ما هو الاقتصاد السلوكي وما هي تطبيقاته؟

عندما تُدمج عناصر من الاقتصاد مع عناصر من علم النفس ينشأ مصطلح جديد يُسمى الاقتصاد السلوكي، الذي يهدف أساساً إلى فهم سلوك الناس على أرض الواقع، وليس السلوك نظرياً.



إذا سألت مجموعة من الناس: "هل تحبون تناول وجبة مكونة من البيض والبندورة؟" ستكون إجابة الأغلبية بالنفي، لكن إن غيَّرت الاسم قليلاً، وقلت لهم من يحب تناول الأومليت ستجد أنَّ الإجابات تغيرت، وأيضاً كما يقول صاحب أحد المطاعم الناس يدفعون أكثر لقاء الأسماء الرنانة، فتراهم يفضلون منتج اسمه (كافيه لاتيه) في ستاربكس على منتج اسمه قهوة بحليب.

إذا أردت تفسيراً منطقياً لهذه السلوكات التي نقوم بها جميعاً عند اتخاذ بعض القرارات اليومية، تابع قراءة مقالنا اليوم لتعرف ما هو الاقتصاد السلوكي وما هي تطبيقاته؟

ما هو الاقتصاد السلوكي؟

يمكن تعريف الاقتصاد السلوكي باختصار على أنَّه مزيج بين علم النفس وعلم الاقتصاد، وهو أحد فروع الاقتصاد التي تهتم بدراسة السلوك الحقيقي للناس وليس السلوك النظري، ويُتواصل لمعرفة هذا السلوك عن طريق التجارب الحقيقية، وليس عن طريق الاستبيانات مثلاً وأدوات القياس النظرية.

تعود نشأة الاقتصاد السلوكي لفترة طويلة، لكن نشأته بالشكل الحالي الذي نراه اليوم ترجع إلى العالمَين: كانمان وتفيرسيكي؛ وهما أول من بدأا بدراسة "انحيازات الحدس" (biases of intuition)؛ أي الانحيازات المؤثرة في اتخاذ القرارات، وعلى الرَّغم من التشكيك الكبير الذي لقيه مفهوم الاقتصاد السلوكي من قبل الاقتصاديين التقليديين، إلا أنَّ هذا المفهوم انتشر انتشاراً كبيراً في العالم خلال السنوات السابقة، وخاصةً بعد نيل ريتشارد تيلر جائزة نوبل عن كتابه الذي يبحث في هذا المجال.

يتجه العالم اليوم اتجاهاً كبيراً نحو هذا النوع من الاقتصادات الذي لا يعتمد فقط على عقل الاقتصاد؛ بل يأخذ في الحسبان أيضاً مشاعر المستهلك وعواطفه، فظهر توجُّه جديد لدى المؤسسات والشركات يدعو إلى فهم الجوانب النفسية للعملاء والعوامل العاطفية المؤثرة في قراراتهم المالية.

في كثير من الأحيان عندما نُسأل عن رأينا في موضوع ما، فإنَّنا لا نعطي سلوكنا الحقيقي أو رأينا الحقيقي، ولا يرجع هذا إلى رغبة منا في الخداع؛ وإنَّما لاختلاف السلوك النظري عن العملي؛ إذ تميل قرارتنا النظرية إلى العقلانية والمثالية، في حين تكون قراراتنا على أرض الواقع أكثر عاطفية.

توجد في الاقتصاد، نظرية تُسمى نظرية الخيار العقلاني؛ أي إنَّ الشخص يختار ما يحقق أكبر درجة من الرضى لديه إذا ما أُتيحت أمامه خيارات عدة، وتعتمد هذه النظرية على أنَّ كل شخص مؤهل عقلياً لاتخاذ القرارات المناسبة له، ويستطيع الشخص العقلاني السيطرة على عواطفه ومنعها من التحكم به.

على العكس تماماً من هذه النظرية العقلانية الموجودة في الاقتصاد، يشير الاقتصاد السلوكي إلى أنَّ أغلب الأشخاص غير عقلانيين وعواطفهم ومشاعرهم قادرة على التحكم بهم تحكماً كبيراً؛ ومن ثَمَّ فإنَّ الناس غير مؤهلين لاتخاذ قرارات صائبة في ظل الظروف المختلفة والمتغيرة التي يمرون بها.

إذاً تُتخذ من خلال الاقتصاد السلوكي قرارات دون النظر إلى التوقعات؛ قرارات تعتمد على ما تمليه علينا العواطف فقط، ومن بين القرارات التي يبحث فيها الاقتصاد السلوكي قرارك مثلاً بأي كلية ستلتحق، كوب القهوة الذي تشتريه صباحاً، لون المعطف الذي ستشتريه؛ وجميعها قرارات تتخذها يومياً دون أن تأخذ في حسبانك أي عوامل اقتصادية ودون أن تفكر بعقلانية.

سوف نقوم فيما يأتي بطرح مثال لتوضيح الفرق بين الخيارات العقلانية وبين الخيارات التي تعتمد الاقتصاد السلوكي.

إقرأ أيضاً: ماهو الاقتصاد النقدي؟

في نظرية الخيار العقلاني عندما يكون شراء معطف جديد خارج أولوياتك لهذا الشهر بسبب التزامك بقسط هام مثلاً، فلو مررت بمحل لبيع المعاطف بسعر مخفض، فإنَّك ستلتزم بالخطة التي وضعتها حتى لا تكلِّف نفسك أعباءً مالية إضافية.

على النقيض من ذلك تماماً، في الاقتصاد السلوكي إذا لم يكن من ضمن مخططاتك لهذا الشهر شراء معطف ومررت بمحل يعرض معاطف بأسعار مخفضة ستتأثر إلى حد كبير بمشاعرك وعواطفك، مما يدفعك إلى شراء المعطف، فعلى أرض الواقع أنت قد زدت أعباءك المادية، أمَّا إحساسك فهو أنَّك وفرت وقمت بصفقة رابحة.

لإيضاح الفكرة أكثر يمكننا أيضاً طرح مثال آخر: إذا سألت مجموعة من الناس عن نوع القهوة التي يفضلونها، ستذهب أغلب الاتجاهات نحو القهوة السادة دون سكر، لكن إن وضعت على طاولة مجموعة أنواع هذه موكا، وهذا كابتشينو وما إلى ذلك من أنواع القهوة؛ ستجد أنَّ القرارات تتغير، وسيختار الناس الموكا والكابتشينو ويتركون القهوة السادة.

من خلال ما سبق يمكننا القول إنَّ الاقتصاد السلوكي يدرس تأثير العوامل النفسية والعاطفية والاجتماعية والإدراكية في قرارات الشخص أو المؤسسة.

شاهد بالفديو: أكبر 5 تحديات في الاقتصاد العالمي الجديد وطرق مواجهتها

ما هي تطبيقات الاقتصاد السلوكي؟

توجد معظم تطبيقات الاقتصاد السلوكي في حياتنا اليومية، ومعظم الإعلانات إن لم نقل كلَّها تخاطب مشاعر المستهلك وعواطفه وليس عقله، لنأخذ مثالاً على هذا إعلانات الشوكولا مثلاً فلا ترى فيها أي وصف لجودة المنتج وفائدته، والتركيز يكون على مشاعرك أنت بوصفك مستهلكاً، وفيما يأتي سنعرض بعض الأمثلة على تطبيقات الاقتصاد السلوكي:

1. من خلال التجارب والألعاب تُعرف الميول الحقيقية للمستهلكين، وبهذا تستطيع الشركات والمؤسسات اتخاذ القرارات.

2. قد يستغرب بعض الناس الأسباب التي تدفع بعض المستثمرين إلى اتخاذ قرارات قد تبدو متهورة، الاقتصاد السلوكي قادر على تفسير ذلك.

3. زيادة المبيعات:

يمكن للشركات والمحلات والمطاعم من خلال دراسة قرارات المستهلكين التي يتيحها الاقتصاد السلوكي زيادة مبيعاته، وسنذكر فيما يأتي عدد من الأمثلة على تطبيقات الاقتصاد السلوكي بهدف زيادة المبيعات: لنفرض مثلاً أنَّ أحد شركات المكياج الشهيرة أعلنت عن ماركة جديدة وبسعر 100 دولار، وبعد فترة خفضت السعر إلى 75 دولار، سيقبل الناس على الشراء قبولاً كبيراً ظناً منهم أنَّهم يحصلون على صفقة، لكن لو طرحت الشركة المنتج مباشرةً بسعر 75 دولار لما حققت الأرباح نفسها، ونسبة المبيعات بعد التخفيض.

أغلب العملاء يخافون الخسارة، يمكنك الاستفادة من هذه الصفة لزيادة المبيعات، فمثلاً إذا كنت تريد زيادة مبيعات سائل للتنظيف، بسهولة أخبر المستهلك أنَّ علبة واحدة من هذا السائل توفر عليه شراء ثلاث علب من سائل آخر.

"لا تخيرو بتحيرو" يُستفاد من هذا المثل الشعبي في علم الاقتصاد السلوكي؛ إذ أثبتت التجارب أنَّ الشخص عندما تزيد خياراته تقل نسبة شراؤه.

يمكن أيضاً تطبيق "تأثير الشرك"، وهو أحد تطبيقات الاقتصاد السلوكي التي تسهم بزيادة نسبة المبيعات زيادة كبيرة، فمثلاً أردت بيع علب من الشوكولا أحدها بحجم صغير والآخر بحجم كبير، وكان هدفك زيادة مبيعات العلب ذات الحجم الكبير، يمكنك إضافة خيار ثالث وهو علب وسط بسعر غير متكافئ أقرب لسعر العلب الكبيرة، هنا سيشعر المستهلك أنَّ قراره بشراء العلبة الكبيرة خياراً أفضل.

4. تقوم أيضاً بعض الحكومات بتوظيف الاقتصاد السلوكي في سياستها الاقتصادية:

يمكن للحكومات الاستفادة من الاقتصاد السلوكي بطريقة إيجابية عندما تقوم بتوجيه سلوك المواطنين نحو الاستهلاك الصحيح كاتباع نظام غذائي صحي مثلاً، وعلى العكس من هذا يمكن للحكومات الاستفادة من الاقتصاد السلوكي لتغيير سلوك المواطنين وتوجيههم نحو سلوك دون الآخر بما يخدم مصالحها، وهذا ما يُعدُّ خطيراً.

إقرأ أيضاً: المصرف المركزي ودوره في الاقتصاد

أهداف الاقتصاد السلوكي:

يهدف الاقتصاد السلوكي إلى الوصول إلى غايات عدة، وسنذكر منها:

  1. يميل الاقتصاد السلوكي إلى وضع إطار واضح لفهم الطريقة التي يرتكب بها الناس الأخطاء، هذه الأخطاء التي سوف تتكرر في ظروف معينة، وبهذا يمكن الاستفادة من الاقتصاد السلوكي في إنشاء بيئات مناسبة تدفع الناس نحو قرارات أكثر عقلانية، وهذا ما تفعله الحكومات كما ذكرنا بهدف توجيه مواطنيها نحو شراء سلعة ما بهدف اعتماد طريقة الحياة الصحية مثلاً.
  2. محاولة تصحيح الحواجز العاطفية التي تمنع فرداً ما من السعي وراء مصلحته أولاً؛ إذ يُستفاد من دراسات علم النفس، وما توصل له علماء النفس من فهم للسلوك البشري في التحليل الاقتصادي.
  3. يهدف أيضاً الاقتصاد السلوكي إلى شرح الأسباب التي تدفع المستهلكين إلى خيار ما على الرَّغم من عدم عقلانيته؛ أي فهم الألعاب والحيل التي تقوم بها الشركات لزيادة نسبة مبيعاتها أو تبرير غلاء أسعارها، وبهذا يُعمل على تعزيز الخيار العقلاني للمستهلك.

في الختام:

يجب علينا بوصفنا مستهلكين الانتباه جيداً إلى ما يعرض علينا، وما نُدفع لشرائه، فقد بدأت معظم الشركات والمؤسسات اليوم الاعتماد على تطبيقات ونظريات الاقتصاد السلوكي حتى توجهك نحو شراء سلعة ما عن طريق ربطها بعاطفة أو حتى قضية، وهدفها الأساسي يكون تحقيق الربح فقط.

في حال كنت شركة ناشئة أو صاحب مشروع أيضاً عليك الانتباه والحذر عند إجراء استطلاعات رأي أو استبيانات، فأغلب الناس كما رأينا لن يكونوا قادرين على إعطاء رأي حقيقي؛ لأنَّهم يميلون إلى الخيارات العقلية، أمَّا على أرض الواقع فستختلف خياراتهم كثيراً.




مقالات مرتبطة