لتوضيح الأمر، لدينا نوعان من الوقت؛ وقتٌ صحي نركز فيه الاهتمام على لحظات الحاضر، ووقتٌ غير صحي تركز فيه الاهتمام على الماضي والمستقبل، ولا تعيش الحياة الحقيقية التي ينبغي لك أن تعيشها، وبينما تكمن حقيقة المرء في حاضره، تشغل أنت نفسك بما في الماضي المُشوَّه والمجهول وبأحداثٍ ليست حقيقية، ولم تحدث قَط.
يمضي غالبيتنا يومه في التفكير في الماضي أو القلق بشأن المستقبل، ونستيقظ صباحاً، ونفكر في كل الأشياء التي يجب علينا فعلها، ونكمل تفكيرنا في أثناء طريقنا إلى العمل فنفكر في علاقاتنا السابقة وإنجازاتنا وإخفاقاتنا والتنزيلات الموسمية المنتظرة على الأشياء الثمينة؛ إذ نشغل تفكيرنا بالزيادة المُحتمَلة على الأسعار وبالديون التي ينبغي لنا تسديدها، ونفكر بلقاء ليلة البارحة وحفلة نهاية الأسبوع.
تستمر الأفكار عند وصولنا للعمل، فنعيد سماع العروض التقديمية في رؤوسنا، ونتساءل كيف يزداد وزننا ويتساقط شعرنا، فتتساءل ماذا ستتناول على الغداء اليوم، ولماذا لم يتصل بي ذلك الشخص، ولم تراسلني تلك الفتاة، ثم تتذكر كيف يمكنك ألَّا تكون لقمة سائغةً للآخرين، وماذا ستتناول على العشاء، وما إذا كان في إمكانك تغيير والديك، قبل أن ينتهي اليوم فجأةً، وبعد أن تخلد إلى النوم تعيد التفكير في مجريات اليوم كله، فتواجه صعوبةً في النوم، وتستيقظ معكَّر المزاج، وتعيد طريقة التفكير ذاتها كل يوم.
نحن نتحول على هذا المنوال إلى أشخاص كسالى يمضون حياتهم باحثين عن الحظ، وهذا وهم كبير؛ لأنَّ تغيير المستقبل يكون بالتركيز على الحاضر، وهذا هو مكمن القوة.
يقول الكاتب والمفكر إيكارت تول (Eckhart Tolle): "تتلاشي كل التعاسة والمعاناة بمجرد أن تقدِّر اللحظة الحالية، ويبدأ مركب الحياة يسير بمتعةٍ ويُسر، فعندما تعي اللحظة الحالية سيصبح كل ما تفعله مفعماً بالتميز والعناية والحب مهما كان بسيطاً".
شاهد بالفيديو: كيف أتصالح مع الماضي السَّلبي؟
الماضي:
لنتحدث بداية عن الماضي، والذي يشمل كل ما حدث قبل اللحظة الراهنة، سواء كان قبل خمس دقائق أم خمس سنوات، ولا بأس في استرجاع الذكريات؛ فالعيش في الحاضر لا يعني عدم تذكر الماضي؛ إذ تركت كثيرٌ من الأحداث ندوباً في قلبك وعقلك؛ فالجميع يمر بصدمات وجروح قبل سن الرشد.
إنَّ مشاعر الخوف والغضب والأسى نتيجة أحداث مفاجئة وغير عادلة وخارجة عن سيطرتك أوصلتك إلى حالة معينة نتج عنها أفكار وسلوكات غير صحية، وكانت النواة في تشكيل النسخة الزائفة من شخصيتك التي تستجدي تقدير الآخرين.
المستقبل:
يُمضي جُلُّ الناس حياتهم خائفين من المستقبل المجهول، وكل ما يتمنونه حياة جميلة ذات غاية ومعنى ويشعرون فيها بالأمان المالي، إنَّ التفكير في احتمال نَيل هذه الحياة في يومٍ من الأيام، أو في احتمال فقدانها إذا كنت تعيش مثل هذه الظروف بالفعل، مرعب.
ربما يعيش بعض الناس الحياة التي يتمنونها؛ لكنَّهم ما زالوا يحلمون بحياةٍ أكثر بذخاً، وقد يخبرك بعضهم أنَّك تستطيع تحديد مصيرك، وتحقيق أي شيء تريده؛ لكنَّ هذا غير صحيح، والحقيقة أنَّ الناس يموتون بطرائق مأساوية؛ بالسرطان أو بإدمان المخدرات أو حوادث السير والقتل، وهنا على هذه الأرض أشياء تدعو إلى القلق حقاً، وعلينا أن نتعلم كيفية العيش بإيجابية وسلام، وهو أمر يحتاج إلى الصبر والمثابرة.
يمكننا أن نعيش بطريقة تيسر حدوث الأشياء الجيدة لنا، وتجذب إلى حياتنا الأشخاص الإيجابيين، وبالتأكيد سنمر بتجارب أليمة وأيام عصيبة، لكن لنجعلها فرصة للنمو والتعلم واكتساب الحكمة والقوة بدلاً من السماح لها بتدميرنا.
إذاً، فالأمر يتعلق بالتخلي عن الأسلوب الذي اعتدنا عليه والسماح لقدراتنا الداخلية بالنمو والازدهار؛ فبالتخلي عن الماضي وعيش الحاضر تبدأ الأشياء الجيدة بالحدوث، ونبدأ بصنع السعادة.
كما يقول إيكارت تول: "تكمن القدرة على صنع مستقبل أفضل في اللحظة الحالية؛ إذ بإمكانك أن تصنع مستقبلاً جيداً من خلال صنع حاضر جيد".
الحاضر:
تقول الكاتبة الأمريكية ميلودي بيتي (Melody Beattie): "إنَّ الامتنان هو الطريقة الوحيدة لتحافظ على بقائك في الزمن الحاضر والتخلص من حالة التعلق بالماضي والتفكير بالمستقبل، لطالما كنت أعتقد أنَّ كلمة الامتنان مجرد عبارة رنانة إلى أن بدأت بممارستها، وهذا ما يميز المؤمنين عن المتشككين.
يشعر أغلبنا خلال السنة بالامتنان خلال ثلاث فترات؛ وهي عيد رأس السنة وعيد الشكر وأعياد الميلاد، ولتعرف تأثير الامتنان فيك أريدك أن تصف شعورك في تلك الأوقات الثلاث التي تكون فيها ممتناً بصدق، مثل شعورك مثلاً وأنت تتناول مشروبك المفضل وتفتح الهدايا مع أحبائك في عيد الميلاد المجيد، وعن إحساس السلام في داخلك وأنت تمتن لكل الأشياء في حياتك في عيد الشكر، وعن شعور الفرح الذي ينتابك عندما يصحبك أصدقائك إلى الاحتفال بعيد ميلادك، ويغنون ويقدمون لك الهدايا، بإمكانك استحضار هذه المشاعر الجميلة يومياً.
يفتح الامتنان عيوننا على الوفرة التي تملأ الحياة، وينقلنا من مشاعر الجحود والنكران والفوضى والارتباك إلى القبول والتنظيم والوضوح، ويبارك الأشياء فتغدو الوجبة وليمة والمنزل الصغير كبيراً والغريب صديقاً".
اسمح لنفسك أن تشعر بالامتنان الصادق لما لديك والمرحلة التي أنت فيها الآن، ستجد نفسك تخلَّيت عن التفكير بالماضي، فهو قادر على أن ينقلك حالاً إلى اللحظة الراهنة الحرة الخالية من كل قلق أو خوف.
في الختام:
إنَّ عيش اللحظة هو ممارسة يومية، والخطأ الذي نرتكبه هو التنقل عبر الأزمنة؛ لذا علينا أن ننتبه إلى أنفسنا متى نخرج من اللحظة الحالية لنعود إليها بجهودنا الواعية، ونستمر في ذلك حتى يصبح الأمر أقلَّ صعوبة؛ ومن ثَمَّ يصبح عادةً حتى نعيش في الوقت الصحيح في الحاضر.
أضف تعليقاً