مغالطة التكاليف الغارقة: لماذا نستمر في هدر الأموال بعد الخسائر؟

نحن نتجه بشكل تلقائي نحو الأنشطة التي تعطينا أعلى العائدات، فمثلاً: عندما يرغب شخص ما في لقائنا، فإنَّنا نقيِّم عادةً فائدة هذه المقابلة قبل الموافقة على طلبه؛ وإذا كان متجر ما يبيع سلعاً لا تهمنا، نتركه ونصرف أموالنا في مكان آخر؛ ذلك لأنَّنا نُجري كلَّ يوم حسابات ذهنية حول ما نقوم به وما نحصل عليه، ونبحث عن الخيارات البديلة لدينا، ثمَّ نُجري تعديلات تدريجية لنحسن حياتنا.



غالباً ما نبدأ شيئاً ما ونحن ندرك تمام الإدراك أنَّه يستنزف وقتنا وأموالنا وطاقاتنا، ونجد صعوبة كبيرة في التراجع عنه، حتى عندما ندرك سوءه؛ وربَّما هذا ما يفسر لمَ فشلت طائرة الكونكورد.

لماذا فشلت طائرة الكونكورد؟

أقلعت طائرة الكونكورد -طائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت- من مطار شارل ديغول (Charles de Gaulle) في باريس في شهر يوليو عام 2000، وكان من المقرر أن تهبط في مطار جون إف.كينيدي (John F. Kennedy) في نيويورك، وكانت الرحلة تتألف في الغالب من ركاب ألمان كانوا في طريقهم لركوب سفينة سياحية تنطلق من مدينة نيويورك.

مرت الطائرة على مخلفات طائرة سابقة بينما كانت تستعد للإقلاع، وتفكك على إثر ذلك خزان الوقود، ممَّا تسبب بإحداث حريق أخرجها عن السيطرة، فاصطدمت نتيجة ذلك بأحد الفنادق في ضواحي باريس بعد دقيقتين فقط من إقلاعها؛ الأمر الذي تسبب بموت جميع ركابها البالغ عددهم 109 ركاب، وكذلك أربعة أشخاص ممَّن كانوا موجودين في الفندق.

وبعد ثلاث سنوات فقط من هذا الحادث، توقفت طائرة الكونكورد عن الطيران بعد 27 عاماً من الخدمة.

الآن، قد يعتقد العديد من الأشخاص الذين ينظرون إلى الجدول الزمني للأحداث أنَّ تحطم الطائرة هو ما تسبب بخروج الكونكورد عن الخدمة؛ ومع ذلك، وبينما كان تحطمها عاملاً مساهماً، إلَّا أنَّه لم يكن السبب الرئيس وراء توقفها عن العمل.

عندما دخلت الكونكورد الخدمة لأول مرة في عام 1976، كانت تلبي احتياجات الركاب الأثرياء الذين كانوا على استعداد لدفع مبلغ إضافي للتمتع بهيبتها ورفاهيتها وسرعتها الفائقة؛ فقد كان سعر تذكرة السفر ذهاباً وإياباً على متنها من نيويورك إلى لندن نحو 7995 دولاراً، أي أكثر من 30 ضعفاً من أرخص تذكرة طائرة عادية.

من منظور هندسي، كانت الكونكورد نصباً تذكارياً للطيران؛ إذ تبلغ سرعتها القصوى أكثر من ضعف سرعة الصوت قياساً على مؤشر ماخ، وكانت مدة الرحلة على متن طائرة كونكورد من لندن إلى نيويورك 3.5 ساعة مقارنةً بـ 7.5 ساعة على متن طائرة من طراز بوينج 747.

ومع ذلك، جاءت سرعتها على حساب تنازلات أخرى، حيث لم يكن بوسعها أن تطير سوى نصف المسافة التي تقطعها طائرة بوينج 747، ولم تبلغ سعتها القصوى سوى 100 راكب، وقد تسببت الضوضاء التي كانت تصدرها بمنعها من التحليق فوق الأحياء السكنية.

لم تكن الرحلات عبر المحيط الأطلسي من لندن وباريس إلى نيويورك وحدها كافية لاستمرار الكونكورد في الطيران؛ فقد انخفضت المبيعات مع انخفاض الطلب على رحلاتها، وتزامن ذلك مع ارتفاع تكاليف تشغيلها.

وأخيراً، قررت الخطوط الجوية الفرنسية والخطوط الجوية البريطانية أنَّ الوقت قد حان لإيقاف الكونكورد عن الطيران إلى الأبد في أكتوبر 2003.

في الحقيقة، كان تقاعد الكونكورد أمراً محتماً على الأمد البعيد، حيث كان ارتفاع تكاليف وقود الطيران في سبعينيات القرن العشرين واحداً من الأمور التي جعلت الكونكورد مشروعاً غير مربح وجب إلغاؤه منذ فترة طويلة؛ لكن رغم ذلك، استمرت الحكومتان البريطانية والفرنسية في تمويل الكونكورد بعد أن كانت قابلة للاستمرار على الصعيد الاقتصادي؛ ولهذا السبب، فإنَّ المغالطة التي تؤكد أنَّ التكاليف الأولية تبرر مزيداً من النفقات معروفة بـ "مغالطة الكونكورد" (Concorde fallacy).

مغامرة التكاليف الغارقة في حياتنا:

وفقاً لنظرية الاقتصاد الجزئي، فإنَّ التكاليف الوحيدة التي تشكل أهمية كبرى في اتخاذ القرار العقلاني هي "التكاليف المحتملة"، إذ يستند كلُّ ما تقرره في أيِّ لحظة بعينها إلى البدائل المتاحة حالياً.

إذا ارتكبت خطأً في إهدار أموالك أو إضاعة وقتك على شيءٍ سابق، فلن يكون ذلك هاماً بعد الآن؛ ذلك لأنَّ ما يهم هو الأمر الذي تقرر إنفاق مواردك عليه للمضي قدماً؛ أي بمعنى: يجب ألَّا تؤثر التكاليف الغارقة في قراراتك المستقبلية.

ومع ذلك، يختلف ما يحدث نظرياً اختلافاً كبيراً عمَّا يحدث فعلياً؛ إذ يتخذ الناس القرارات الحالية على أساس الماضي.

يستخدم الناس في مغالطة التكاليف الغارقة -أو مغالطة كونكورد- تكاليفهم السابقة لتبرير مزيد من النفقات، وإنَّه شيء شهدناه جميعاً في مرحلة ما من حياتنا؛ فمثلاً:

  • اشتريت تذكرة لحضور فيلم ما في السينما، ثمَّ شعرت أنَّ الفيلم ممل للغاية؛ ولكن بعد أن دفعت ثمن التذكرة، ستُجبَر على البقاء في السينما حتى ينتهي الفيلم.
  • تحافظ على علاقة مع شخص لا تستمتع بقضاء الوقت معه؛ ذلك لأنَّك قد قضيت بالفعل الكثير من الوقت، وبذلت الكثير من الطاقة في هذه العلاقة.
  • تبدأ قراءة كتاب، ثمَّ تكتشف بعد عشرين صفحة أنَّك لا تريد الاستمرار؛ ولكنَّك تستمر ببساطة لأنَّك بدأت بالفعل.

عندما ترى هذه الأشياء من منظور خارجي، يبدو الجواب واضحاً للغاية: "اترك الأمر فحسب، وخفض خسائرك، وامضِ قدماً".

ليس من المنطقي الاستمرار في هدر الأموال بعد الخسائر عندما يصبح من الواضح أنَّك تحصل على أقل ممَّا تدفع؛ ولكن مع ذلك، هناك أسباب لإصرارنا، حتى لو كان هذا الإصرار على شيء لا يُؤتِي ثماره.

يقع الناس في تأثير التكاليف الغارقة للأسباب الآتية:

  • يخشون الخسارة.
  • لا يزالون متفائلين بأنَّ الأمور ستتغير في النهاية.
  • يخافون من أن تصبح سمعتهم في خطر، حيث إنَّهم كانوا مسؤولين عن النفقات الأولية.
  • لا يريدون أن يُظهِروا أيَّ هدر؛ فالانسحاب من شيء ما هو اعتراف بأنَّ الموارد السابقة المستخدمة قد أُهدِرت.

وقد يكون ذلك لأسباب لاعقلانية مثل: الخوف من الخسارة أو التبذير؛ لكن في الحقيقة، لن يؤدي الاستمرار في مسعى غير مثمر إلَّا إلى مزيد من الخسائر والهدر.

هناك أسباب أخرى أكثر تبريراً؛ إذ قد تكون الاستثمارات التي تبدو بلا أمل أحياناً مربحة على الأمد البعيد؛ وكذلك عندما تكون سمعتك في خطر، فمن المنطقي أن تحاول إصلاح الأمور بدلاً من تركها فجأة.

إقرأ أيضاً: 24 طريقة لتخفيض نفقات الشركات في ظل الأزمات الاقتصادية الحالية

كيف تستخدم مغالطة التكاليف الغارقة لصالحك؟

تبدو مغالطة التكاليف الغارقة في حد ذاتها أمراً سيئاً؛ ولكن عندما تدرك تأثيرها وكيفية استخدامها لصالحك، قد يمسي تأثيرها أداة قوية تستثمرها في حياتك.

إليك بعض الطرائق لاستخدام مغالطة التكاليف الغارقة لصالحك:

1. عبارة "المحاولة لا تضر" أشد ضرراً ممَّا تعتقد:

عندما تريد تجربة شيء جديد، دائماً ما تسمع شخصاً ما يلقي عبارة: "هذا لا يضر"، كما لو أنَّ تجربة شيء لم تفعله من قبل أمر غير ضار؛ ولكن في الحقيقة، هذا أمر مكلف.

بمجرد البدء في شيء ما، قد تجد نفسك تسير إلى ما هو أبعد وأبعد من ذلك، وسرعان ما يصبح من الصعب العودة إلى الوراء والتخلي عن كلِّ ما قمت به بالفعل، وتمثل هذه الخطوات الصغيرة تكاليف غارقة يصعب استردادها مع مرور الوقت.

لنفترض أنَّك تقدمت بطلب لوظيفة لا تستسيغها: أنت ترى أنَّه لا ضير ببساطة من التقدم بطلب لإجراء مقابلة؛ ولكن بعد ذلك، قد ينتهي بك الأمر إلى قبول الوظيفة وبدء التدرب على منصبك الجديد.

في أيِّ وقت تفعل فيه شيئاً ما، فأنت تتكلف فرصة؛ وباستثمار وقتك وطاقتك -وربَّما أموالك- في شيء ما، فإنَّك تتخلى عن الفرص الأخرى التي قد تتاح أمامك؛ ونظراً إلى تأثير التكاليف الغارقة، فقد يضرك ذلك.

لذا، من الهام تقييم الفرص قبل الاستفادة منها؛ ولهذا السبب يستخدم الناس في بعض الأحيان نهجاً تجريبياً أو اختباراً للجدوى قبل استثمار مزيدٍ من الموارد في مشروع ما.

إقرأ أيضاً: لماذا يبقى الناس في وظائفهم رغم شعورهم بالتعاسة؟!

2. إذا كنت ترغب في إقناع شخص ما، فاجذبه باستثمار صغير:

لقد كان هناك شركة سياحة تروِّج لجولات سياحية باستخدام تكتيك مثير للاهتمام، وهو: "لفترة محدودة، يمكنك حجز رحلة سياحية بتكلفة 1 دولار".

يعدُّ هذا تخفيضاً كبيراً مقارنةً بسعر الإيداع العادي لمئات الدولارات؛ غير أنَّ التكلفة الإجمالية هي نفسها لكليهما؛ ذلك لأنَّك تدفع الرصيد المتبقي لاحقاً.

القيمة العددية للدولار الواحد صغيرة، لكنَّ استثمار هذا المبلغ القليل من المال، يكفي ليُشعِرك بالرغبة في الانضمام إلى الجولة الساحية هذه، لتكتشف لاحقاً أنَّ التكلفة الحقيقية تبلغ أضعافاً مضاعفة.

من منظور الأعمال التجارية، قد يشجع تحفيز شخص ما على صرف القليل من وقته أو طاقته أو ماله على مواصلة الاستثمار؛ لذا إذا كنت تروي قصة أو تتواصل مع الآخرين، فاجذب الشخص إلى الجزء الأكثر إثارة أولاً، ويمكن أن يكون هذا: "إغلاق مطعم كذا وكذا" أو "انقطاع التيار الكهربائي في الحي أمس"، حيث تبدأ القصة بحدث خاطف يحث الشخص على الاستمرار في الإصغاء إلى بقية ما تقوله؛ ذلك لأنَّه عندما يتخلى الشخص عن بعض موارده لمسعى ما، فقد يتخلى عن مزيدٍ منه في المستقبل.

شاهد بالفيديو: كيف تمتلك مهارة الإقناع والتأثير في الآخرين

3. ضع قيوداً على القيود لمنع نفسك من الاستمرار في ذلك:

إذا كنت قد شاهدت فيلماً سخيفاً من قبل، فربَّما تكون قد شعرت حينها أنَّك مضطر إلى مشاهدته حتى النهاية؛ حتى لو شعرت بالممل، أو كان هناك أشياء أخرى أكثر إنتاجية وإثارة للاهتمام يمكنك فعلها في الوقت الذي تهدره على إكماله.

هل جربت أن تضع حدوداً وبدائل للأشياء التي تدرك بعد أن تبدأ بها أن لا جدوى من إكمالها، وأنَّها لا تعدو كونها مجرد إضاعة للوقت؟

جرب وضع حدود لكل شيء، فمثلاً: ضع حداً مدته 20 دقيقة لتستكشف فيها ما إن كان فيلم ما مملاً أم لا قبل أن تقرر إكماله أو التراجع عنه؛ وكذلك ضع حداً مؤلفاً من قراءة 10 صفحات من كتاب قبل أن تقرر مواصلة قراءته أم استبداله بشيء أكثر فائدة.

يمكنك وضع حدود في جميع مجالات حياتك، فمثلاً: إذا حاولت اختبار شيء جديد في عملك، يمكنك تحديد تاريخ ستة أشهر من اليوم لإعادة التقييم؛ وإذا كنت تفرط في تناول الطعام دائماً، يمكنك طلب وعاء تستطيع أن تضع فيه ما تبقى من طعام في طبقك وتأخذه معك إلى المنزل؛ وذلك لتجنُّب إنهاء كلِّ شيء موجود في الطبق والوصول إلى درجة التخمة، أو الاضطرار إلى ترك نصف طبقك مملوءاً ليؤول ما تتركه فيه إلى حاوية القمامة، وتهدر ثمنه سدى.

عندما لا تضع حدوداً، ستشعر بالحاجة إلى الاستمرار، حتى لو كلفك ذلك الكثير على الأمد الطويل.

إقرأ أيضاً: كيف تُحَدِّدُ أهدافكَ وتسعى إلى تحقيقها بالشَّكل الأمثل؟

أكبر سمة لدينا هي الخسارة:

ينعكس ميلنا إلى متابعة التكاليف الغارقة على أعظم صفاتنا كبشر؛ فنحن نثابر في مواجهة المشقة، ونتفاءل دائماً بأنَّ الأمور ستتحسن؛ ولكن لسوء الحظ، تجعلنا هذه السمة نفسها نستمر عندما تبدو الاحتمالات سيئة.

إنَّه لمن المؤلم أن تستسلم -خاصة عندما يكون لديك آمال كبيرة في البداية- وأن تشعر أنَّ الأمر ينعكس عليك بشكل سيئ بطريقة أو بأخرى؛ وعندما تستقيل، ستعيش لحظة تائهة وتفكر: "ماذا سأفعل الآن؟".

الخبر السار هو أنَّه بمعرفة مغالطة التكاليف الغارقة، تكون على دراية أكبر بأنَّ البدء أسهل من التوقف، وتتحكم تحكماً أكبر بأفعالك والعالم من حولك.

 

المصدر




مقالات مرتبطة