مدارس علم النفس

تتعدَّد مدارس علم النفس وتتنوَّع، ويرجع هذا لعدد كبير من الأسباب أهمها ارتباط علم النفس وتأثيره وتأثُّره بكافة النشاطات والمجالات المعرفية الأخرى، إضافة إلى كونه علماً حديث النشأة وشديد الأهمية بالنسبة إلى الإنسان على الصعيد الفردي والجماعي، وعلى عاتقه تقع مسؤولية تفسير الطبيعة الإنسانية، وأيضاً بسبب الحاجة الملحة إلى فصل علم النفس عن الفلسفة، ومحاولةً للتقدُّم في جميع فروعه وميادينه، واستجابةً للجهود الحثيثة التي يبذلها العلماء والمهتمون بالطبيعة النفسية.



مقالنا الآتي مخصص للتعرف باختصار إلى أهم مدارس علم النفس وميزاتها ومقدار مساهمة رواد كل مدرسة في تطوير علم النفس والنهوض به، فإذا كنت مهتماً بمعرفة مزيد من المعلومات عن مدارس علم النفس فتابع القراءة.

أهم مدارس علم النفس:

سنقوم فيما يأتي بالتعرف إلى خمس من أهم مدارس علم النفس وأكثرها تأثيراً في مسيرته:

1. المدرسة الربطية:

تعد هذه المدرسة من أقدم مدارس علم النفس، وقد أسسها بعض من الفلاسفة البريطانيين منهم "هوبز" و"لوك"، ثم طُورت هذه المدرسة في (أمريكا) وبعدها في (روسيا) على يد "بافلوف"، وبالأساس يمكن إرجاع فكرة المدرسة الربطية في علم النفس إلى (أرسطو) عندما تكلم عن الصلة بين الأشياء التي يدفع الحديث عن أحدها إلى تذكُّر الآخر، وليس بالضرورة أن تكون هذه الصلة صلة تشابه، فمن الممكن أن تكون صلة تضاد أو صلة اقتران، وقد أرجع الربطيون الصلة عموماً إلى قانون سموه (قانون الاقتران بالخبرة) ويعني الترابط.

فكرة الترابط بين الأشياء إذاً هي أساس المدرسة الربطية في علم النفس، وكانت هذه المدرسة رداً على نظرية الملكات النفسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، بِعَدِّ أنَّ الترابط هو العملية المعقدة الوحيدة التي تأتي بعد الإحساس، فقد رفض "هوبز" نظرية الملكات مؤكداً وجود عمليتين فقط لتحصيل المعرفة هما الإحساس أو التذكر (الاستدعاء) وبينهما الترابط المتحكم بالاستدعاء.

أما "جون لوك" فقد حاول إثبات أنَّ كل معارفنا مستقاة بالأصل من تجاربنا وخبراتنا الحسية ولا وجود لمبادئ كلية في العقل، وفيما يخص الناحية النفسية للمعرفة، فإنَّ تركيب الأفكار بشكل محدد يعود منطقياً لكونها نابعة من الأصل نفسه مع احتمال أن تسهم الصدفة في تركيبها، ويحدث نتيجة هذا ما يسمى (تداعي الأفكار) الذي يعد الإسهام الأكبر لـ "جون لوك" في المدرسة الربطية.

بعدها جاء "جورج باركلي" ليتكلم في معاني الكلمات ويحدِّثنا عن كيفية الحصول عليها من خلال ربطها بالأشياء التي تمثلها، وهو ما يحدث عند الربط بين الإشارات والرموز بما تدل عليه، وبهذا تكون جميع الإشارات والمعاني مرتبطة فيما بينها، إذ تأخذ الإشارة دور المثير والمعنى دور الاستجابة.

لم تتوقف هنا المدرسة الربطية، وقد ساهم الكثير من العلماء في تطويرها مثل "ديفيد هيوم" الذي أكد على مبدأ الرابط الذي يشكل قوة تجاذب بين الأفكار، وقد ساهم في السياق نفسه "ديفيد هارتلي" مؤلف كتاب (ملاحظات عن الإنسان)، أما "ثورندايك" صاحب قانون الأثر؛ القانون الأشهر في تفسير عملية التعلم في المدرسة الربطية قال إنَّ الميل لتكرار الاستجابة أو حذفها أو الإبقاء عليها مرتبط بنتائجها؛ فمثلاً إذا قمنا بفعل ما سبَّب رضى أو راحة أو سعادة، يصبح هذا الفعل قابلاً للتكرار أكثر في موقف مشابه، وخلاف ذلك صحيح.

لقد أعطى "ثورندايك" الثواب أهمية أكبر من العقاب في إحداث الاستجابة المرغوب بها عند انتقاله لتفسير التعليم عند الإنسان، وبناءً على هذا فقد عرف النفس البشرية بقوله: "إنَّ تعريفاً أو وصفاً أو تعريفاً بسيطاً للنفس البشرية هو كونها نظاماً ربطياً يكيف الاستجابات الفكرية والانفعالية التي يقوم بها مع الأوضاع التي يصادفها".

لا بد من الإشارة إلى أنَّ بعض مؤرخي علم النفس يصنفون كلاً من "بافلوف" و"ثورندايك" على أنَّهما من أتباع المدرسة السلوكية، وفي مقالنا هذا اعتمدنا تصنيف الدكتور "فاخر عاقل" الذي صنفهما من أتباع المدرسة الربطية وقد جارى بذلك كثيراً من المؤرخين الغربيين.

في نهاية الحديث عن المدرسة الربطية أقدم مدارس علم النفس لا بد من التأكيد على أهمية هذه المدرسة ودورها الكبير في تطوير أبحاث علم النفس، وخاصة فيما يتعلق بعمليتي التذكر والتعلم.

إقرأ أيضاً: النمو النفسي الاجتماعي لشخصية الإنسان: مراحل إريكسون

2. مدرسة التحليل النفسي:

قبل الحديث عن هذه المدرسة التي تعد من أشهر وأهم مدارس علم النفس لا بد من التذكير أنَّ هذه المدرسة قد نشأت في ميدان التطبيقات الطبية والعصبية بدايةً؛ ونتيجةً للارتباط الكبير بين النفس والجسد فقد قدمت هذه المدرسة خدمات كبيرة في مجال فهم الشخصية بجوانبها المختلفة، ومن الجدير بالذكر أنَّ تأثير هذه المدرسة لم يتوقف عند علم النفس؛ بل امتد هذا التأثير ليصل إلى الأدب والطب والتربية والاجتماع.

ظهرت مدرسة التحليل النفسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويعود الفضل في ظهورها إلى مجموعة من الأطباء العصبيين الذين رفضوا إرجاع الأمراض العصبية فقط إلى الجسد والمشكلات العضوية، وأشاروا إلى الأهمية الكبيرة للجانب النفسي، وقد دعموا آراءهم هذه من خلال كثير من الأمثلة عن أشخاص مضطربين وغير أسوياء على الرغم من عدم وجود آفات دماغية لديهم، وأرجعوا سبب مرضهم هذا إلى حياتهم النفسية.

الطبيب العصبي النمساوي "سيجموند فرويد" هو مؤسس مدرسة التحليل النفسي وقد سافر إلى (فرنسا) ليتتلمذ على يد الطبيب العصبي الفرنسي "شاركو" الذي تحدَّث كثيراً بشأن الحياة النفسية للمريض، وهذا حقيقة ما أغرى "فرويد"، وقد كان لملاحظات "شاركو" الأثر الكبير في دراسات "فرويد" ونتائج تحليلاته فيما بعد، وقد أضاف "فرويد" كثيراً لعلم النفس كاللاشعور والكبت وغريزتي الحياة والموت والليبيدو.

الحقيقة أنَّ الحديث عن مدرسة التحليل النفسي يحتاج إلى كثيرٍ من الصفحات، وقد قدمنا فيما سبق تعريفاً مبسطاً جداً لهذه المدرسة التي واجهت على الرغم من شهرتها الكبيرة كثيراً من الانتقادات، فقد عَدَّ بعضهم آراء "فرويد" وفرضياته مجموعة من المبالغات التي لا تستند إلى أساس علمي، وقد هاجموا "فرويد" وقالوا إنَّه مولع بالأمور الغامضة وإنَّه أشبه بالمتنبئ وليس بالباحث.

شاهد بالفيديو: 12 قانون في علم النفس إذا فهمتها ستُغيّر حياتك

3. المدرسة القصدية:

الفكرة الأساسية بشكل مبسط في هذه المدرسة هي أنَّ كل سلوك بشري يحدث لهدف وله معنى سواء تم إعلان هذا الهدف أم التكتم عليه، فالمسألة في علم النفس ليست مسألة الهدف بحد ذاته؛ بل الموقف من هذا القصد، فالقصدية تعني "أولوية التوجه نحو شيء ما (الهدف) والبحث عنه لا أولوية التنبؤ به".

المدرسة القصدية هي المدرسة التي جعلت من القصد مركزاً لكامل نظامها السيكولوجي، وأبرز ممثلي هذه المدرسة هو "ويليام ماكدوجال" الذي كانت له تحفظاته على الصيغة العقلية وحيدة الجانب التي كانت سائدة في علم النفس آنذاك، وقد رفض أيضاً عَدَّ التأمل الباطني الطريقة الوحيدة لدراسة موضوعات علم النفس، فالانفعالات والدوافع تشكل جزءاً كبيراً من حياتنا النفسية والتأمل الباطني لن ينجح في الوصول إليها.

لقد حاول "ماكدوجال" جاهداً وضع القواعد النفسية لدوافع السلوك الإنساني، ورأى أنَّ دوافع الإنسان الأولى هي غرائزه المتعددة، وقد أكد على أنَّ الغريزة ليست فقط مجرد عمل حسي حركي آلي؛ بل إنَّها حركية وعقلية في الوقت نفسه، فمثلاً انفعال الخوف يترافق مع نزوع غريزي للهروب من الخطر؛ أي إنَّ الغريزة لا تقتصر على مجرد تلقي الأثر الناتج عن المؤثر؛ بل تتجاوزه لمحاولة فهمه.

لقد أكد "ماكدوجال" على أنَّ الغرائز الأساسية تؤدي دوراً هاماً في سلوك الإنسان وحياته الاجتماعية، وهي منبع لكل الدوافع الابتدائية التي تظهر في الأوساط الاجتماعية له كالأسرة، كما أنَّها السبب وراء نشوء الحروب واتباع الأديان وكل مظاهر النشاطات الاجتماعية؛ وذلك لاعتقاده بأنَّ الفرد لا يكتسب غرائزه اكتساباً؛ بل يرثها وراثة.

جملة القول عند أبناء المدرسة القصدية، إنَّ السلوك البشري حين يُنظر إليه نظرة موضوعية يظهر وكأنَّه بحث عن هدف ما، فلا بد للبحث عن هدف من الدوافع، والدوافع البدائية كما ذكرنا هي الغرائز، وعلى الرغم من حديث "ماكدوجال" الدائم عن وراثة هذه الغرائز، إلا أنَّه لم يقلل أيضاً من شأن العلم والخبرة، وقد قدَّم وأنصاره كثيراً من الجهد لتبيان المنابع الغريزية الممكنة لعواطف الراشدين المعقدة وأوضاعها.

4. المدرسة السلوكية:

يوجد العديد من الأسباب وراء ظهور المدرسة السلوكية، ويمكن أن نقسم هذه الأسباب إلى أسباب مهيئة وأخرى مثيرة؛ إذ تتمثل الأسباب المهيئة في محاولات العديد من علماء النفس لاعتماد طرائق موضوعية عند دراسة السلوك، مقلدين بذلك العلوم الطبيعية في دراسة ظواهرها، ومثال عن ذلك يمكن ذكر علم نفس الحيوان.

ترجع الأسباب المثيرة إلى الوضع الغامض والنتائج غير الموضوعية لعلم النفس في تلك الفترة، ويعد العالِم الأمريكي "واطسون" مؤسس المدرسة السلوكية، وقد أحدثت آراؤه التي نادت بضرورة الاقتصار على السلوك الظاهري وضرورة دراسته بالملاحظة والتجريب ثورة جديدة في مجال علم النفس.

رفض "واطسون" الأخذ بالمنهج الاستبطاني والاعتراف بالغرائز بوصفها أساساً للسلوك، كما رفض أيضاً كل ما قيل عن الاستعدادات الموروثة وركز كل اهتمامه على دراسة المؤثرات البيئية التي يرى أنَّها تتدخل في كل شيء وتؤثر فيه، ووصل الأمر به لأن يقول: "أعطوني عشرة أطفال أصماء، لأختار أحدهم عشوائياً وأصنع منه ما أريد؛ طبيباً، لصاً، وغير ذلك".

شاهد بالفيديو: 5 طرق للوصول إلى أفضل طبيب نفسي مناسب لشخصيتك

5. المدرسة الشكلية أو مدرسة الجشتالت:

المدرسة الأخيرة من مدارس علم النفس والتي سنتطرق لها في مقالنا هي المدرسية الشكلية التي ظهرت في (ألمانيا)، وباختصار يمكننا القول إنَّ مبدأ هذه المدرسة يقوم على مبدأ أساسي في الإدراك الحسي، وهو أنَّ أي مدرك حسي ليس فقط مجموعة العناصر التي يتكون منها هذا المدرك؛ إنَّما هو الشكل والبناء العام له.

على سبيل المثال وجه الإنسان ليس فقط أنفاً وفماً وعيوناً؛ بل هو أيضاً العلاقات العامة بين هذه الأجزاء، وهذه العلاقة العامة بين الأجزاء هي الناحية الشكلية التي تدرك أولاً عند الشكليين.

قدمت المدرسة الشكلية كثيراً لعلم النفس، وقد كان لآرائها أهمية بالغة في مختلف مجالاته، فقد أثَّرت في علم النفس الاجتماعي الذي أصبح بفضلها يرى أنَّ الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها يشكلان كلاً واحداً متفاعلاً ومتكاملاً، كما أثَّرت أيضاً في دراسة الشخصية التي أصبحت لا تُدرس إلا ضمن الإطار الثقافي والحضاري للبيئة التي تنتمي إليها.

أيضاً في التعليم والنظريات التربوية، فبفضل هذه المدرسة ظهرت فكرة الوحدات في المناهج والطريقة الكلية في التعليم، ومن أبرز إسهامات هذه المدرسة أيضاً كان في مجال قوانين تنظيم الإدراك الحسي كما سمَّاه علماؤها.

إقرأ أيضاً: ما هو تأثير الورد على الصحة النفسية؟

في الختام:

يقول "وودورث" وهو أحد علماء النفس في كتابه (مدارس علم النفس المعاصرة): "لو سألني سائل عن المدرسة التي يجب أن يختارها لنصحته بالبقاء في الوسط، ولست أعني أنَّ المدارس لا قيمة لها؛ إذ إنَّ كلاً منها تشدد في قيمة شيء له قيمته، وكل واحدة منها بسبب المقاومة التي تلقتها من بقية علماء النفس تبذل أقصى جهدها في إظهار قيمة ما تهتم به وتَعُدُّه مركز الدراسات النفسية".

لقد وجدنا في هذا القول خير ما نختم به مقالنا عن مدارس علم النفس، فقد أثبت علماء الطريق الوسط أنَّه يجب المضي قدماً والاستفادة من أفكار كل مدرسة بعد أن أزاحوا جانباً مبالغات كل مدرسة، وهذا ما رجع بالفائدة العظيمة على علم النفس المعاصر.




مقالات مرتبطة