مشكلة مفهوم الشغف بالمعنى المعاصر

يقول الجميع إنَّهم يريدون أن يجدوا شغفهم؛ إذ يظن الناس أنَّهم سيكونون سعداء في حال تمكَّنوا من معرفة ما يجعلهم شغوفين، فما من شخص قد يُسأل عن أهدافه ذات المستوى الأعلى، إلا وبالتأكيد سيتمتم بشيء يتضمن كلمة "الشغف" و"السعي"، لكن هل يعرف أحد ما هو معنى الشغف؟



لدينا مشكلة منهجية بين أيدينا؛ إذ إنَّنا منذ الصغر تعلَّمنا أنَّ علينا جميعاً البحث عن شغفنا؛ لكنَّنا في الوقت نفسه، لسنا قادرين على تعريف كلمة "الشغف" بدقة، فما قد يجعل شخصاً ما يشعر بالشغف، لن يجعل بالضرورة شخصاً آخر يشعر الشعور نفسه؛ وذلك لأنَّه لا يوجد نموذج قياسي يخبرنا ما هو الشغف، وما هو السبب وراء أهميته وكيفية الحصول عليه.

نحن ما زلنا نستمع لمُعلِّمي تطوير الذات ونحاول إيجاد شغفنا، لكن ما هي النتيجة؟ النتيجة هي جيل كامل من الناس الذين يلاحقون أهدافاً غير مُعرَّفة، ويبنون سعادتهم على مستقبل لن يوجد أبداً، وإنَّها تُسمَّى مشكلة الشغف، التي قد تحوَّلت إلى وباء.

وسنناقش في هذا المقال مشكلة الشغف وتداعياتها، فضلاً عن الأمور التي يمكننا القيام بها للتغلب عليها، وفي النهاية، ينبغي أن تفهم لماذا لا يُعَدُّ السعي وراء شغفك استراتيجية جيدة إطلاقاً على الرغم ممَّا يقوله لك الناس.

تعريف مشكلة الشغف:

تكمن مشكلة الشغف في أنَّه لا يمكن تعريفه بسهولة، فإذا نظرت في القاموس فستجد أنَّ الشغف بسهولة عاطفة قوية بالكاد يمكن السيطرة عليها؛ إذ يجعل هذا الفهم الواسع فكرة الشغف مفتوحة للتفسير انفتاحاً كبيراً، إضافة إلى ذلك، يبدو أنَّ الشغف هو تطوُّر حديث لم يكن لأسلافنا أيُّ اهتمام سابق به، وتوجد مشكلتان في فكرة الشغف عموماً:

  1. لا يمكن تحديد أو تعريف الشغف بسهولة؛ وهذا ما يجعله هدفاً غير جيد.
  2. إنَّ البحث عن الشغف ظاهرة حديثة لم تكن مطلوبة من قبل لتحقيق السعادة.

لنلخِّص الأمر سريعاً بالقول إنَّ الشغف غير قابل للتعريف، وأنَّ معناه يتباين تبعاً لكل شخص، إضافة إلى أنَّه يُستعمَل لوصف فكرة معاصرة وغير تقليدية تتعلق بمفهوم السعادة؛ لذلك، عندما يتحدث الناس عن الشغف اليوم، فإنَّ ما يتحدثون عنه بالحقيقة هو سعيهم إلى إيجاد متعة دائمة.

غير أنَّ هذا الأمر يسبِّب عدم ترابط؛ إذ يعرف الشخص أنَّه ينبغي له الذهاب إلى مكان ما، لكنَّه لا يعرف الاتجاه الذي يجب أن يسلكه، أو الكيفية التي سيعلم من خلالها أنَّه وصل إلى وجهته، وهذا جزء من مشكلة الشغف، ناهيك عن دور المجتمع الذي يروِّج لأهداف غير قابلة للتعريف، ويعطي الناس أملاً كاذباً وإحساساً زائفاً بالتقدم إلى الأمام.

تُعَدُّ فكرة الشغف مشكلة ذات مستوى عالٍ؛ فإن نظرتَ إلى التسلسل الهرمي للاحتياجات الشخصية بحسب عالم النفس الأمريكي "أبراهام ماسلو" (Abraham Maslow)، فسترى أنَّ الحاجة إلى تحقيق الذات في أعلى مستويات الاحتياج؛ لذا يمكننا النظر إلى الشغف على أنَّه تحقيق للذات، فيما نجد أنَّ الاحتياجات التي تسبق هذه الحاجة هي أشياء مثل الطعام والمأوى والملابس.

من الواضح أنَّ تلك الاحتياجات التي تسبق تحقيق الذات هي أكثر أهمية؛ وهذا ما يجعلها احتياجات أساسية، ومع ذلك، فإنَّ الجزء الثاني الذي تتعلق به مشكلة الشغف، هو نظرتنا اليوم إلى تلك الاحتياجات على أنَّها ليست أساسية وأقل شأناً ومستوىً، في حين إن فكرنا في الأمر، فإنَّ أسلافنا لم يكن لديهم الوقت لتلبية أيٍّ من الاحتياجات الأهم كتحقيق الذات؛ وذلك لأنَّهم كانوا عوضاً عن ذلك، مشغولين للغاية بضمان تلبية احتياجاتهم الأساسية باستمرار؛ فماذا كانت النتائج؟ مجتمع بدوي صحي وسعيد، لكن بعد أن لبَّينا هذه الاحتياجات الأساسية من خلال الزراعة والصناعة، تغيَّرت مجتمعاتنا السعيدة؛ الأمر الذي أتاح لنا مزيداً من الوقت للتفكير في تحقيق الذات، على حساب جعلنا أقل سعادة نسبياً.

هذا بدوره يعني أنَّه عندما لا يستطيع معظمنا تعريف الشغف، فإنَّ من سيستفيد منه هو نسبة أقل، وهنا تكمن مشكلة الشغف؛ لذا من الهام أن نفهم كيف تغيَّرت فكرة الشغف مع مرور الوقت، كي نكون قادرين على التغلب عليها تغلباً كاملاً.

شاهد بالفديو: 8 أشياء يجب أن تقوم بها حتى تعيش شغف الحياة

ما الذي يعنيه الشغف في يومنا هذا؟

يُنظَر إلى الشغف اليوم على أنَّه تحقيق أعظم الأهداف؛ فإن سألتَ شخصاً ما عن أهم رغباته، فمن المرجَّح أن تكون الإجابة إيجاد شغفه، وهو ما يُعَدُّ منطقياً، فقد تعلَّمنا منذ الصغر أنَّ الهدف من الحياة هو البحث عن شغفنا؛ الهدف الذي يُعَدُّ في الحقيقة نوعاً من الإيثار، لكنَّه أناني بالقدر نفسه؛ ذلك لأنَّ فكرتنا عن الشغف تتعلق بالذات، ومحاولتك تحديد شغفك هي محاولتك معرفة ما سيجلب لك السعادة الدائمة. ومع ذلك، فإنَّ الشغف بالنسبة إلى بعض الناس يكمن في مساعدة الآخرين، وإذا كنت من بين هؤلاء الناس، فهنيئاً لك، أمَّا بالنظر إلى معناه المعاصر، فهو بالنسبة إلى معظمنا يكمن في الأشياء التي تفيدنا إفادة مباشرة.

قد تكون رغبتك أن تصبح موسيقياً مشهوراً لأنَّك تحب الموسيقا، لكنَّك قد تجد شغفك قد بدأ بالتلاشي في حال لم يربح أيُّ موسيقي بالتاريخ أكثر من 100 دولار في الأسبوع، فلا تسخر من الأمر أو تنزعج منه؛ وذلك لأنَّك تعلم في أعماقك أنَّ هذا صحيح.

فأن تكون شغوفاً يعني أن تكون أنانياً؛ إذ يختص تحقيق الذات - كما يقول تعريفها - بذات الشخص وليس ذوات الآخرين، مثلما لا يُشار إليها بالقول "تحقيق ذات الآخر"، لكن أن تكون شغوفاً، هو أمر بعيد المنال بالمعنى المعاصر؛ وذلك لأنَّ المشاعر القوية أو الخارجة عن السيطرة لا تدوم.

ومن الممكن أن يكون لديك ارتفاع في مستوى السعادة، لكن عندما يزول ذلك، ما الذي يبقى معك؟ إنَّ تحقيق الهدف أمرٌ جيدٌ بلحظة حدوثه، ولكن عندما تكون وحدك في غرفتك، ما الذي يهمك؟ فمن المرجَّح أنَّك لا تفكر في هذا الهدف حينها.

إقرأ أيضاً: ما مدى أهمية الشغف؟ وما علاقته بالثقافة؟

ما الذي كان يعنيه الشغف في الماضي؟

كانت الأمور مختلفة جداً في الماضي؛ إذ كانت الحياة صعبة قبل الثورة الزراعية بنحو 10 آلاف سنة، وكان على البشر أن يتَّحدوا معاً ليعيشوا، ولم يكن هناك متَّسع من الوقت للتفكير في تحقيق الذات؛ وذلك لأنَّ الجميع كانوا مشغولين بمحاولة البقاء على قيد الحياة، فماذا كانت النتائج؟ انصبَّ تركيز الأشخاص على تلبية الاحتياجات الأساسية، التي تشمل الطعام والماء والمأوى بحسب "ماسلو".

كيف فعل البشر هذا؟ من خلال الاعتماد على المجتمع، فنحن لم نكن لنتمكن من البقاء على قيد الحياة وحدنا في عصور ما قبل التاريخ؛ لذا كان علينا عوضاً عن ذلك، الاعتماد على بعضنا بعضاً. ونحن لم نكن قادرين على طلب البيتزا والجلوس للتفكير في جوهر واقعنا؛ فكان ينبغي لنا بدلاً من ذلك، أن نعمل ونبذل كثيراً من الجهود المنسَّقة لأيام عدة في الصيد والتجمع معاً في محاولةٍ لإطعام كل فرد في القبيلة.

ومن ثمَّ، لم يكن الشغف مشكلة، وربما كان شعور البشر الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ أسهل حيال ما نسمِّيه نحن البشر المعاصرون "الشغف"؛ إذ إنَّهم كانوا يختبرون الفرح الدائم من خلال مساعدة القبيلة، وهو أمر كانوا يفعلونه يومياً. لذلك، وبطريقة ما، اكتُسِب الشغف اكتساباً تقليدياً من خلال تلبية الاحتياجات الأساسية التي صنَّفها "ماسلو" بأنَّها ذات المستوى الأدنى، في وقت لم يحاول فيه البشر الأوائل العثور على شغفهم؛ وإنَّما كانوا يحاولون البقاء على قيد الحياة، وكانت قدرتهم على القيام بذلك تمثِّل شغفاً لهم بما فيه الكفاية؛ وهذا يعني أيضاً أنَّ الشغف في ذلك الوقت كان أكثر قابلية للتعريف؛ إذ يمكن قياس هدف "بقاء القبيلة" بدقة.

شاهد بالفديو: 14 نصيحة لتحويل شغفك إلى أفكار قابلة للتنفيذ

ما الذي ينبغي أن نفعله حيال مشكلة الشغف؟

في الواقع، قد يساهم الشغف الذي كنَّا نعرفه في الماضي في حل مشكلة الشغف بشكل أفضل بكثير من التعريف الذي تجده اليوم له، وإنَّ ظهور مشكلة الشغف بأكملها يعود حقيقةً للاختلاف فيما كان يعنيه الشغف من قبل وما يعنيه اليوم؛ لذلك، نحن نحتاج إلى العودة لجذورنا إذا ما أردنا التغلب على مشكلة الشغف.

ولنتذكَّر أنَّ مشكلتَي الشغف المعاصر تكمنان في أنَّه لا يمكن تعريفه وأنَّه أناني، وعلى العكس من ذلك، نرى أنَّ نقطتي القوة الرئيستين للشغف - تقليدياً وفي عصور ما قبل التاريخ - هما إمكانية تعريفه بسهولة وإيثاريَّته، فضلاً عن أنَّ هذا الشغف التقليدي لم يكن هدفاً للبشر في أثنائها؛ فكان بالأحرى نتيجة ثانوية لمحاولة البقاء على قيد الحياة.

لكنَّنا بالحقيقة، لسنا بحاجة إلى النجاة بعد الآن، على الأقل ليس إذا كنَّا نعيش في دولة غربية معاصرة، ومع ذلك، نحن مجبَرون على الشعور بهذه الحاجة إلى الشغف؛ وذلك لأنَّه لُبِّيَت اليوم جميع احتياجاتنا الدنيا؛ وهذا يجعلنا نركِّز على احتياجات المستويات العليا وحسب، لكن تكمن المشكلة في أنَّ هذه الحاجات غير محدَّدة وغير محقَّقة.

لذلك، ومن أجل التغلب على المشكلة المعاصرة للشغف، نحتاج إلى محاكاة الشغف بالمعنى التقليدي، وعوضاً عن محاولة العثور على شغفنا، نحتاج إلى وضع أهداف محدَّدة تساعد قبيلتنا أو مجتمعنا، كما أنَّنا بحاجة إلى التوقف عن النظر إلى تحقيق الذات على أنَّه الشيء الأكثر أهمية، والتركيز بدلاً من ذلك على المتعة المُستمدَّة من تلبية احتياجاتنا الدنيا.

إقرأ أيضاً: 7 علامات واضحة تساعدك على اكتشاف شغفك في الحياة

في الختام:

ليس الشغف بالأمر السيِّئ، لكنَّه سيكون هدفاً سيئاً ما دمتَ تُعرِّفه بالمعنى المعاصر، وعوضاً عن ذلك، أنت بحاجة إلى جعل شغفك قابلاً للتعريف وإيثارياً، في حال رغبت في السعي وراءه، عندها وحسب سوف يرضيك شغفك بالطريقة التي تتوقعها.

المصدر




مقالات مرتبطة