ما هو التفسير العلمي لنشوة العداء وما هي فوائدها؟

غالباً ما تُستخدَم نشوة العدَّاء كحافز لإقناع المترددين بأن يمارسوا رياضة الجري، وتوصف بعبارات قد تبدو أحياناً خيالية، في عام 1855، وصف الفيلسوف الاسكتلندي "ألكسندر باين" (Alexander Bain) متعة المشي السريع أو الجري على أنَّها: "نوع من النشوة الحركية" التي ينتج عنها بهجة كبيرة، بينما يشبهها آخرون بتجربة روحية.



إذ يصف الأستاذ "دان ستيرن" (Dan Sturn) في كتاب "نشوة العدَّاء" (The Runner’s High) كيف تنهمر الدموع من عينيه خلال جري الميل السابع من الهرولة الصباحية: "كنتُ أقترب أكثر فأكثر من المكان الذي يحاول رجال الدِّين وصفه، وأصبحَت كلُّ لحظةٍ ثمينةً، فشعرتُ بأنَّني وحدي تماماً وأنَّني على اتصال مع الكون في الوقت نفسه".

لا يقتصر هذا التأثير الجانبي على الجري؛ إذ يمكن الوصول إلى المتعة بعد ممارسة أي نشاط بدني بشكل متواصل، سواء كان ذلك المشي لمسافات طويلة أم السباحة أم ركوب الدراجات أم الرقص أم اليوغا، لكنَّك لن تشعر بالنشوة إلا بعد بذل جهد كبير؛ إذ يبدو أنَّها طريقة الدماغ في مكافأتك على العمل الجاد.

تقدِّم أحدث نظرية عن نشوة العدَّاء تفسيراً لهذه المكافأة: قدرتنا على الشعور بنشوة العدَّاء مرتبطة بحياة أسلافنا الأوائل في الصيد والجمع والالتقاط، ووضع باحثون مثل عالِم الأحياء "دينيس برامبل" (Dennis Bramble) والعالِم بشؤون الإنسان القديم "دانيال ليبرمان" (Daniel Lieberman) نظريةً تقول: "إنَّ الحالة الكيميائية العصبية التي تجعل الجري نشاطاً ممتعاً ربما كانت في الأصل مكافأةً لتشجيع البشر الأوائل على الصيد والجمع".

كان عالِم الأنثروبولوجيا "ديفيد رايشلين" (David Raichlen) في "جامعة جنوب كاليفورنيا" (University of Southern California)، يعلم أنَّ الانتقاء الطبيعي يفضل السمات التي تسمح للبشر بالركض، وساعده عمله في كلية الدراسات العليا على وضع تلك النظرية، لكن كان ينقصه العثور على الدافع.

على سبيل المثال: إنَّ امتلاك الهيكل العظمي الذي يجعل الجري أسهل لا يكفي لجعل الإنسان رياضياً؛ أي يجب أن يكون هناك حافز شجَّع البشر الأوائل على بذل كل ذلك الجهد، خاصةً أنَّ البشر يفضِّلون الحفاظ على الطاقة، ومن الخطر صرف كل تلك السعرات الحرارية للسفر طوال اليوم؛ لذا ليكون الإنسان مستعداً لاستهلاك احتياطاته من الطاقة يجب أن يكون هناك أمل في الحصول على مكافأة كبيرة.

إقرأ أيضاً: نظرية الدافع وأمثلة عنها

وهنا بدأ "رايشلين"، وهو نفسه عداء هاوٍ، بالتفكير في نشوة العدَّاء، فربما شعر البشر الأوائل بالنشوة عندما ركضوا كي لا يجوعوا، لكن في هذه الحالة يجب أن تؤدي مثل هذه المكافأة العصبية وظيفتين: تخفيف الألم وإثارة المتعة.

تكهَّن العلماء بأنَّ هرمون "الإندورفين" (endorphins) هو سبب نشوة العدَّاء؛ إذ تشير الدراسات إلى أنَّ التمرينات المكثفة تسبب إفراز الإندورفين، لكنَّ "رايشلين" كان يفكر في سبب آخر، إنَّه فئة من المواد الكيميائية في الدماغ تسمى "الكانابينويدات" (endocannabinoids) ويحتوي القنب على مواد شبيهة بها.

تخفف "الكانابينويدات" الألم وتحسِّن الحالة المزاجية، وتلك هي المواصفات التي كان "رايشلين" يبحث عنها في مكافأة العمل البدني، كما تتوافق العديد من آثار تعاطي القنب مع أوصاف النشوة التي تتبع ممارسة الرياضة، بما في ذلك زوال القلق أو التوتر وتقليل الألم وتباطؤ الوقت وزيادة حدة الحواس.

لمَّح بحث سابق إلى أنَّ التمرين قد يؤدي إلى إفراز هذه المواد الكيميائية في الجسم، لكن لم يوثقها أحد على الإطلاق في أثناء الجري؛ لذلك أجرى "رايشلين" تجربةً طلب فيها من العدائين الجري على آلة المشي بسرعات متفاوتة، وسحب منهم الدم قبل وبعد كل تمرين لقياس مستويات "الكانابينويدات" في دمهم، ووجد أنَّ المشي ببطء لمدة 30 دقيقة لم يكن له أي تأثير، ولا الجري بأقصى سرعة ممكنة، لكنَّ الهرولة ضاعفت مستويات "الكانابينويدات" بثلاث مرات لدى العدائين، وكان هذا الارتفاع مرتبطاً بقول العدائين إنَّهم شعروا بنشوة العدَّاء.

كان حدس "رايشلين" صحيحاً: نشوة العدَّاء ناتجة عن تأثير مواد كيميائية، ويعتقد "رايشلين" أنَّ سبب إحداث الهرولة تحديداً لهذا التأثير وليس المشي ببطء أو الجري بوتيرة مرهقة هو أنَّ أدمغتنا تكافئنا على ممارسة الرياضة بقوة مماثلة لتلك التي بذلناها في الصيد والبحث عن الطعام قبل مليوني سنة.

إذا كان هذا صحيحاً، فيجب أن يكافئ الانتقاء الطبيعي الحيوانات الأخرى التي تصطاد أو تجمع بطرائق مماثلة، على سبيل المثال: خُلِقَت الحيوانات المفترسة لمطاردة الفريسة لمسافات طويلة؛ لهذا أجرى "رايشلين" تجربة على الكلاب الأليفة؛ حيث جعلها تمشي على جهاز المشي أيضاً لمعرفة ما إذا كانت تتأثر كما البشر، واستخدم القوارض البرية كمجموعة مقارنة، وهي حيوانات ليلية تصطاد الثدييات النائمة والضفادع وبيض الطيور وأشياء أخرى لا تحتاج إلى مطاردتها.

ليس هناك مبرر من وجهة نظر الانتقاء الطبيعي لمكافأة القوارض على بذل الجهد البدني، وثبتت صحة ذلك، فبعد 30 دقيقة من الركض، ازدادت مستويات "الكانابينويدات" في دم الكلاب، بينما لم يحصل ذلك مع القوارض؛ مما يعني أنَّ سر الوصول إلى نشوة العدَّاء ليس سرعة الركض؛ بل وتيرته المعتدلة الثابتة، ووجد العلماء زيادة مماثلة في "الكانابينويدات" عند ركوب الدراجات والمشي على جهاز المشي والمشي لمسافات طويلة في الهواء الطلق؛ لذا إذا كنت تريد الشعور بنشوة العدَّاء، ما عليك سوى بذل الوقت والجهد.

إقرأ أيضاً: كيف يؤثر الخمول البدني في مستويات طاقتك؟

لا يوجد معدل معين للأداء يجب عليك بلوغه، ولا توجد سرعة أو مسافة يجب أن تحققها وتحدد ما إذا كنت ستشعر بالنشوة بعد التمرين، يجب عليك فقط أن تمارس تمريناً صعباً إلى حد ما بالنسبة إليك وتلتزم به لمدة 20 دقيقة على الأقل.

المثابرة هي مفتاح الشعور بالنشوة في أثناء التمرين، ولكن ربما لا تكون هذه هي أفضل طريقة للتفكير في الأمر، فنحن لا نثابر حتى نحصل على مكافأة كيميائية عصبية؛ بل النشوة جزء من تركيبتنا الجسدية كي نتمكَّن من المثابرة؛ بمعنى أنَّ الانتقاء الطبيعي منحنا وسيلة لمطاردة فرائسنا والاستمرار بذلك حتى عندما يكون صعباً.

تُعَدُّ المثابرة جزءاً من متعة التمرين بالنسبة إلى الكثيرين، وربما هذا هو التأثير الجانبي الأقل ذكراً، ولكن ربما الأكثر ديمومة لنشوة المثابرة: يمكنك الشعور بنفسك كشخص يثابر بإصرار حتى حين يواجه صعوبة.

يصف علماء الأعصاب "الكانابينويدات" بأنَّها المادة الكيميائية التي تقول لنا بشكل أو بآخر: "لا تقلق، كن سعيداً"، فمناطق الدماغ التي تنظم الاستجابة للتوتر، مثل اللوزة والقشرة قبل الجبهية، غنية بمستقبلات "الكانابينويدات"، وعندما تتلقى هذه المستقبلات جزيئات "الكانابينويدات"، فإنَّها تخفف من القلق وتبعث حالة من الرضا، وترفع "الكانابينويدات" أيضاً من مستوى الدوبامين في نظام المكافأة في الدماغ؛ مما يزيد الشعور بالتفاؤل.

يبدو أيضاً أنَّ كيمياء نشوة العدَّاء تهيئنا للتواصل، في دراسة أُجرِيَت عام 2017 عن كيفية عمل نظام "الكانابينويدات" في الدماغ، فحدد العلماء ثلاثة أمور أساسية تزيد إفراز "الكانابينويدات" بالتأكيد وهي: شرب القنب، والتمرينات الرياضية، والتواصل الاجتماعي، وأكثر ثلاث حالات نفسية مرتبطة بالمستويات المنخفضة من "الكانابينويدات" هي خلال الإقلاع عن القنب والشعور بالوحدة والقلق.

إضافة إلى مشاعر السعادة وزوال القلق التي تحفزها "الكانابينويدات"، هي مرتبطة أيضاً بالشعور بالقرب من الآخرين؛ إذ تزيد المستويات الأعلى منه من المتعة التي تشعر بها عند تكون موجوداً مع أشخاص آخرين، كما أنَّها تقلل من القلق الاجتماعي الذي يمكن أن يعوق التواصل، لدرجة أنَّ إعطاء الفئران حاصرات "الكانابينويدات" يقلل اهتمامها بالتواصل الاجتماعي مع الفئران الأخرى، ويدفع الأمهات الجديدات إلى إهمال صغارهن.

نشوة العدَّاء لها الأثر المعاكس، فهي تساعدنا على التواصل؛ إذ يستخدم الكثير من الناس الجري كفرصة للتواصل مع أصدقائهم أو أحبائهم، ويعتمد آخرون على التمرين اليومي ليكونوا أكثر اهتماماً بعائلاتهم أو شركائهم، كما يقول أحد العدائين: "تشجعني عائلتي أحياناً على الخروج في جولة ركض؛ وذلك لأنَّهم يعلمون أنَّني سأكون شخصاً أفضل بكثير حين أعود".

وجدت إحدى الدراسات أنَّه في الأيام التي يمارس فيها الناس الرياضة، تكون تفاعلاتهم أكثر إيجابية مع الأصدقاء والعائلة، وعندما يمارس الزوجان التمرينات معاً، يشعران بالمزيد من التقارب في وقت لاحق من ذلك اليوم وبالحب والدعم من الآخر وتجاهه.

وفقاً لعالِم الأنثروبولوجيا "هيرمان بونتزر" (Herman Pontzer) عند التفكير في كيفية تكيُّف البشر الأوائل مع تقلبات الحياة ستدرك أنَّ الجري ليس العامل الوحيد الذي ساعدهم على البقاء على قيد الحياة، وقال: "إذا كان عليك اختيار سلوك واحد يمثل بداية مرحلة الصيد والتجمع، وكان له أكبر تأثير، فهو المشاركة".

يتطلب الصيد والجمع تقسيم العمل؛ حيث يخرج بعض أعضاء المجموعة للصيد، بينما يجمع بعضهم الآخر النباتات، قال "بونتزر": "يجتمع هؤلاء معاً في نهاية اليوم، ويتشاركون ثمار جهودهم، وهكذا يكون لدى الجميع ما يكفي من الطعام"، فكان احتمال بقاء المجموعات على قيد الحياة مرتبطاً بكم كانت تجيد المشاركة، وهكذا بدأ الانتقاء الطبيعي في تفضيل ليس فقط السمات التي تعزز التحمل البدني، مثل عظام الساق الطويلة، ولكن أيضاً السمات التي تشجع التعاون داخل المجموعة.

تجعل نشوة العدَّاء مشاركة الغنائم مع قبيلتك مجزياً أكثر من خلال تهيئتك للتواصل، وتشير تجربة في "جامعة سابينزا في روما" (Sapienza University of Rome) إلى أنَّه يمكن أن يكون للنشاط البدني هذا التأثير؛ حيث لعب المشاركون في التجربة لعبة اقتصادية تتطلب المساهمة بالمال في المجتمع، وكلما زاد حجم مساهمتهم، زادت استفادة جميع الأطراف، ووجد الباحثون أنَّ المشاركين ساهموا أكثر حين مارسوا الرياضة لمدة 30 دقيقة قبل أن يلعبوا مقارنةً مع ما فعلوه حين لعبوا دون ممارسة الرياضة أولاً.

سواء كنتَ تطارد فريسة، أم تدفع عربة طفلك إلى أعلى التل، أم تساعد أحد الجيران، يمكننا أن نشعر بالسعادة في أثناء بذل هذا الجهد، وكلما كنت نشطاً بدنياً أكثر، زادت المكافأة التي تشعر بها.

إحدى الطرائق التي تغير بها التمرينات المنتظمة دماغك هي زيادة كثافة مواقع ارتباط "الكانابينويدات"؛ إذ يصبح دماغك أكثر حساسية لأيَّة متعة تنشط نظام "الكانابينويدات"، فيمكن أن تشعر بفرح أكبر، وهذا يشمل نشوة العدَّاء والملذات الاجتماعية، مثل المشاركة والتعاون واللعب وتكوين العلاقات، وبهذه الطريقة، قد تُسهِّل التمرينات المنتظمة من الشعور بالارتباط بالآخرين؛ مما يفتح المجال للمزيد من مشاعر القرب والرفقة والانتماء، سواء مع العائلة أم الأصدقاء أم الغرباء.

للوهلة الأولى، يبدو أنَّ نشوة العدَّاء ليست حلاً معقولاً للعزلة الاجتماعية، لكنَّ المكافأة العصبية الحيوية هذه، والتي أنقذَت أسلافنا من الجوع قد تنقذنا الآن من مشكلة حديثة أكثر إلحاحاً، هي الوحدة.

المصدر




مقالات مرتبطة