ما هي متلازمة التحذلق اللغوي؟ وما مدى منطقيتها؟

"تُكَتب همزة القراءة على السطر وليس على نبرة"، "التاء في فعل "اصطدمت" مبسوطة وليست مربوطة"، "ألا تعرف أنَّ الجمع من كلمة سؤال هو أسئلة وليس سؤالات"، ما كل هذا الاستهتار في الكتابة، أكاد أجن من فرط الأخطاء اللغوية والنحوية التي اكتشفتها في الرسالة المرسلة من قبلك، فلم أعد أهتم إلى مقدار المشاعر الصادقة الحافلة في الرسالة؛ بل بات تركيزي موجهاً إلى حجم الأخطاء النحوية الفادحة في كلماتها.



لقد استمعنا إلى هذه الجمل من قِبل كثيرٍ من الأشخاص، واعتقدنا أنَّ مَن يقولها شخص يبالغ في ردود أفعاله إلى حد الجنون والهوس، ولقد نظرنا إلى هذا الشخص نظرات غريبة، متفاجئين ممَّا يقول، واصفين إيَّاه بمريض متلازمة التحذلق اللغوي.

متلازمة التحذلق اللغوي؛ ما تعريفها، وعلاجها؟ هذا ما سنعرفه من خلال هذا المقال.

ما هي متلازمة التحذلق اللغوي؟

هي مشاعر من القلق والغضب والانفعال الشديد، التي يشعر بها الشخص في حال ورود أخطاء إملائية أو نحوية من قِبل الطرف الآخر، بحيث لا يستطيع هذا الشخص تجاهُل الأخطاء مطلقاً؛ الأمر الذي يؤثِّر في علاقاته الاجتماعية، بحيث يميل إلى العزلة والانطواء؛ وذلك لأنَّ احتكاكه بالناس قد يسبب كثيراً من الخلافات التي هو بغنى عنها.

صنَّفت بعض الدارسات هذه المتلازمة على أنَّها نوع من اضطراب الوسواس القهري، الذي يشعر فيه الإنسان بحاجة ملحة وضرورية إلى وجود الشيء ضمن ترتيب معيَّن ومنظَّم، بحيث يخسر سلامه الداخلي في حال تغيير الترتيب أو التنظيم عن المعتاد عليه، وتجده يميل إلى تصحيحه مهما كلَّف الأمر.

وهناك بعض الأشخاص ممَّن عدُّوا هذا الأمر لا يتعدَّى ممارسات فردية ومحاولات للتنمُّر على الأشخاص الآخرين، ورغبة في إظهار التفوق والتميُّز عليهم.

إقرأ أيضاً: الشخصية القهرية أو اضطراب الوسواس القهري (OCD): أسبابه، وطرق علاجه

هل لِمتلازمة التحذلق اللغوي علاقة بالسن أو الجنس أو الوضع التعليمي؟

يتبادر إلى ذهنك، لمجرد سماع متلازمة التحذلق اللغوي، أنَّ هذه المتلازمة خاصة بأولئك الأذكياء جداً، وصاحبي المستوى التعليمي العالي، وأنَّها تزداد لدى الفئة الناضجة أكثر من الفئة الصغيرة، ومن المرجح وجودها بنسبة أكبر لدى النساء من الرجال، ولكن أثبتت الدراسات التي أُجريت في عام 2016 أنَّه لا علاقة لهذه المتلازمة بالسن أو الجنس أو الوضع التعليمي، وأنَّ ردود أفعال الناس متباينة من حيث استجابتهم للأخطاء الإملائية والنحوية.

الانعزال ومتلازمة التحذلق اللغوي:

في بحث أجراه "ديفيد شارياتماداري" (David Shariatmadari)، في عام 2017 مع جريدة غارديان، في لقاء له مع طبيبة في الكيمياء الحيوية واختصاصية في العلاقات الكيميائية مع علم اللغات في جامعة فيرجينيا؛ حيث وجَّهَت دراستها في عام 2016 لمصلحة بحثها عن العلاقة بين الأشخاص المصابين بالانعزال والخجل مع الاستيعاب اللغوي، لتصل نتيجة أبحاثها إلى أنَّ المنعزلين وحسب هم مَن يلجؤون إلى هكذا تصرُّف؛ أي تصحيح أيِّ خطأ وعدم السماح للأمر بأن يمرَّ بسلام وأمان، وقالت إنَّ هذا الإنسان يشعر أنَّ الخطأ النحوي أو الإملائي مزعج جداً، ولا يمكنه التغاضي عنه على الرغم من صغره أو مدى تفاهته.

ومع ذلك، لا تزال حالة متلازمة التحذلق اللغوي غير مسجَّلة في دليل الاضطرابات النفسية، وغير معترف بها قانونياً، على الرغم من أنَّ هناك نسبة لا بأس بها من الأشخاص ممَّن لا يستطيعون التسامح عن أي خطأ لغوي، ويشعرون بالضيق والانزعاج الشديد لدى حدوث أخطاء كهذه.

إقرأ أيضاً: أهم النصائح لتكون شخصًا اجتماعيًا وتتخلَّص من الخجل

ما مدى منطقية متلازمة التحذلق اللغوي؟

فكِّر في ذلك المهندس الذي يدقق في التفاصيل الإنشائية والمعمارية، والراغب في تسليم كل الأعمال بطريقة مثالية وكمالية؛ هل من المنطقي أن نقول عنه إنَّه مصابٌ بمتلازمة التحذلق الهندسي؟ أو فكِّر في الطبيب، أو غيرهم من أصحاب المهن؛ لذلك يبدو من المجحف أن نصف كل مَن يصحح الأخطاء اللغوية والإملائية بأنَّه مصاب بمتلازمة التحذلق اللغوي؛ إذ قد يكون هناك الكثير من الأخطاء الفادحة التي تستدعي تدخُّل الشخص وتصحيحها.

من جهة أخرى، قد يشعر الشخص بالغيرة على لغته العربية، ويتفاجأ بكمِّ التغيير الحاصل فيها بعد ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ بات الإنسان العادي يميل إلى اللغة العامية في كثيرٍ من المناسبات، والتي تستدعي إلقاء لغة فصحى متماسكة ومعبِّرة، كما يُبدي الكثيرون عدم اكتراثهم لحجم الأخطاء الإملائية والنحوية التي يرتكبونها.

في الحقيقة، من أساسيات الحديث الجذاب، مقدرة الإنسان على صياغة جمل سليمة لغوياً ونحوياً، فلماذا إذاً نُضخِّم المسألة، وننعت مَن يحاول تصحيح الأخطاء وإجراء حديث أو مقالة رائعة ومناسبة بأنَّه مريض ومصاب بمتلازمة التحذلق اللغوي؟

هناك أخطاء قاتلة بالفعل، وتستحق التدخل وتصحيحها، غير أنَّه في المقابل، هناك أخطاء بسيطة وصغيرة جداً يمكنك تجاهلها، فالحياة لا تستحق كل كمِّ الاستفزاز الذي تشعر به في أثناء سماعك للأخطاء، فما الأهم برأيك: صحتك أم تصحيحك لأخطاء صغيرة لا تكاد تُذكَر؟ فكِّر في الموضوع، هل ستكون نهاية العالم في حال قام شخص ما بخطأ لغوي صغير؟ هل يتزعزع توازن الكون في حال أخطأ شخص ما، وكتب "أربد" بدلاً من "أريد" بسبب السرعة في أثناء الكتابة؟

بينما يتعامل بعضهم مع متلازمة التحذلق اللغوي على أنَّها نمط من أنماط الوسواس القهري، ويصف لها الأدوية الطبية التي تُعطى إلى مرضى الوسواس، فإنَّ بعضهم الآخر يقول إنَّها حالة خاصة بالأشخاص الانطوائيين؛ ليبقى هذا الموضوع غير موثَّق علمياً توثيقاً نهائياً.

الخلاصة:

نعتقد أنَّه من المجحف بحق الشخص الساعي إلى تكوين جمل منظمة وصحيحة لغوياً ونحوياً وصفه بالمريض والمتحذلق اللغوي، فبدلاً من السعي إلى الفخر بهؤلاء الغيورين على اللغة العربية، والساعين للمحافظة على رونقها وتميُّزها؛ يميل الجميع إلى التساهل المؤذي للغة، وإلى الاختصارات والأخطاء التي تطعن في اللغة وجمالها، إلى أن تصبح اللغة يتيمة من أبنائها، ووحيدة من دون حفيظ أو رقيب.

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة