب عليها بأساليب تتوافق مع قيم وعقيدة الفرد والمجتمع، ونتفق أيضا على إمكانية الحصول على المعرفة بدون تفكير، ولكن لا يمكن أن نفكر بدون معرفة، وأخيرا نتفق على أن العقل ( المخ ) جامع ذلك كله.
والعقل وظيفة ونشاط للمخ، فهو عضو يتحكم في سائر أعضاء الجسد، وينمو في مجال النشاط الجسمي والاجتماعي أثناء المرور بالخبرة، ونشاطه عبارة عن تكوين مجموعة من المعاني المنظمة المتكونة نتيجة لأنشطة سابقة ( عملية التفكير )، ووظيفته اقتراح الحلول المناسبة للمشاكل التي تعترض حياة ذلك الفرد ( ناتج عملية التفكير ). وإذا كنا متفقين على أنه لا يمكن التفكير بدون معرفة، فإن هذا يعني أن المعرفة هي الوسيلة الوحيدة لتوجيه حياة الفرد بطريقة تمكن العقل من القيام بنشاطه في تكوين وترتيب المعاني بطريقة تمكنه من توليد معارف جديدة، لتنفيذ وظيفته في إنتاج الحلول الإبداعية لمشاكله في ظل التفاعل المثمر مع المحيط، و إذا كان المجتمع يتكون من مجموعة من الأفراد الذين يتغلبوا على مشاكلهم بطريقة مثمرة لهم ولمجتمعهم؛ فإن هذا يعني أن المجتمع بكامله يتفاعل بطريقة منتجة تمكنه من مواكبات القفزات الحضارية والتعايش مع المجتمعات الأخرى بأسلوب فاعل يحافظ به على المورث العقدي والاجتماعي، وفعال ليكفل بواسطته استمرار السير قدما في المضمار الحضاري بإرادة الله.
ما هي المشكلة؟
ليس الخلل في نظام التدريس التقليدي فقط، ولكن المشكلة تكمن في تغير الظروف المحيطة بالتعليم دون أن يتلاءم نظام التدريس مع المستجدات، فالانهيال المعرفي، والتدفق الفكري، والضخ الفضائي؛ قلل من دور المدرسة كمصدر وحيد للمعارف ودفع البعض للمناداة بالا مدرسية، وإيجاد بدائل للتعليم كالدروس عبر شبكة الإنترنت، أو عبر الفضائيات، وقد ذهب بعض أولياء الأمور إلى أن نمط تعليمنا قد يعيق نمو القدرات التي أودعها الله في الطفل؛ فإذا كان الإنسان مفطورا على التعلم، وإذا كان الفرد يمتلك ما لا يقل عن مائة وعشرين قدرة عقلية! فكيف نفسر عزوف الطلاب عن التعليم؟! وكيف نعلل انخفاض دافعيتهم للتعلم، في الوقت الذي تغيرت البيئة التعليمية إلى الأفضل!، وتحسنت ظروف عمل المعلم!، وتوفرت مساعدات التعليم ومساعدات التعلم!! هل هذا يعني أننا نمارس أنماط تعليم أو تدريس لا تتوافق مع فطرة العقل للتعلم؟ أو هل يشير ذلك إلى عدم تطور المقررات الدراسية لمواكبة المتغيرات؟؟ قد نتفق أو نختلف على السبب؛ ولكن الذي نتفق عليه جميعا أن لأبنائنا استعداد للتعلم لأن الله عز وجل خلقهم كذلك، ونقر أيضا أن أعظم استثمار يمكن أن نقدمه لمستقبل أمتنا هو في عقول ناشئتنا؛ فإن العصر الذي نعيشه محكوم بقوة العقل وأصالة الفكر؛ فقوة العقل تعتمد على عمق الخبرات الغنية التي يحتويها العقل، وسلامة الفكر تأتي من نمو القدرات العقلية المستودعة فيه.
مستقبل المدرسة أم مدرسة المستقبل؟؟
يبدو للمعايش قفزات هذا العصر أن المدرسة حققت أهدافها، بدليل الانتقال من عصر الصناعة إلى عصر تفجر المعرفة فعصر انهيال المعلومات في فترات زمنية قصيرة، كما أن المعارف الإنسانية أضحت تتضاعف كل ثلاث سنوات ونصف؛ وقد تكون هذه شواهد صادقة على زيادة قدرة الأفراد على التفكير نتيجة زيادة المعارف المتاحة، وهذا بدوره أدى لتكوين أنماط جديدة من التفكير فولدت معارف أكثر، الأمر الذي زاد من أعباء التربية في اختيار الخبرات الغنية المناسبة لإعداد فرد يتفاعل بإيجابية مع معطيات المستقبل بكل ما يحمله من تغير سريع. والواقع يشير إلى أن المدرسة تعاني من عدم قناعة المجتمع بمخرجاتها، فهذه صرخات اللا مدرسية أصبحت تتوالى من أولياء الأمور وعلى الخصوص التربويين منهم! وهذه الدافعية للتعلم قد انخفضت لدى المعلمين والطلاب! وهذه الكآبة تعلو وجوه أبنائنا يوم السبت..! وهذا التعليم الذي يعيق القدرات ولا ينميها!!
وقد يكون الفيصل بين المدرسية واللا مدرسية هو " مدرسة المستقبل "، المدرسة التي تعد الفرد لمواجهة التغير المستمر في عصر تدفق المعلومات، وتسخيره لصالحة ولصالح مجتمعه. ففي دراسة مستقبلية للتعليم في عصر المعلومات، ، قدمت في استشراف مستقبل العمل التربوي في دول الخليج، أشارت إلى صفات إنسان مجتمع المعلومات بأنه:
1-متفرد وغير نمطي. من الطبيعي أن تدفق المعلومات سوف يؤدي إلى تباين وتنوع في الأفكار الناتجة من الأفراد، وهذا بدوره يساعد في التخلص من النمطية المخلة.
2-ممارس للتفكير الناقد. يتطلب عصر الانهيال المعرفي والضخ الفضائي، فرد يعيد النظر في ما يقرأ، أو يسمع، أو يشاهد.
3-قادر على التعليم الدائم والذاتي والشامل. من المتوقع أن يصاحب النمو المعرفي الهائل للأفراد؛ تغير واسع في شبكة المهن، وهذا يعني أنه من المستحيل أن تتوقف معارف الفرد عند عمر معين، بل يجب عليه الاستمرار في التعلم وبرغبة حتى يضمن الاستمرار في مهنة.
4-مبدع ومبتكر.
5-إيجابي ومتعاون.
كيف السبيل:
الذي يهمنا من الدراسات السابقة هو أن مدرسة المستقبل يجب أن تركز جهودها على:
أولا : العمل على تنمية رغبة الطلاب في التعليم، وزيادة دافعيتهم للعمل من أجل التعلم، فمن السهل أن تقود الحصان إلى الماء ولكن ليس من السهل أن تجبره على الشرب.
ثانيا : تركيز المعلمين على تنمية مهارات التفكير لدى الطلاب من خلال المحتوى المعرفي ( المقررات الدراسية )، وهذا يتطلب أن نغير نظرتنا إلى المقرر من أنه هدف يجب على الطلاب أن يتجرعوا جميع محتوياته، إلى أنه وسيلة لتنمية قدرات التلاميذ على التفكير الإيجابي والمنتج، فتزداد ثقتهم بأفكارهم، وتتحسن صورهم عن أنفسهم، فتزداد دافعيتهم للتعلم.
وعلى الرغم من أن التوجه إلى تنمية مهارات التفكير لدى الطلاب، توجه تربوي عالمي، إلا أن الدين الإسلامي كانت له الريادة في حث العقل على التفكر والتدبر والتبصر في آيات الله، بل أن الخالق سبحانه وتعالى وصف أولئك المتفكرين والمكتشفين لعظمته وبديع صنعه بأولي الألباب، ومن هذه القاعدة، يمكن القول أن تنمية مهارات التفكير لدى الطلاب من خلال التفكر في آيات الله؛ واجب ديني مفروض علينا الاهتمام بتحقيقه ( مجال وجداني ) أضف إلى ذلك، أن غاية التعليم في دول الخليج؛ تركز على رعاية العقيدة الإسلامية في نفوس الناشئة ( نفس المجال ) وإذا كان دين الإسلام دين يعتمد على إيقاظ الفكر في آيات الله للتدبر والتفكر (طريق المعرفة )؛ فإن هذا يجعل العمل على تنمية مهارات التفكير في خلق الله لدى الطلاب ضرورة تربوية، تفرضها المسلمة المتفق عليها أننا لا يمكن أن نفكر بدون معرفة.
و فطن علماء التربية من الغرب لأهمية الوجدان كمدخل مهم لتحسين وتنمية الرغبة في التعلم، فيشير رينيه أوبير، في كتابه التربية العامة أن هناك مبدأ ناظم للتفكير ( مدخل التعلم )، ذلك هو الإنسان وعلاقته بالكون، وبلوم في تصنيف الغايات التربوية يقدم تحليلا مفصلا عن أهمية الوجدان في التعلم؛ فيشير إلى أن الفصل بين المشاعر والأحاسيس من جهة والمعارف من جهة أخرى أمر غير ممكن من حيث الواقع، لأن المعارف التي يمتلكها الفرد تجاه شيء ما أو تجاه أمر ما هي التي تحدد اتجاهاته وميوله لذلك الشيء، وبالمقابل فإن ميوله واتجاهاته الإيجابية لذلك الأمر تزيد من رغبته لمعرفة المزيد عنه !! . وقدم أيضا تصنيف للأهداف السلوكية الوجدانية معتبرا أن مدى تحققها لدى المتعلمين مؤشر هام للحكم على نجاح العمل التربوي، كما يعتقد كثيرا من علماء النفس التربوي أن الإنسان يتعلم ما يرغب بسهولة، بغض النظر عن مدى صعوبة أو سهولة ما يتعلمه. وهذه المسلمات تدفع بنا إلى الاعتقاد بأن الجهود يجب أن تتركز على جعل المدرسة " كل المدارس " مكانا مشوقا، يأتي إليها الناشئة بحماس ورغبة، يجدوا فيها ذاتهم، ويكتشفوا مواهبهم؛ ويمارسوا الأنشطة التربوية التي تنمي القيم الاجتماعية لديهم، فتشحذ عقولهم بمعارف تنظم تفكيرهم وتساعدهم على ابتكار الجديد .
أهمية نظام التدريس:
أشار جروم برونر في كتابه العملية التعليمية إلى أن الذي يتأثر بطرائق التدريس التي ينتهجها المعلم هم الطلبة متوسطي ومنخفضي الأداء ( بطيئي التعلم )، كما أنه من الثابت أن الدافعية للتعلم تنخفض عند نفس الفئة من الطلاب؛ وهذا يدل على أن الدافعية للتعلم تتأثر بدون شك بأساليب التدريس التي يتبعها المعلم. وقد عرف برونر التدريس الجيد من هذا المنطلق، بأنه ذلك النوع من التدريس الذي يرفع الحد الأدنى من مستوى الطلاب؛ أو كما وصفه رياضيا بأنه التدريس الذي يحقق 70% من الأهداف عند 70% من الطلاب في 70% من الوقت.
والعمليات والمواقف التعليمية تمثل أدوات لمهنة التدريس، بمعنى أن جملة التداخلات ( مثيرات واستجابات ) التي تحدث بين المعلم وطلابه سواء داخل الصف أو خارجه، تمثل الوسائط التي تتحول بها المفاهيم المجردة إلى مدركات حسية، فحب الوطن، والمثابرة، والتفاني؛ مفاهيم مجردة يمكن أن تتحول إلى مدركات حسية، كما هي الرغبة في تعلم المزيد؛ يتعلمها الطلاب بملاحظة معلميهم أثناء المواقف المدرسية، فيتمثلونها أثناء عملهم للتعلم، فيقبلوا على الأنشطة التعليمية برغبة تدفعهم إلى مزيد من المعرفة المرتبطة بالتفكير ( التعلم بالملاحظة ـ المنهج المخفي ) وهنا تتكون الاتجاهات الإيجابية للتعلم. فنظام التدريس أحد أكثر الأنظمة التربوية الفرعية التي تؤثر في سلوك الطالب وتشكله، ففي دراسة نشرت في مجلة القيادة التربوية، بعنوان التدريس للسلوك الذكي؛ أشار الكاتب إلى أن دور المعلم في تنمية تفكير الطلاب لا يظهر إلا من خلال الأسئلة الصفية التي يلقيها أثناء أنشطة عرض الدرس.
حل المشكلة:
يبدو أن تشكيل إنسان عصر المعلومات، وعصر صناعات المقدرة العقلية يعتمد أساسا على عدد من المتغيرات؛ المقررات، البيئة، تنوع مصادر التعلم، وغيرها؛ إلا أن المنفذ لذلك كله هو المعلم، والمًشكل لسلوك الطالب هو طرائق التدريس التي يتبناها فهي التي تنمي الرغبة في التعلم أو توقفها؛ فالأولوية في التطوير تكون لطرائق التدريس بطريقة تلبي احتياجات الفترة القادمة والتي تنحصر بعد تعميق الإيمان بالله سبحانه وتعالى في الأهداف التالية:
-
تنمية الرغبة في العمل للتعلم ( التعلم الذاتي ).
-
تنمية قدرة الطلاب على التفكير ( تنمية مهارات التفكير الإبداعي ).
-
تنمية مهارات الاتصال لدى الطلاب ( أدوات التفكير ).
-
تنمية مهارات القيادة ( المبادرة ).
-
تنمية الرغبة في العمل الجماعي ( روح الفريق _ الانتماء ).
-
زيادة الوعي بأهمية الوقت ( الفرق بين التبعية والتحكم ).
-
تطوير مناخ صفي يحقق مبدأ الفعالية ( المناخ الاجتماعي الانفعالي).
وتشير دراسة مستقبلية أخرى؛ إلى أن القرن الحادي والعشرين يتميز بصناعات المقدرة العقلية، وقد وصفت بأنها تشمل دراسات البرمجة والإلكترونيات، وعلوم الحاسب، وعلوم الطيران، وكما يلاحظ فإن جميع الحقول السابقة تعتمد على العقل البشري كمادة خام رئيسة منفذة ومطورة لهذه الصناعات وإذا كانت رسالة التربية في أن نعد أبناؤنا لزمن غير زماننا؛ فإن الواجب التربوي يفرض علينا مربين، وإداريين أن نوجه اهتمامنا نحو تنمية مهارات التفكير عموما لدى الناشئة، وخاصة العمليات العقلية العليا منها.
في دراسة مستقبلية قدمت في ندوة استشراف العمل التربوي في دول الخليج، بعنوان الاتجاهات المجتمعية العامة ذات الصلة بالتربية والتعليم؛ أشارت بأن "التربية الحقيقية هي التي تغوص في أعماق الإنسان لتكشف طاقاته فتغذيها وتنميها إلى أقصى حدود الإنماء، آفاقها تتعدى العلاقة بين المعلم والطالب، وحدودها تتخطى الروابط بين الآباء والأبناء، إنها تمثل المواطنة بكل ما في هذه الكلمة من معان"
أضف تعليقاً