هل العمل عن بعد هو طريق النجاح في المستقبل؟

لطالما أكَّدت الأبحاث فوائد السماح بمزيد من المرونة في العمل، لكنَّ الدراسات الحديثة وتداعيات جائحة كورونا شوَّشتا على المشهد.



أجرت مؤسسة إنترناشونال وورك بليس جروب (International Workplace Group) في عام 2019 استطلاعاً حول مكان العمل، وكانت النتيجة أنَّ أكثر من نصف العمال على مستوى العالم عملوا بالفعل خارج المقر الرئيس في بعض الأوقات، وحتى في عالم ما قبل الجائحة، عدَّ 75% من الموظفين أنَّ العمل عن بعد هو "الوضع الطبيعي الجديد"، وبالفعل هذا ما وصلنا إليه بعد بضعة أشهر فقط.

يبدو أنَّ هناك ردود فعل متباينة من المنظمات حول ما إذا كان العمل عن بعد على النطاق الذي نراه حالياً سيستمر، فقد صرَّحت شركات التكنولوجيا وحتى بعض البنوك الكبرى أنَّهم سيُقلِّصون مساحة مكان العمل وينتقلون إلى نهج "المقر المركزي"، على غرار بيئة عمل شركة وي وورك (WeWork).

ومع ذلك، صرَّحت بعض الشركات مؤخراً مثل شركة غولدمان ساكس (Goldman Sachs) بأنَّها مُصرَّة على عودة موظفيها؛ حيث قال رئيسها التنفيذي ديفيد سولومون (David Solomon): "أعتقد بأنَّه في شركةٍ تعتمد على ثقافة تدريب مهني مبتكرة وتعاونية مثل شركتنا، هذا (العمل عن بعد) ليس مثالياً بالنسبة إلينا، وليس حالة طبيعية جديدة؛ بل هو خلل سوف نُصحِّحه في أقرب وقت ممكن".

كانت الحجج التقليدية للمنظمات التي تؤيد العمل عن بُعد تستند إلى تحقيق الرفاهية، وتوازن أفضل بين العمل والحياة، وجذب المزيد من الموظفين، وزيادة الإنتاجية والتفاعل.

ولكن لا تتفق وجهات نظرٍ مثل وجهة نظر "سولومون" مع مجموعة الأبحاث التي أشارت إلى أنَّ العمل من المنزل هو الحل للعديد من مشكلات العمل في العصر الحديث، وسلطت الضوء على بعض المزالق المحتملة.

قد يكون هناك بحث جديد يدعم وجهة نظره أيضاً، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتفاعل في مكان العمل الذي يُقدِّسه المديرون، ولكن لنستعرض أولاً بعض الأبحاث التي تُظهر أنَّ العمل عن بُعد مفيد للغاية للموظفين والمؤسسات على حدٍّ سواء، ويجب أن يبرز أكثر في المستقبل.

العمل عن بُعد مفيد للتفاعل والإنتاجية:

بالانتقال إلى الدراسات المختلفة التي أجرتها شركة جالوب (Gallup)، رُسِمَت صورة جميلة عن النتائج الإيجابية المرتبطة بالعمل عن بُعد، والتي يُعزى معظمها إلى التفاعل.

تشير تقارير "جالوب" إلى أنَّ أماكن العمل عالية التفاعل يمكن أن تشهد تغيُّب عن العمل أقل بنسبة 41 %، وربحية أعلى بنسبة 21 %؛ حيث يرتبط هذا بالعمل عن بُعد كون التفاعل يبلغ ذروته عندما يقضي العمال 60 إلى 80% من وقتهم في العمل عن بُعد، مما يؤكد على ما يبدو أنَّ مزيجاً من التواصل وجهاً لوجه في المكتب ومزيداً من المرونة في العمل عن بُعد قد يؤدي إلى أداء ونتائج أفضل.

إضافةً إلى مكاسب الأداء، قد يؤدي توفير العمل المرن إلى جذب المزيد من الموظفين أيضاً، أو يساعد في الاحتفاظ بالموظفين الحاليين؛ حيث وجد استطلاعٌ أصدرته شركة فليكس جوبز (Flexjobs) في 2018 أنَّ 78 % من جيل الألفية سيكونون أكثر ولاءً لرب العمل إن قدَّم لهم خيارات عمل مرنة، بينما قال أيضاً سبعة من كل 10 إنَّهم تركوا وظيفتم أو فكروا في تركها لأنَّها تفتقر إلى ترتيبات العمل المرن.

بالطبع، يشمل العمل المرن مجموعة من الجوانب من الوقت المرن إلى اختيار الورديات، لكنَّ العمل عن بُعد هو الجانب الرئيس.

لكن هل العمال الذين يعملون عن بُعد أكثر تفاعلاً من نظرائهم الذين يعملون في المكتب؟ ربما لا.

إقرأ أيضاً: 3 أسباب تفسّر تفوّق الذين يعملون عن بُعد عن موظفي المكاتب

سلبيات العمل عن بُعد:

وفقاً لمقال كتبه دان شاوبل (Dan Schawbel) في هارفرد بزنس ريفيو (Harvard Business Review) حلل فيه النتائج التي توصَّلت إليها دراسة فيرجن بالس (Virgin Pulse) لعام 2018، تبين أنَّ العمَّال الذين يعملون عن بُعد قد لا يكونون أكثر تفاعلاً، وقد يكون احتمال تركهم لوظائفهم أكبر من غيرهم؛ حيث أظهرت الدراسة أنَّ ثلثي الموظفين البالغ عددهم 2000 موظفاً معظمهم من الموظفين الذين يعملون عن بُعد لم يكونوا متفاعلين، وقال 5 % فقط إنَّهم يرغبون في البقاء في شركتهم طوال حياتهم المهنية، بينما بلغت هذه النسبة الثلث لدى الموظفين الذين لا يعملون عن بعد.

يقول "شاوبل": إنَّ هذه النتائج ليست مفاجئة، مشيراً إلى أنَّ البشر يتوقون على الأقل إلى بعض التفاعل وجهاً لوجه من أجل الشعور بالارتباط بزملائهم في الفريق.

لا يمكن الاختلاف مع ذلك، ومعظم استطلاعات الرأي على لينكد إن (LinkedIn) أشارت في العام الماضي إلى أنَّ معظمنا يرغب في بعض التوازن بين العمل عن بُعد والعمل المكتبي، لكن ما لم يتطرق إليه هذا البحث هو الفجوة بين الأجيال حول العمل عن بُعد، وخاصة ما قبل جائحة كورونا، وكيف قد يؤدي ذلك إلى تغيير النتائج.

كما ورد في الدراسة الاستقصائية من "فليكس جوبز" المذكورة أعلاه، إنَّ العمال الأصغر سناً هم الذين يتوقون عادةً إلى المرونة، وقد أظهرت العديد من الدراسات كيف أنَّ جيل الألفية والجيل الذي يليه يميلون إلى أن يكونوا أقل ولاءً لرب عمل واحد.

يُشير تقريرٌ أعدَّه معهد ماكينزي غلوبل إنستيتيوت (McKinsey Global Institute) نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي إلى أنَّ "النماذج المختلطة للعمل عن بُعد من المرجح أن تستمر في أعقاب الوباء، لا سيما بالنسبة لدى القلة القليلة من الموظفين ذوي التعليم العالي والذين يتقاضون أجوراً مرتفعة".

إقرأ أيضاً: إيجابيات وسلبيات العمل عن بعد: هل سيتكيّف الموظفون لديك؟

هل سيستمر العمل عن بُعد على نطاق واسع؟

باختصار، نعم، لكن ليس بالمستوى الحالي، فكما لخَّص تقرير "ماكينزي":

"لقد اخترق الفيروس الحواجز الثقافية والتكنولوجية التي حالت دون العمل عن بُعد في الماضي، مما أدى إلى تحوُّل هيكلي في مكان العمل، على الأقل بالنسبة إلى بعض الأشخاص".

الأمر اللافت هنا هو "لبعض الناس"؛ إذ إنَّ إجبار الموظفين على العمل من المنزل قد فتح أعينهم على طريقة جديدة للعيش، ودمج حياة العمل مع الحياة المنزلية، والوقت، والرفاهية، وتخفيض التكاليف، لكنَّ هذا لا ينطبق على الجميع؛ فقبل الوباء، كان الأشخاص الذين يعملون عن بُعد يريدون حقاً العمل عن بُعد، لقد كانت ميزة سعوا وراءها، ولهذا السبب تجدهم يُقدِّرونها أكثر، فهم يدركون أنَّ لديهم شخصية وطريقة عمل أكثر إنتاجاً وتفاعلاً عند العمل خارج المكتب.

في مرحلة ما بعد الوباء، يوجد الآن مئات الآلاف من الأشخاص يعملون عن بُعد، ولكن ليس باختيارهم، وهذا هو الاختلاف الرئيس؛ إذ لم يكن الإعداد الصحيح للمنزل موجوداً في الأصل، فقد يكون لديهم شخصية تزدهر أكثر عندما يتفاعلون اجتماعياً، ويتلقون الدعم من مكان عملهم، ويكونون قريبين من زملائهم في العمل.

 

المصدر




مقالات مرتبطة