من هو المصري محمد مشالي "طبيب الغلابة"؟

دائماً ما تشدُّنا القصص التي تحمل في طيَّاتها معاني الإنسانيَّة والقِيَم المُثلى التي أصبحت مُفتقدةً كثيراً في عصرنا هذا، حيث تُشعِرنا هذه القصص أنَّ بذرة الخير ما زالت موجودة في الإنسان، وأنَّ الطيبة والعطاء اللامحدود قد نجدها في طبيبٍ بسيطٍ في مظهره، عظيمٍ في قلبه وروحه وفكره؛ إنَّه "طبيب الغلابة" -كما يُطلَق عليه- الطبيب المصري "محمد عبد الغفار مشالي"، الذي ضجَّت به وسائل التواصل الاجتماعي بعد رفضه مُساعدةً من البرنامج الخيري "قلبي اطمأن" بتقديم عيادةٍ مُجهَّزةٍ له، مُصرَّاً على البقاء في عيادته المُتواضعة، ناذراً حياته لخدمة الفُقراء.



الولادة والنشأة:

وُلِدَ الدكتور "محمد عبد الغفار مشالي" في عام 1944 في مُحافظة البحيرة في شمالي مصر لأُسرَةٍ مُتوسِّطة الحال، وقد كان والده "عبد الغفار مشالي" يعمل مُدرِّساً؛ ممَّا اضطره للانتقال بأُسرَته إلى مدينة طنطا في مُحافظة الغربيَّة.

دراسة محمد مشالي:

دراسة محمد مشالي

عاش الدكتور محمد مشالي مع أُسرته في طنطا، ودَرَسَ مرحلة الثانويَّة في مدرسة الأحمديَّة، وقد كان الدكتور مشالي يرغب بدراسة الحقوق، إلَّا أنَّ والده كان يحلم أن يكون أوَّل أبنائه طبيباً، وأصرَّ على أن يدرُس ابنه في كليَّة الطب. وبالفعل درس الدكتور محمد مشالي في كُليَّة طب قصر العيني إلى أن تخرَّجَ منها عام 1967، وتخصَّص في الأمراض الباطنة وأمراض الأطفال والحميات.

توفي والده في يوم تخرُّجه، وقد كان تأثُّر الدكتور مشالي واضحاً بوالده، كيف لا وهو الذي أوصاه بالفُقراء ومراعاة أحوالهم، حيث أوصاه وهو على فراش الموت خيراً بالفُقراء، ومرضى الفُقراء.

إنَّ كون والده شخصاً مُثقّفاً جعل من ابنه الدكتور محمد مشالي من عُشَّاق القراءة والكُتُب، وبخاصَّةٍ مؤلَّفات عميد الأدب طه حسين، حيث تأثَّر بشكلٍ خاص بكتابه: "المُعذَّبون في الأرض".

إقرأ أيضاً: كُتّاب عرب أبدعوا في كتاباتهم وتركوا أثرًا إيجابيًا

حياته العملية، وبداية رحلته الإنسانية:

عمِلَ الطبيب مشالي عقب تخرُّجه في عددٍ من الوحدات الريفيَّة، حيث أنَّ وفاة والده تركت عليه مسؤوليَّة الإنفاق على إخوته الخمسة، وقد تزوَّج بعد ذلك بـ 8 سنوات، وأنجب 3 أبناءٍ تخرَّجوا جميعاً من كُليَّة الهندسة؛ وقد تُوفِّي شقيقه أيضاً تاركاً له 3 أطفالٍ في المرحلة الابتدائيَّة، والذين تكفَّل بهم الدكتور محمد مشالي إلى أن تخرَّجوا من الجامعات.

وقد جرى تعيينه بالقطاع الريفي في محافظة الغربية، لكونه مُقيماً آنذاك بمدينة طنطا؛ كما وتنقَّل بين الوحدات الريفيَّة، حيث عمل في منصب مُدير مُستشفى الأمراض المُتوطِّنة، ثمَّ مُديراً لمركزٍ طبِّيٍّ خاص، إلى حين خروجه على المعاش في عام 2004، وقد افتتح عيادته الخاصَّة عام 1975 في طنطا.

كانت نقطة التحوُّل التاريخيَّة في حياة مشالي حين وقعت حادثةٌ كان شاهداً عليها في إحدى القُرى الفقيرة التي عمل بها طبيباً في إحدى الوحدات الصحيَّة، وكان لها التأثير الأكبر فيه؛ وقد بكى "طبيب الغلابة" وهو يروي ويتذكَّر أحداث هذه الواقعة قائلاً:

"جاء إليَّ طفلٌ صغير مريضٌ بالسُكَّر وهو يبكي من الألم ويقول لوالدته: أعطني حُقنة الأنسولين، فردَّت أمُّ الطفل: لو اشتريت حُقنة الأنسولين، فلن نستطيع شراء الطعام لبقية إخوتك، فما كان من هذا الأخ المريض إلَّا أن أحرَقَ نفسه أسىً على حاله وحال أُسرَته، ولا زلتُ أتذكَّر هذا الموقف الصعب الذي جعلني أَهَبُ علمي للكشف على الفقراء".

منذُ ذلك الوقت قرَّر الطبيب مشالي أن يكون عمله صدقةً جاريةً لكلِّ من يحتاج أو يطلُب، مُنفِّذاً بذلك وصيَّة والده بأن يُسخِّر علمه لخدمة الفقراء، وألَّا يُحصِّل ثمن الكشف ممَّن لا يملك قوت يومه؛ وبهذا التزم الطبيب مشالي في مسيرة عمله، ففي كثيرٍ من الحالات والمواقف التي تعرَّض إليها خلال عمليَّات الكشف والفحص لمرضاه، امتنع عن تحصيل ثمن الكشف الزهيد وحتَّى أنَّه قد أعطاهم ثمن الدواء، كما أنَّه يُجري فى بعض الأحيان تحاليل بالمجَّان يعجز المرضى عن سداد قيمتها؛ وفي مُناسباتٍ كثيرةٍ يقول طبيب الإنسانيَّة أنَّ حياة الإنسان أهمُّ بكثيرٍ من أيِّ شيءٍ آخر.

في عيادته المُتواضعة في المدينة قُرب المسجد الأحمدي، والتي لا يزال يُمارس منها عمله حتَّى الآن، بدأ "طبيب الغلابة" الكشف بعشرة قروش؛ واليوم، ورغم مرور أكثر من نصف قرن، لم يتجاوَز ثمن الكشف 10 جنيهات. وعندما سُئِلَ عن سبب قلَّة أجر الكشف لديه قال: "أنا نشأتُ في بيئةٍ مُتواضعة؛ لذا فقد فتحتُ هذه العيادة للفئات المطحونة"، ويقول أيضاً: "لو لم أنتبه لهؤلاء المطحونين، وغيري لم ينتبه لهم، فماذا يفعلون؟ هل يموتون وهُم أحياء؟".

يبدأ "طبيب الغلابة" يومه بالاستيقاظ باكراً، ويقضي أغلب أوقاته خلال اليوم في عيادته في طنطا، ومن ثمَّ يتوجَّه إلى العيادتين الأُخْرَيَيْن في قريتين مجاورتين لطنطا لتوقيع الكشف الطبِّي على أبناء القريتين، مُشدِّداً على أنَّ سعر الكشف في العيادات 5 جنيهات فقط، مُلتزماً برسالته الإنسانيَّة تجاه الفُقراء.

وهكذا قضى الطبيب محمد مشالي حياته كلَّ يوم، زاهداً في كُلِّ شيء إلَّا خدمة الفُقراء ومُساعدتهم في عيادته المُتواضعة دون كللٍ أو ملل، رغم تجاوزه السبعين سنةً من عُمره. فإذا ما فرغ من خدمة المرضى، انشغل بشغفه بقراءة الكتب؛ وكما يقول فقد علَّمته القراءة أن يكون مُعتدلاً ومُتَّزناً، وأن يُحسن التصرُّف في حياته الخاصَّة، فلا يتسرَّع ولا يندفع ولا يُخطئ؛ وأن يتَّسم بطول النفس، وألَّا يجعل التفاهات تُعيقه في طريقه. ويعيش الدكتور محمد حياةً بسيطة جدَّاً.

إقرأ أيضاً: نصائح تساعد على تنمية عادة قراءة الكتب

إنجازات محمد مشالي ونجاحاته:

إنجازات محمد مشالي ونجاحاته

زادت شعبيَّة الدكتور محمد مشالي بشكلٍ كبير وعلى نطاقٍ واسع، وأُطلِقَت من أجله مُبادراتٌ واسعةٌ وحملاتٌ إلكترونيَّةٌ ومُبادراتٌ شعبيَّةٌ للمُطالبة بتكريم "طبيب المطحونين"، الذي يستقبل عدداً كبيراً من المرضى، والذين يأتون بأعدادٍ كبيرةٍ من كُلِّ حدبٍ وصَوب، لاسيما في ظلِّ الأوضاع الاقتصاديَّة واتِّساع طبقة الفُقراء في مصر.

وفي عام 2019 أُقيمَ حفل تكريمٍ له في مدينة طنطا بقلب دلتا مصر، والذي حَضَرَهُ وقتها بملابس بسيطة، والتي أثارت جدلاً عبر منصَّات التواصُل الاجتماعي، حيث علَّق الدكتور محمد مشالي على ذلك قائلاً: "هذه ملابس العمل، وهم خدوني من الشغل على طول وقالوا لي سيب اللي في إيدك وتعال معانا، ومدونيش فُرصة أروح البيت ألبس بدلة، معنديش وقت للمظاهر الكدابة دي، المُهم الجوهر".

في عام 2020 عادَ الطبيب المصري إلى الواجهة من جديد، وأصبح حديث الصحافة والموضوع الأكثر تداولاً على شبكات التواصُل الاجتماعي؛ وذلك بعدما حاوَلَ البرنامج الإماراتي "قلبي اطمأن"، والذي يُقدِّمه شابٌ مجهول الهويَّة اسمه "غيث" - تقديم عيادةٍ حديثةٍ مُجهَّزةٍ بشكلٍ كاملٍ له، إلَّا أنَّ الرد الصادم جاء من الطبيب مشالي بالرفض القاطع، حيث ادَّعى فريق البرنامج أن ثمة حالةٌ طبيَّةٌ طارئةٌ تتطلَّب نزول الطبيب إلى الشارع؛ لأنّه لم يتمكَّن من مُقابلته بسهولة، وعرَضَ مُقدِّم البرنامج "غيث" على الطبيب محمد مشالي عيادةً فاخرةً في منطقةٍ راقيةٍ في مدينة طنطا حيث يعيش، إلَّا أنَّه رفض العرض بقوله: "أنا أستطيع فتح عيادةٍ حديثة، لكنَّني لا أريد. أنا أريد البقاء هنا خدمةً للفُقراء؛ لأنَّ أبي أوصاني بهم"، ويُضيف: "نشأتُ فقيراً، لا أُريد سيارةً طولها 10 أمتارٍ ولا بدلةً بـ 10 آلاف جنيه، فأنا أكتفي بأيِّ شيء".

وقد طلَبَ منهم بدلاً من ذلك أن يُقدِّموا هذه التبرُّعات إلى الأطفال بلا مأوى، أو الأطفال الأيتام، أو إلى مُحافظة الغربيَّة لصرفها على المُحتاجين، مضيفاً أنَّه قد رَفَضَ سابقاً العديد من التكريمات من جهاتٍ عديدة. وقد نال ردُّه إعجاب وإشادة وتفاعل آلاف الناشطين عبر وسائل التواصُل الاجتماعي، كما حقَّقت الحلقة نحو مليونين ونصف المليون من المُشاهدات على يوتيوب في أقلَّ من يومين.

وفاة الطبيب محمد مشالي:

أعلن وليد مشالي، نجل الدكتور محمد مشالي، وفاة والده الطبيب "محمد مشالي" في مدينة طنطا بتاريخ 28 تموز 2020 عن عمر ناهز 76 عاماً، قضاها في خدمة وعلاج الفقراء والمحتاجين. حيث قال على حسابه في فيسبوك: "انتقل إلى رحمة الله تعالى والدي الدكتور محمد عبد الغفار مشالي والدفنة بعد صلاة الظهر بالبحيرة".

وكان أحد آخر أمنياته أن يتوفاه الله في عيادته وهو يعالج المرضى.

وهكذا نال الدكتور محمد عبد الغفور مشالي لقب "ملاك الغربيَّة"، و"طبيب الغلابة"، و"طبيب الإنسانيّة"؛ ليُلقِّنَنَا جميعاً درساً رائعاً في الإنسانيَّة والرحمة في زمنٍ افتقدنا فيه لوجود هذه الصفات السامية.

رحم الله طبيب الإنسانيّة الدكتور "محمد مشالي".

 

المصادر:  1  ،  2  ،  3  ،  4  ،  5  ،  6  ،  7  ،  8




مقالات مرتبطة