لماذا لا يعد السفر الافتراضي بديلاً عن الوجود الفعلي في مكان ما؟

سأبحر هذا الأسبوع في الممر الشمالي الغربي لأتعرَّف أنماط الطقس هناك وحيوانات القطب الشمالي، وفي الأسبوع الماضي، قمت بجولةٍ في متحف مدينة "كوبي" في "اليابان"، حتى أنَّني اقتربت بشدة من لوحة "قطة مع نبات الهدرانج" (Cat with Hydrangea) للفنان "تو يوكوكو" (Tō Yōkoku) لدرجة أنَّني تمكنت من رؤية ضربات الفرشاة المتلألئة والرفيعة كرفع الشعرة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الأستاذة في الفلسفة "إيميلي توماس" (Emily Thomas)، والتي تُحدِّثنا فيه عن تجربتها في السفر الافتراضي.

لقد قمت بكل هذه الرحلات وأكثر وأنا جالس على الكرسي في منزلي؛ حيث توجد مزايا هائلة لهذا النوع من السفر، فمثلاً أنت لا تُصَاب بالبرد أو البلل أو المرض، والمتاحف وصالات العرض مفتوحة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ولا تحتاج إلى لقاحات أو حبوب للوقاية من الأمراض؛ كما يمكنك السفر مجاناً، أو بمبلغ أقل من تكلفة تذكرة القطارات المحلية على أقل تقدير.

وصف كاتب من القرن السابع عشر ذات مرة "المسافر" بكونه "مرهقاً ومتعرقاً ومتألماً ومتقلباً وبلا مأوى، ويمشي بخطىً متثاقلة"، وفي المقابل أنا أصفُ "المسافر من على كرسي" بأنَّه مسترخٍ ونظيف ومرتاح ولا يُتعب قدميه ويسافر، كما أنَّه مغطى ببطانيته والفشار أمامه.

يملك السفر على الكرسي عبر الكتب تاريخاً طويلاً؛ إذ ادَّعى "سقراط" (Socrates) أنَّه يمكنه أن يتعلم عن العالم من خلال القراءة أكثر مما يمكن أن يتعلمه من خلال السفر؛ إذ قال: "يمكنك أن تأخذني في رحلة عبر جميع أنحاء العالم؛ بسهولة، بواسطة أوراق الكتاب".

وقد قال الفيلسوف والقارئ الشغوف بقصص الرحلات "إيمانويل كانت" (Immanuel Kant): إنَّه لم يكن لديه وقت للسفر؛ لأنَّه أراد أن يعرف الكثير عن العديد من البلدان، لكن هل يمكن أن تعادل قراءة كتابٍ ما استكشافَ العالم شخصياً؟

بالنسبة إليَّ أقول: "لا" إنَّه ليس قريباً منه حتى، على الرغم من أنَّ القراءة توفر طريقة جيدةً للتعلم عن العالم، إلَّا أنَّها لا تستطيع نقل التجربة الحسية بغناها. هل يمكن أن تنقل لك القراءة عن نهر جليدي مثلاً تشققاته أو انهياراته أو حتى تدرجات اللون الأزرق في صميمه؟

إنَّ أحد أسباب الاعتقاد بأنَّ القراءة غير كافية هو أنَّنا نعتمد غالباً على الاستعارات لنقل ما هو غير مألوف، فقد شبَّه الفيلسوف "جورج بيركلي" (George Berkeley) الانفجارات البركانية لـ "جبل فيزوف" (Mount Vesuvius) بـ "انفجار الرعد أو المدفع"، مصحوبةً بصوت كالقعقعة "مثل تلك التي تحدث عندما يتساقط القرميد من أسطح المنازل".

إنَّ هذه المقارنات شاعرية؛ ولكنَّها مضللة أيضاً؛ فلا تتشابه هذه الأشياء كثيراً؛ إذ لا تبدو أصوات جبل "فيزوف" كالمدافع أو كتساقط القرميد. يوجد المزيد لمعرفته في العالم أكثر من مجرد الصخور والجسيمات المادية، وبالطبع أكثر مما نتعلمه من الجلوس على الكرسي.

قد تعتقد أنَّه حتى لو كانت القراءة غير قادرة على نقل ما يقدمه السفر بغناه، إلَّا أنَّ هنالك أشكالاً أخرى من السفر على الكرسي قادرة على ذلك.

تتضمن رحلتي القصيرة عبر الشمال الغربي صوراً وفيديو تفاعلياً تمكنت فيه من تدوير الكاميرا كما أرغب، بالإضافة إلى التسجيلات الصوتية للرياح أيضاً، وكانت هنالك حتى علامات يمكن النقر عليها لعرض معلومات حول الصخور والنباتات.

ويمكن أن ينقلنا الواقع الافتراضي إلى مستوى آخر بدوره، فيمكنه أن يُنشِئ تجارب سفر واقعية؛ فمن خلال ارتداء جهاز الرأس والقفازات يمكنك الاستمتاع كلياً بالأبعاد الثلاث.

في المرة الأولى التي جربت فيها الواقع الافتراضي، أبهرتني جودة الصور التي تقارب الواقعية.

أنشأت شركات السفر بالفعل تجارب للواقع الافتراضي في مدينة "ماتشو بيتشو" (Machu Picchu) في "البيرو" وأجزاء من "روما" وغيرها الكثير من الشركات الجديدة.

في يومنا هذا ما زالت تختلف تجربة الواقع الافتراضي عن العالم الحقيقي؛ ولكنَّ ذلك سيتغير بالتأكيد، ففي المستقبل قد تصبح تجارب الواقع الافتراضي غير قابلة للتمييز عن التجارب الشخصية.

ستصبح الرسومات أدق، وسنتمكن من تحريك أجسادنا الافتراضية بشكل معقول ضمن المناظر الطبيعية، وربما سيضيفون رائحةً وملمساً، ألن يسمح ذلك لنا بأن نسافر حقاً من على الكرسي؟

في الواقع ما زلت رافضاً للفكرة، ولكن بالطبع ستكون لهذا النوع من السفر عبر الواقع الافتراضي العديد من المزايا؛ إذ إنَّ الأمر أسهل وأرخص - ومرة أخرى - لا خوف من الأمراض.

وعلى الرغم من كل هذا، أرى أنَّه لا يمكن أن يحل محل السفر في العالم الحقيقي. لإيضاح الفكرة؛ أقدم لكم نسخةً مصغرةً من تجربة الفكر الخاصة بالفيلسوف "فرانك جاكسون" (Frank Jackson) التي كانت تحت اسم "ماري" (Mary)؛ في الإصدار الأصلي عالِمَة تدعى "ماري" تُعَدُّ خبيرةً في الطبيعة المادية للون، ومع ذلك تدرس عبر شاشة أحادية اللون وتعيش في غرفة بالأبيض والأسود.

شاهد بالفديو: 10 وسائل فعّالة لحياة رقمية أكثر أماناً

عندما تغادر "ماري" الغرفة وترى وردةً حمراء لأول مرة، هل تتعلم شيئاً جديداً؟ ناقش "جاكسون" بأنَّ امتلاك "ماري" لكل المعلومات العلمية المادية حول شيء ما لا يعني امتلاك كل المعلومات حول ذاك الشيء؛ إذ يوجد المزيد لمعرفته في هذا العالم أكثر من مجرد الصخور والجسيمات المادية، وبالطبع أكثر مما نتعلمه من على الكرسي.

في الإصدار الخاص بي، تكون "ماري" باحثة في "اليابان" ومجبرة على التحقيق في البلاد من على كرسيها بسبب الحجر، وهي خبيرة في مدينة "كيوتو"، وقد درست جغرافيا المدينة وتاريخها وثقافتها وعمارتها وأدبها وطقسها، وإلى جانب قراءتها لكل كتاب قد نُشِر على الإطلاق حول "كيوتو"، استعملت جهازاً مستقبليَّ التصميم يوضع على الرأس ويُستَعمل للتنقل رقمياً في جميع أنحاء المدينة؛ حيث استطاعت شمَّ رائحة التوفو المحلي وشاهدت أشعة الشمس تلمع من جهة الجناح الذهبي وسمعت غناء العندليب الصادر عن قلعة "نيجو" (Nijō).

من خلال هذه التقنيات، دعونا نفترض أنَّ "ماري" اكتسبت جميع المعلومات التي من الممكن أن تحصل عليها فيما يخص مدينة "كيوتو". ماذا سيحدث عندما يسُمَح لـ "ماري" أن تخرج من الحجر وأن تزور "كيوتو" شخصياً؟ هل ستتعلم شيئاً جديداً؟

كما يبدو الأمر واضحاً للعديد من القراء، فإنَّ "ماري" بصفتها عالمة ستتعلم شيئاً جديداً عن اللون الأحمر، ويبدو الأمر واضحاً بالنسبة إليَّ أنَّ "ماري" بوصفها مسافرة ستتعلم شيئاً جديداً عن "كيوتو"؛ وهذا يشير إلى أنَّ معرفتها السابقة حول "كيوتو" كانت ناقصة وغير مكتملة على الرغم من امتلاكها لجميع المعلومات.

ولكن ما الذي يحدث هنا؟ في الواقع لا أعتقد أنَّه من الممكن معرفة كل شيء عن مكان ما دون الوجود فيه أساساً، ولكن ما هي المعلومات التي يمكن أن تكون مفقودةً في تلك الحالة؟ وما هي المعلومات الموجودة في مكانٍ ما، التي يستحيل بلوغها بأيَّة وسيلة أخرى؟ أرى أنَّ الإجابة تختبئ وراء علم الظواهر، والذي يمثل شعورنا حول الوجود.

غالباً ما يدخل الوعي في صلب الحديث عند التحدث عن ماهية شعور "أن تكون". يناقش الفيلسوف "توماس ناغيل" (Thomas Nagel) قائلاً إنَّه حتى يكون الكائن الحي واعياً، يجب أن يكون هناك "شيء يشبه كينونة هذا الكائن الحي"، وبالنسبة إلى "ناغيل"، لا يمكن وصف السمات المتعلقة بعلم الظواهر لتجربةٍ ما؛ بل يمكن تجربتها فقط؛ وذلك لأنَّ ظواهرنا - تجربتنا في أن نكون - مرتبطة ارتباطاً أساسياً بوجهة نظر واحدة.

أنا أناقش شيئاً مشابهاً، وهو ما يتعلق بالذهاب جسدياً إلى الأماكن؛ حيث يمكننا وصف مكان ما بتفاصيله الدقيقة؛ ولكنَّ هذا لا يعادل الوجود هناك؛ حيث توجد طريقة معينة تشعر بها عندما تكون في "لندن" مثلاً، وأخرى تشعر بها عندما تكون في "نيويورك"، التي لا يمكن بلوغها إلَّا من خلال زيارة ذاك المكان بعينه.

تقدم "لندن" وجهة نظر مختلفةً عن وجهة النظر التي تكوِّنها وأنت جالس في غرفة المعيشة داخل منزلك؛ إذ يمكن أن تعرف "ماري" عن كل شيء فيما يخص "كيوتو"، دون أن تدرك ماهية شعور أن تكون هناك بنفسها؛ وهذا ما يفتقر إليه السفر من على الكرسي؛ وهو تلك التجربة حول الوجود هناك في ذاك المكان، وهذا هو الفارق بين المعرفة المفصلة بـ "اللون الأحمر" وبين رؤية وردة مثلاً.

حتى إذا كان السفر في العالم الحقيقي يقدم شعوراً لا يمكن تقديمه عبر السفر الافتراضي، فهل يستحق ذلك العناء كله؟ إذا استطعنا تحصيل كل شيء تقريباً من السفر في العالم الحقيقي عبر السفر الافتراضي - باستثناء الشعور - فهل يجب أن نتكبد عناء السفر شخصياً، مع الأخذ في الحسبان جميع المخاطر والصعوبات؟

كان "سقراط" ليقول: إنَّ الجواب هو "لا"، ولكن لا بد من الأخذ في الحسبان الادعاء الذي يقدمه الروائي "بول ثيروك" (Paul Theroux) بأنَّ الرحلات الأسوأ تصنع أفضل الكتب، فهو يستمتع بالرحلات الصعبة، وكان كتاب السفر المفضل لديه هو "أسوأ رحلة في العالم" (The Worst Journey in the World) للكاتب "أبسلي تشيري غارارد" (Apsley Cherry-Garrard)، ويمكن فهم مضمونه من العنوان.

تلك هي أنواع الخبرات التي يستحيل الحصول عليها من على الكرسي، ولَكانت دونها حكايات السفر أقل متعةً بكثير. وحتى مع فظاعة بعض الأجزاء من الرحلة، فأنا أشك في أنَّه قد يفضل البقاء في منزله؛ وذلك لأنَّ هناك قيمة في خوض تجارب متنوعة وتجاوز المصاعب.

يسمح لنا السفر في العالم الحقيقي القيام بالأمرين، وبطرائق يمكن أن تفاجئنا وتغيرنا، ومن المؤكد أنَّه يجعل من المرء مرهقاً متعرقاً يمشي بتثاقل؛ ولكنَّني ما زلتُ أفضله على الجلوس على الكرسي، وحمل الكتب وتناول الفشار.

المصدر




مقالات مرتبطة