هل ستكون الحياة أفضل أم أسوأ بعد جائحة كورونا؟

تؤثر الأوبئة تأثيراً كبيراً في المجتمعات، وتتسبَّب في حدوث العديد من التغييرات، بيد أنَّ إلقاء نظرة سريعة على الأوبئة السابقة في القرن العشرين يكشف أنَّ مثل هذه التوقعات السلبية قد تكون مبالغاً فيها إلى حدٍّ كبير.



لقد توافقت الأوبئة السابقة مع التغييرات في الهندسة المعمارية، والتخطيط الحضري، وزيادة الوعي بالصحة العامة، ومع ذلك، فقد نُظِر إلى الآثار النفسية والمجتمعية للأنفلونزا الإسبانية - أسوأ جائحة في القرن العشرين - على أنَّها أقل خطراً ممَّا كان متوقعاً، ربما لأنَّها نشأت في ظل الحرب العالمية الأولى، ولقد وصف المحلل النفسي النمساوي "سيغموند فرويد" (Sigmund Freud) الإنفلونزا الإسبانية على أنَّها عرض جانبي في حياته في ذلك الوقت، على الرغم من أنَّه فَقَدَ إحدى بناته بسبب المرض، كما أنَّنا لا نتذكَّر الأوبئة حديثة العهد، مثل الإنفلونزا الآسيوية عام 1957 وإنفلونزا هونج كونج من عام 1968.

قد يكون التخيل والتخطيط للمستقبل آلية تكيُّفية فعَّالة لاكتساب بعض الشعور بالسيطرة في ظل حياة الجائحة التي لا يمكن التنبؤ بها؛ لذا في خلال العام الماضي، أعلن بعض الخبيرين أنَّ العالم سيكون مكاناً مختلفاً تماماً بعد جائحة كورونا، بقيَمٍ متغيرة وخريطة جديدة للعلاقات الدولية، وكانت الاضطرابات المجتمعية، وصعود الأنظمة الشمولية، وتقزُّم النمو الاجتماعي للأطفال، وأزمات الصحة العقلية، وتفاقم عدم المساواة، وأسوأ ركود اقتصادي منذ الكساد الكبير، مجرَّد مخاوف قليلة ناقشها المحللون.

بينما كانت التوقعات الأخرى أكثر إشراقاً؛ إذ قال بعضهم إنَّ قوة الجائحة المدمِّرة ستوفر فرصة لإعادة تشكيل العالم للأفضل، وقد سعى الباحث "إيغور جروسمان" (Igor Grossmann) إلى جمع الآراء من كبار العلماء في العالم في العلوم السلوكية والاجتماعية، وتأسيس مشروع العالم بعد جائحة كورونا.

مشروع العالم بعد جائحة كورونا هو استطلاع لآراء الخبيرين حول عالم ما بعد الجائحة، بما في ذلك آمال العلماء ومخاوفهم وتوصياتهم، وفي سلسلة من 57 مقابلة دُعي فيها العلماء للتفكير في التغيير الاجتماعي أو النفسي الإيجابي والسلبي الذي قد يحدث بعد الجائحة، ونوع الحكمة التي نحتاج إليها الآن، كانت النتيجة مفاجئة، سواء من حيث التباين أم التناقض في تنبؤات الخبيرين، وعلى الرغم من أنَّ الجائحة أحدثت آثاراً ضارة للعديد من جوانب مجتمعنا، وستستمر في ذلك، لاحظ الخبيرون أنَّ ثمَّة بعض الفرص للتغيير الإيجابي إذا كنا نريد التعلم من هذه التجربة.

ثلاث فرص بعد جائحة كورونا:

كانت آراء العلماء حول النتائج الإيجابية متنوعة للغاية، وتراوحت تنبؤاتهم بين رعاية أفضل لكبار السن، وتحسين التفكير النقدي حول المعلومات الخاطئة، وتقدير أكبر للطبيعة، ولكنَّ الفئات الثلاث الأكثر شيوعاً كانت تتعلق بالقضايا الاجتماعية والمجتمعية، وهي:

1. التضامن:

لقد توقَّع الخبيرون أنَّ المعاناة والتجارب المشتركة التي نواجهها بسبب الجائحة قد تعزِّز التضامن وتقربنا من بعضنا بعضاً، سواء داخل مجتمعاتنا أم على مستوى العالم، كما أشارت عالِمة النفس الإكلينيكي "كاتي إيه ماكلولين" (Katie A. McLaughlin) في "جامعة هارفارد" (Harvard University) إلى أنَّ الجائحة قد تكون فرصة لنا لنصبح أكثر التزاماً بدعم ومساعدة بعضنا بعضاً.

وأشارت عالِمة الاجتماع "مونيكا أرديلت" (Monika Ardelt) من "جامعة فلوريدا" (University of Florida) إلى احتمالية إدراكنا بأنَّ هذه الأنواع من الأحداث العالمية لا يمكن حلها إلا إذا عملنا معاً كمجتمع عالمي، كما تلعب الهويات الاجتماعية، مثل المجموعات أو الجنسيات المختلفة أو تلك التي تتشكَّل استجابةً لأحداث هامَّة مثل الأوبئة أو الكوارث الطبيعية دوراً هامَّاً في تعزيز العمل الجماعي، وقد تساعد التجربة المشتركة للجائحة على تعزيز هوية أكثر عالمية وشمولية قد تعزِّز التضامن الدولي.

إقرأ أيضاً: 8 أسباب وراء أهمية العمل الجماعي

2. التغييرات الهيكلية والسياسية:

في وقت مبكر من الجائحة، اعتقد الخبيرون أيضاً أنَّنا قد نرى جهوداً استباقية وإرادة مجتمعية لإحداث تغييرات هيكلية وسياسية نحو مجتمع أكثر عدلاً وتنوعاً، ولاحظ الخبيرون أنَّ الجائحة قد كشفت عن أوجه عدم المساواة والظلم في مجتمعاتنا، وعبَّروا عن أملهم في أن يشجِّع ظهورها المجتمعات على التصدي لها.

لقد أشارت الفيلسوفة "فاليري تيبيريوس" (Valerie Tiberius) من "جامعة مينيسوتا" (University of Minnesota) إلى أنَّ الجائحة قد تؤدي إلى زيادة الوعي بضعفنا واتكال بعضنا على بعض، وأشار زميل المعهد الملكي للشؤون الدولية في المملكة المتحدة "أناند مينون" (Anand Menon) إلى أنَّ الجائحة قد تؤدي إلى زيادة الوعي بعدم المساواة الاقتصادية؛ ممَّا قد يؤدي إلى مزيدٍ من الاهتمام العام والسياسي بهذه المسألة.

كما شاركت عالِمة النفس الثقافي "آيس أوسكول" (Ayse Uskul) من "جامعة كنت" (Kent University) في المملكة المتحدة هذا الشعور وتوقَّعت أنَّ هذا الوعي سيحفِّزنا على خوض معركة أقوى ضد التوزيع غير العادل للموارد والحقوق، سواء في المكان الذي نعيش فيه أم على مستوى العالم".

3. تجديد الروابط الاجتماعية:

وأخيراً، كانت النتيجة الإيجابية الأكثر شيوعاً التي نوقشت أنَّنا قد نشهد زيادة في الوعي بأهمية روابطنا الاجتماعية، ولقد حدَّت الجائحة من قدرتنا على التواصل وجهاً لوجه مع الأصدقاء والعائلات، وسلَّطت الضوء على مدى احتمالية تعرُّض بعض أفراد عائلتنا وجيراننا إلى الخطر؛ لذا أشار المدير المؤسِّس لمركز "جريتر جود ساينس" (Greater Good Science) والأستاذ في "جامعة كاليفورنيا في بيركلي" (UC Berkeley) "داتشر كيلتنر" (Dacher Keltner) إلى أنَّ الجائحة قد تعلِّمنا مدى قدسية أفضل علاقاتنا، وأنَّ قيمة هذه العلاقات ستكون أعلى بكثير في عالم ما بعد الجائحة.

بالإضافة إلى ذلك، تحدَّث "دوغلاس كينريك" (Douglas Kenrick)، الرئيس السابق لجمعية التطور والسلوك البشري، عن هذا الشعور وتنبَّأ بأنَّ العلاقات الأسرية الوطيدة ستكون النتيجة الأكثر إيجابية لهذه الجائحة".

وبالمثل، ناقشت "جينيفر ليرنر" (Jennifer Lerner)، أستاذة صنع القرار في جامعة هارفارد" (Harvard University)، كيف قادت الجائحة الناس إلى التعرُّف إلى جيرانهم الذين لم يعرفوهم من قبل؛ وذلك لاكتشافنا أنَّنا بحاجة إليهم، وقد ارتبطت هذه الأنواع من العلاقات الاجتماعية بمجموعة من الفوائد، مثل تعزيز العافية والصحة، وتوفير فوائد دائمة للأفراد.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لعلاقات اجتماعية أفضل مع الآخرين

مخاطر ما بعد الجائحة:

ثمَّة أيضاً تنبؤات بالعواقب السلبية للجائحة؛ فكما قلنا، لقد كانت الآراء متباينة، ولقد ذكر ما لا يقل عن عشرة خبيرين تنبؤين أساسيين: احتمال حدوث اضطرابات سياسية وزيادة الانحياز أو العنصرية، وتوضِّح هذه التنبؤات توتراً في تنبؤات الخبيرين؛ ففي حين أنَّ بعض العلماء نظروا إلى مستقبل مشرق وقابل للتنوُّع، يخشى آخرون تصاعد العنصرية والانحياز، وقبل أن نناقش هذا التوتر، دعونا نفحص بالضبط ما قصده العلماء بهذين القلقين:

1. زيادة الانحياز أو العنصرية:

لقد ناقش العديد من الخبيرين كيفية قيادتنا من قِبل الظروف الناجمة عن الجائحة إلى التركيز على مجموعتنا الداخلية ورفض الآخرين، ولقد ناقش "إنشيول تشوي" (Incheol Choi)، أستاذ علم النفس الثقافي والإيجابي من جامعة "سيول الوطنية" (Seoul National University)، أنَّ مجال اهتمامه الرئيس هو أنَّ الأفكار النمطية والانحيازات ضد أعضاء المجموعة الآخرين قد تنشأ في ظل هذه الظروف.

وقد أيَّدت "ليزا فيلدمان باريت" (Lisa Feldman Barrett)، زميلة الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم والجمعية الملكية الكندية هذا الرأي مشيرة إلى أنَّ الأوبئة السابقة أدَّت إلى ترسيخ معتقدات الناس بمجموعتهم وبالمجموعات الأخرى.

2. الاضطرابات السياسية:

 لقد ناقش العديد من الخبيرين أيضاً كيف أنَّ التركيز الأكبر على مجموعاتنا الداخلية قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات السياسية القائمة؛ إذ ناقش الرئيس السابق لجمعية الفلسفة وعلم النفس "بول بلوم" (Paul Bloom) كيف كان الرفض الأكبر تجاه الجماعات الخارجية مرئياً على الصعيدين المحلي والدولي؛ حيث تلوم بعض البلدان بلداناً أخرى دون التكاتف مع بعضهم بعضاً.

كما ناقش "ديليب جيستي" (Dilip Jeste)، الرئيس السابق لـ "الجمعية الأمريكية للطب النفسي" (American Psychiatric Association) مخاوفه من أنَّ الميل إلى النظر إلى المرشحين والمؤيدين على أنَّهم فائزون وخاسرون في الانتخابات قد يعني أنَّ الاستقطاب السياسي الذي نلاحظه اليوم في الولايات المتحدة والعالم سيزداد.

في الواقع، لم تكن هذه التنبؤات مفاجئة؛ إذ ناقش النُّقَّاد والشخصيات العامة الأخرى هذه الموضوعات أيضاً، ولكن بعد تحليل ومقارنة التوقعات الخاصة بالعواقب الإيجابية والسلبية، ظهر شيء غير متوقَّع.

إقرأ أيضاً: كيف تستفيد من طاقتك النفسية في ظل جائحة كورونا؟

الإيجابيات والسلبيات لتأثيرات جائحة كورونا:

لقد ذكر حوالي نصف الأشخاص الذين أُجريَت معهم المقابلات أنَّ كل تغيير قد يحمل الخير والشر؛ بعبارة أخرى، يعترف الخبيرون بأنَّ السياق هام؛ وذلك لأنَّه الذي يحدِّد مَن قد يكون الرابح والخاسر في السنوات القادمة، على سبيل المثال: توقَّع الخبيرون أنَّنا قد نرى قبولاً أكبر للتقنيات الرقمية في المنزل والعمل.

ولكن بالإضافة إلى المزايا المتمثلة في جداول العمل المرنة، وتقليل التنقلات، ذكروا أيضاً العيوب المحتملة، مثل فقدان المعلومات الاجتماعية في التواصل الافتراضي، ومشكلة الأشخاص الذين لا يستطيعون تحمُّل تكلفة الإنترنت عالي السرعة أو الأجهزة الرقمية الرفيعة.

في ظل كل هذا التعقيد، ركَّز الخبيرون على نوع الحكمة التي نحتاج إليها لإحداث المزيد من التغييرات الإيجابية في المستقبل، وقال الكثيرون إنَّنا نحتاج إلى الإرادة للحفاظ على التغيير السياسي والهيكلي، ونحتاج أيضاً إلى مجموعة معينة من الاستراتيجيات النفسية التي تعزز الحكم السليم، مثل: تقبُّل وجهة نظر الآخرين، والتفكير النقدي، والاعتراف بحدود معرفتنا، والتعاطف والرحمة.

بعبارة أخرى، تركِّز الحكمة التي أوصى بها الخبيرون على التفكير فيما وراء الإدراك، والذي يكمن وراء التنظيم الناجح للعواطف، والوعي التام، والحكم الرصين بشأن القضايا الاجتماعية المعقدة، ولحسن الحظ، تُعدُّ هذه الاستراتيجيات النفسية قابلة للتطبيق والتدريب؛ فإحدى الطرائق التي يمكننا من خلالها تعزيز الحكمة ووجهة النظر - على سبيل المثال – النظر إلى تحدياتنا من وجهة نظر خارجية أو من منظور شخص آخر.

قد يكون موقف الخبيرين غير الموحَّد غير مُرضٍ إلى حدٍّ ما، ومع ذلك، وكما تُظهِر الأبحاث حول التنبؤ، هذا الموقف الجدلي هو بالضبط ما يميِّز المتنبئين الأكثر دقة عن عامة الناس؛ وذلك لأنَّ التنبؤ أمر صعب القيام به، وتكون بعض التنبؤات غير مؤكدة عادةً وبعضها خاطئة، وفي الواقع، قد يكون التغيير بعد الجائحة غير ملحوظ؛ ليس لعدم حدوث التغييرات؛ ولكن لأنَّ الناس يتكيفون بسرعة مع الظروف الجديدة.

سيحدِّد المستقبل ما إذا كانت الجائحة الحالية قد غيِّرت مجتمعاتنا أم لا، وفي ظل الجائحة، قد تكون هذه الأفكار بمنزلة تذكيرٍ بأنَّ الجائحة قد لا تؤدي فقط إلى المخاوف ولكن أيضاً إلى الأمل في المستقبل.

المصدر




مقالات مرتبطة