ما مدى أهمية الشغف؟ وما علاقته بالثقافة؟

تخيَّل أنَّك توظِّف شخصاً ما لوظيفة شاغرة، أو تقبل طلاباً في كلية، وعبَّر أحد المتقدمين عن شغفه الكبير بالعمل، بينما أشار آخر إلى تشجيع أسرته له للعمل في تلك المؤسسة أو متابعة دراسته في تلك الجامعة، مَن هو المتقدِّم الذي ستقبله على الأغلب.



وفقاً لدراسة جديدة أجرتها "جامعة ستانفورد" (Stanford University)؛ وجد الباحثون أنَّ الشغف ليس الأساس القوي للإنجاز، وأنَّ الثقافة التي نشأ فيها الشخص تُحدِث فارقاً كبيراً؛ ممَّا يعني أنَّ الجامعات والشركات التي تعتمد على شغف المرشحين تفتقر إلى الأشخاص الموهوبين.

كما وجدت دراسة نُشرت في "الأكاديمية الوطنية للعلوم" (National Academy of Sciences)، أنَّ الشغف الذي يُقاس بالاهتمام والمتعة والفاعلية يُعدُّ مؤشراً أقوى على الإنجاز في مجتمعات معينة من غيرها، كما قالت "شينجيو لي" (Xingyu Li)، طالبة الدكتوراه في كلية الدراسات العليا في "جامعة ستانفورد" (Stanford University) والباحثة الرئيسة في الدراسة، إنَّ البحث جديد من حيث نهجه في استخدام البيانات الكثيرة لتقييم الاختلافات الثقافية في العالم الحقيقي، كما يقارن بين مجموعة أوسع من المجتمعات المتنوعة ثقافياً أكثر من الدراسات السابقة التي تدرس العلاقة بين الشغف والإنجاز.

وقالت "شينجيو" إنَّ نتائج الدراسة تشير إلى اعتماد مديري التوظيف وموظفي الجامعات عادةً على "الشغف" كمقياس رئيس لقبول المرشحين؛ ويعني هذا أنَّهم يخاطرون بخسارة الطلاب والموظفين الموهوبين الذين يأتون من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة، والذين قد يتحلَّون بالحافز والفاعلية؛ لذا يجب علينا جعل عمليات القبول والتوظيف عادلة للأشخاص القادمين من خلفيات متنوعة".

شاهد بالفيديو: كيف تكتشف شغفك وتصل إليه؟

نماذج مختلفة من التحفيز:

لقد حلَّل الباحثون نتائج ثلاث سنوات من برنامج تقييم الطلاب الدولي، وهو الاختبار الوحيد الذي يخضع له الطلاب على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، وتتضمن البيانات - التي تشمل الدرجات من 1.2 مليون طالب في المدارس الثانوية في 59 دولة – أيضاً تقييمات الطلاب من حيث الاهتمام، والمتعة والفاعلية في العلوم والقراءة والرياضيات، والتي استخدمها الباحثون لقياس مستوى شغف الطلاب.

لقد كان أولئك الذين شعروا بشغف تجاه الرياضيات أو العلوم أو القراءة أكثر عُرضة لتحصيل درجات أفضل في كل مادة، ولكن حدث هذا أكثر في الثقافات ذات التوجه "الفردي" مثل الولايات المتحدة وأستراليا، أكثر من المجتمعات ذات التوجُّه الجماعي مثل الصين وتايلاند وكولومبيا؛ حيث شعر الطلاب بأنَّ الدعم العائلي لمصلحتهم كان هامَّاً للغاية.

ترى الدول ذات التوجُّه الفردي، بما في ذلك العديد من الدول الغربية، والصناعية والغنية، والديمقراطية، أنَّ كل فرد مستقل مصدر تحفيز لنفسه، بينما ترى المجتمعات الجماعية أنَّ الأشخاص مترابطين وجزء من شبكة من العلاقات والأدوار والمسؤوليات.

لقد كتب الباحثون أنَّ فكرة تنبؤ الشغف بالإنجاز بصورة أفضل، تعكس نموذجاً غربياً وواضحاً للدافع، لكنَّ الدافع يتخذ أشكالاً مختلفة في السياقات الاجتماعية والثقافية المختلفة، وفي الواقع، لقد لاحظوا أنَّ لغات مثل الماندرين والتايلاندية ليست لها ترجمة مباشرة لكلمة شغف بمعنى الاهتمام الفكري، كما يقول الباحثون إنَّ الدافع يتأثر بفلسفات الإنجاز لثقافة معينة، وأنماط التنشئة الاجتماعية، والمعايير التعليمية.

لقد قالت "هيزل روز ماركوس" (Hazel Rose Markus)، أستاذة علم النفس في كلية العلوم الإنسانية والعلوم بـ "جامعة ستانفورد" (Stanford University): "ثمَّة نموذج شائع وفعَّال من التحفيز في كثير من أنحاء العالم، حتى في الولايات المتحدة التي تحمل توجُّهاً فردياً، قد يكون الأشخاص ذوي التراث الشرق آسيوي أو اللاتيني أكثر دراية وممارسة لأسلوب التحفيز المترابط بسبب التركيز الأكبر نسبياً على العلاقات في هذه المجتمعات".

إقرأ أيضاً: التحفيز وتأثيره الإيجابي على حياة الإنسان ونجاحهِ العملي

إعادة التفكير في الافتراضات:

لقد تحدَّثت "شينجيو" عن تجربتها بصفتها شخصية شغوفة للغاية تنحدر من خلفية ثقافية جماعية؛ إذ قالت: "لقد ولدت في بكين، وكنت متحمسة لإتقان اللغة الإنجليزية بعد أن أصبحت من مشجعي نادي تشيلسي لكرة القدم في الدوري الإنجليزي، وقد حصلت أيضاً على دعم أسري شديد؛ إذ شجعني والداي على متابعة اهتماماتي الأكاديمية وغير الدراسية؛ حيث دعما دراستي في "جامعة ستانفورد" (Stanford University)، وعندما كنت في المدرسة الثانوية، سمحا لي بالسفر إلى "غوانزو" (Guangzhou) - ثالث أكبر مدينة في الصين - لمشاهدة مباراة لفريق تشيلسي".

لقد لاحظت "شينجيو" من خلال تعاملها مع ثقافات مختلفة الاختلافات في طريقة تفكير الناس في الصين والولايات المتحدة بشأن الدافع؛ إذ لاحظت - على سبيل المثال - أنَّه في فيلم "وونج كار واي" (Wong Kar-wai) وفيلم "ذا جراند ماستر" (The Grandmaster)، لم يقل معلم الفنون القتالية الشهير "إيب مان" (Ip Man) أبداً إنَّه كان يمتلك شغفاً شخصياً لممارسة الكونغ فو؛ بل كان دافعه هو تحقيق الإتقان والرغبة في الارتقاء إلى مستوى ما يرمز إليه التزامه تجاه معلمه ومجتمعه: البراعة الجسدية في خدمة الصدق والنزاهة واللياقة.

إقرأ أيضاً: كيف تُنشِئ قائمة بالأمور التي تمتلك شغفاً نحوها لتطوير حياتك

الثقافة هامَّة:

يؤكد الباحثون أنَّ النموذج الفردي للتحفيز ليس أفضل من الناحية الموضوعية؛ ففي الولايات المتحدة، قد يبدو الأداء الجيد بسبب ما يتوقعه الآخرون دليلاً على نقص الإمكانات، وهي علامة على أنَّك أُجبِرت على فعل ما هو مطلوب، لكنَّ أشكال التحفيز المترابطة لا تعزِّز هذا الانطباع، ولا تؤذي الاستقلالية الشخصية، وقد تكون أيضاً مصدراً للتمكين والمثابرة والمرونة.

لقد قال "ماركوس": "يمكن تعزيز الدافع من خلال تلبية التوقعات والمساهمة في نجاح وسلامة عائلتك والآخرين المقربين منك"، كما قال أستاذ التربية وعلم النفس بـ "جامعة ستانفورد" (Stanford University) والباحث المشارك في الدراسة "جيفري كوهين" (Geoffrey Cohen) إنَّ النتائج تتيح إمكان تصميم نشاطات تعليمية لا تعتمد فقط على الفكرة الغربية المتمثلة في تنمية الشغف والمثابرة اعتماداً فردياً؛ بل تشرِك الآباء والمعلمين والأقران في إنشاء أنظمة تحفيزية أكثر جماعية، وقال: "سنكون أكثر قدرة على إطلاق العنان لإمكانات طلابنا والقوى العاملة لدينا إذا فهمنا الدوافع التي تحرِّك الناس من مجموعة واسعة من الخلفيات فهماً أفضل".

المصدر




مقالات مرتبطة