هل المال أفضل من العلم؟ ماذا تخبرنا جائحة كورونا عن هذا الموضوع؟

إذا عرضتَ هذا السؤال على عيِّنة من الأشخاص، فإنَّ الأغلبية تختار الراحة المادية والاستقرار المالي، خصوصاً في البلدان التي تعاني من مشكلات اقتصادية ومعيشية، منها المتوسطة ومنها الخانقة التي قد تُودِي بالناس إلى حافة العَوَز والجوع.



لا يستطيع أحد إنكار أنَّ إجراء أي بحث علميٍّ بحاجة إلى المال، وإلَّا من غير الممكن تنفيذه، بالمقابل لا يمكن إنكار دور العلم في صناعة المال؛ بل في صناعة الحياة، حتى إنَّ مجال المال والأعمال يُعَدُّ أحد فروع العلم، والاقتصاد هو علم واسع بحدِّ ذاته؛ إذاً، العلاقة بين المال والعلم، هي علاقة تبادلية دائماً ولا يمكن الفصل بينهما من الناحية العملية، ولا يمكن حتى تفضيل واحد منهما على الآخر؛ فكلاهما عمودان أساسيان في بناء الحضارة.

ولكن في هذا المقال، سنناقش مناقشة نظرية، ما هو الأهم بالنسبة إلى الإنسان، المال أم العلم؟ طبعاً بشكلٍ افتراضي؛ فنحن في جميع الأحوال نحتاج إلى الاثنين، ولا نستطيع التخلِّي عن المال، أو عدم استعمال منتجات العلم الحديث.

هل صحيح أنَّ صاحب المال مهموم طوال الوقت؟

يكثر الكلام في أَروِقة العامة، وخاصةً في الطبقة المتوسطة والفقيرة، عن أنَّ أصحاب الأموال هم أشخاص تعيسون نفسياً؛ وذلك لأنَّهم يعيشون كلَّ يوم ضغوطاً نفسية جراء الأعمال الكثيرة التي عليهم البت بها، واتِّخاذ إجراءات وقرارات تعود عليهم بالربح أو الخسارة؛ وهذا يؤدي إلى إصابتهم بالأمراض التي تترافق عادة مع الاضطرابات النفسية، مثل: ارتفاع الضغط الشرياني، والداء السكري.

في الحقيقة، إنَّ هذا الكلام غير دقيق؛ إذ أثبتت الدراسات الحديثة أنَّ الاستقرار المادي هو أهمُّ عامل من عوامل الحفاظ على الصحة النفسية. وعلى النقيض من ذلك، يبقى تدنِّي مستوى المعيشة سبباً هامَّاً في إصابة الإنسان بالكثير من الاضطرابات النفسية والأمراض العضوية. وإن كانت المشاريع التجارية، تكلِّف صاحبها حصة من التوتر النفسي، لكنَّه لا يُقارَن بالضغط النفسي، والأمراض العضوية الناجمة عن انعدام الأمن الغذائي، وعدم القدرة على تأمين الدواء، أو إجراء عملية جراحية ضرورية، أو شراء الألعاب والثياب التي يحبها أطفالك، وغيرها من الأمور التي تؤكِّد أنَّ الضغط النفسي، والاكتئاب، والقلق، يترافقون ترافقاً أكبر مع الفقر بشكل واضح وظاهر للجميع.

لا يقتصر تأثير الفقر على الجوانب النفسية؛ بل يتعداه إلى الإصابة بسوء التغذية، وما يُخلِّفه من أمراض عضوية، ونقص في مناعة الجسم، ومن ثمَّ يصبح أكثر عرضة للإصابة بالجراثيم والفيروسات.

هل المال يشتري السعادة بحق؟

يقول الناس إنَّ المال يشتري كلَّ شيءٍ، حتى السعادة؛ بالمال تستطيع دخول أفضل المستشفيات، واستشارة أفضل الأطباء، ومن ثمَّ تستطيع شراء العلم والصحة. على عكس الحاجة المادية، التي من الممكن أن تجعلك تنجرف نحو سوء التغذية، ومن ثمَّ الإصابة بالأمراض المختلفة، التي تؤدي إلى تدهور حياتك، وقد تُودِي بك إلى الموت.

كلُّ هذا الكلام نسمعه كثيراً، وهو منطقيٌّ. فالاستقرار الماديُّ أفضل بكثير من الفقر، ولا يوجد عاقل يُحِبُّ الفقر، أو يُقدِّسه، لكن إذا كان ميزان التفاضل بين العلم والمال، فأيُّهما من المنطقي أن نختار؟

دروس كثيرة علَّمَتنا إياها جائحة كورونا، كشفَت لنا أنَّ السبيل الوحيد لكي يبقى الإنسان على قيد الحياة هو العلم، ولا شيء سواه. هنا، سنضيء على فكرة الوعي الطبي؛ إذ إنَّه يقتصر في كثير من المجتمعات على العاملين في المجال الصحي من ممرضين وأطباء. وسنورد في مقالنا هذا مثالين؛ الأول: شخص يمتلك العلم ولا يمتلك المال، أما الثاني فيمتلك المال ولا يمتلك العلم.

ماذا لو امتلكنا العلم، ولم نمتلك المال؟

في مثالنا الأول؛ لدينا صديقنا "جون" وهو ممرِّض متمرِّس، لديه ما يكفي من الوعي الصحي، والثقافة الطبية في المستشفيات وخارجها. يأتي من سفره، ليجد والده مصاباً بفيروس كورونا، وبدأَت علامات الالتهاب الرئوي بالظهور عليه؛ من ارتفاع في درجة حرارته، وزلَّة تنفُّسية، وسعال، ثم بدأت أكسجته بالهبوط؛ لذا احتاج إلى أسطوانة من الأوكسجين إلى جانب سريره، تخفِّف قليلاً من زلَّته التنفسية، وترفع من نسبة أكسجة الدم لديه. بعد فترةٍ هبطَت أكسجة الدم قليلاً، مع أنَّه موصول على أسطوانة الأوكسجين.

كان "جون" يعلم أنَّ والده الذي يبلغ من العمر خمسةً وسبعين عاماً، والذي يعاني من الداء السكري في حالة خطرة لا تدعو إلى الاطمئنان أبداً، خاصةً أنَّه يعلم بوصفه ممرِّضاً أنَّ أسطوانات الأوكسجين هذه لا تعطي ضغطاً مناسباً، وليست بكفاءة وفاعلية الأوكسجين الذي يُقدَّم في المستشفيات، ويعلم أنَّه في أي لحظة تنخفض أكسجة والده، حينها لن تكون أسطوانات الأوكسجين قادرة على فعل شيء، وستبدأ عندها عملية الاستقلاب اللاهوائي في الجسم، بما ينتج عنها من فضلات ضارَّة تؤذي مختلف أجهزة الجسم.

وانطلاقاً من إلمام "جون" بهذه النقاط الهامة وعلمه بها، لم ينتظر دقيقة في المنزل، وأخذ والده إلى المستشفى، ووضعه في قسم العزل الخاص بمرضى فيروس كورونا، وذلك على الرغم من عدم رغبة والده بالذهاب إلى المستشفى، ومعارضة إخوته لهذا الأمر؛ بسبب جهلهم بالأمور التي كان "جون" على علم ودراية بها. قضى والد "جون" أسابيع عدَّة في قسم العزل، تلقَّى خلالها جميع الأدوية الوريدية اللازمة، وأُخضِعَ لضغط أوكسجين أعلى تماشياً مع تطوُّر حالته نحو الأسوأ.

كان "جون" صبوراً، فقد كان مضطراً إلى افتراش الأرض والاعتناء بوالده، وكان قسم العزل مكتظَّاً إلى أبعد حدٍّ، ووصل إلى أقصى قدرته الاستيعابية. بعد أسبوعين من المعاناة، تماثل والد "جون" للشفاء، وأخذ يتحسَّن رويداً رويداً، حتى عاد ليمارس حياته الطبيعية. هنا يمكننا القول: لولا العلم الذي امتلكه "جون"، والذي قاده إلى حسن وسرعة تصرُّفه، لكان والده في عداد الموتى بشكل شبه مؤكَّد.

شاهد أيضاً: 9 أفكار لكسب المال من المنزل

ماذا لو امتلكنا المال ولم نمتلك العلم الكافي؟

ننتقل إلى مثالنا الثاني؛ يقطن "جاك" ذو الثمانية والستين عاماً في قرية ريفية، مع أنَّه يمتلك المال الكافي، ليعيش مرفَّهاً في المدينة، غير أنَّه اختار الهواء النقي، والطبيعة الساحرة الخلابة. يُصاب "جاك" بفيروس كورونا؛ إذ ظهرت عليه الأعراض ظهوراً نموذجياً، أخذه أهله إلى المستشفى على الفور، وأكَّد الأطباء التشخيص، وطلبوا أن يُوضَع في قسم العزل، لكنَّ "جاك" لم يقبل وعارض معارضة كبيرة، وأولاده لم يرغبوا في بقائه في المستشفى، مع أنَّهم كانوا متعلِّمين، ولكن لم يملكوا الوعي الصحي، والثقافة الطبية لفهم أنَّ حالة والدهم تستوجب البقاء في المستشفى.

كان "جاك" يملك أصدقاء من الأطباء والممرضين، نصحوه بالبقاء في المستشفى، ولكنَّه بسبب رغبته ورغبة ذويه في بقائه في المنزل، بحجَّة أنَّه أفضل من ناحية الراحة النفسية، واعتقادهم بأنَّهم قادرون من الناحية المادية على تحمُّل التكلفة الزائدة بجلب المعدَّات الطبية إلى المنزل، لم يصغِ إلى نصيحة الأطباء. هنا، امتلك "جاك" المال الكافي، لجلب مستشفى كامل إلى منزله، ولكنَّه لا يعرف أنَّ هذا - طبياً وعملياً - غير ممكن. صحيح أنَّه يمتلك القدرة المادية على شراء أسطوانات الأوكسجين، والأدوية الباهظة، لكنَّه لم يكن يعلم ما كان يعلمه "جون" أنَّ أسطوانات الأوكسجين المنزلية لا تعمل بكفاءة كما هو الحال مع أوكسجين المستشفيات.

للأسف، بقي "جاك" في منزله، حتى ساءت حالته الصحية بشكل كبير، وبقي أهله مصرِّين على عدم ذهابه إلى المستشفى، حتى توقَّف قلب "جاك" وأنعشوه، ثم نُقِلَ إلى المستشفى إلى قسم العناية المشددة، ولكن بعد ماذا؟ نعم، لقد تأخروا كثيراً، فقد كان نقص الأكسجة سبب كثير من الأذيات الدماغية الدائمة، التي أدَّت في نهاية المطاف إلى وفاته بعد يوم واحد من دخوله إلى قسم العناية المشددة. طبعاً هذه الحالات ليست شاذَّة أو استثنائية، لكنَّها تُعبِّر عن حالات كثيرة، كان يمكن أن يتجنب الموت، من خلال الوعي.

إقرأ أيضاً: ما الذي يجعلنا أكثر سعادة: الوقت أم المال؟

إذاً، ما هو الأفضل امتلاك العلم أم المال؟

هنا نعود إلى السؤال الذي طرحناه في البداية، لو خيَّروك بين العلم والمال، فأيُّهما تختار؟

إنَّنا في هذا المقال لا نعطي جواباً، ولا نلزمك بأي جواب، لكن سنناقش، ونحلِّل، وندع الحكم لك، فقد يكون امتلاكنا للعلم سبباً في امتلاكنا للمال؛ فهناك الكثير من العلوم والمهن العلمية، التي تدرُّ على أصحابها أموالاً طائلة، والمال بطبيعة الحال قد يوفِّر للإنسان فرصاً أفضل من الناحية التعليمية، ولكن يبقى العلم عملية مستمرة وطويلة، وتحتاج إلى وقت وجهد، وهي عملية تراكمية لا يمكن أن نكتسبها في يوم وليلة أو فترة قصيرة، ولو أتانا المال في مرحلة متأخرة من الحياة، فلن نستطيع حينها توظيفه في مجال العلم.

في الختام

إنَّ أكثر ما يجلب السعادة لأي إنسان، هو بقاؤه بجانب الناس الذين يُحبُّهم ويُحبُّونه، وخاصةً الأم والأب، فلا يوجد سعادة يمكن أن تضاهي جوَّ العائلة، وبخسارته سنرى أنفسنا عاجزين عن الاستمتاع بمباهج الحياة. وإنَّ أهم ما يجب وجوده لاستمرار هذا الجو هو الصحة النفسية والجسدية، التي لا يمكن الوصول إليها دون وجود الوعي الصحي والطبي؛ فإنَّ العلم والمعرفة هما عماد الوعي، ومن ثمَّ عماد الصحة والسعادة. وما أحب على قلب الإنسان من الصحة والسعادة.




مقالات مرتبطة