لماذا تعد عقلية الحصول على كل شيء مجرد كذبة؟

بصفتي طبيبة نفسانية فقد عملتُ خلال الفترة الماضية مع طبيبة وهي أم لطفل، وقد صدمني الألم الذي تعانيه لكونها لا تستطيع قضاء الوقت الذي تريده مع طفلها الصغير. لم يصدمني أنَّ الوقت الذي تكون بعيدة فيه عن طفلها كان يسبب لها الألم؛ وذلك لأنَّني كنت أرى أنَّ معاناتها تكمن في شيء آخر. وبينما كانت تشعر بأنَّها يجب أن تمارس مهنة الطب التي تُحبها وتكون في الوقت نفسه الأم الحنون والموجودة دوماً بجوار طفلها، فقد أصيبت بالإحباط؛ وذلك لأنَّها لم تكن قادرة على القيام بهاتين المهمتين معاً.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الطبيبة النفسية "نانسي كوليير" (Nancy Colier)، والتي تُحدِّثُنا فيه عن مساوئ تبنِّي عقلية الحصول على كل شيء وفوائد التخلي عن هذه العقلية واستبدالها بمشاعر الرضى والقبول.

أخبرَتني عميلة أخرى بأنَّها ترغب في أن تكون لها علاقة أكثر حميمية مع زوجها لتشعر بمزيد من الارتباط معه، وشرحت كيف انزعج زوجها في أثناء العشاء لأنَّها تركت هاتفها مفتوحاً حتى تتمكن من التواصل مع أبنائها طوال الوقت، وطلبت مني أن أُصمِّم لها استراتيجية أو برنامجاً رقمياً يُمكِّنها من البقاء على اتصال دائم مع أبنائها دون أن تفقد تواصلها مع زوجها.

هذه مجرد أمثلة أتعامل معها بشكل دائم خلال مهنتي، وما تشترك به هذه النماذج هو أنَّ جميعهم يريدون الحصول على كل شيء.

نحن البشر مُهيَّؤون إلى الاعتقاد بأنَّه يجب أن نحصل على كل شيء وعلى كل ما نريده، وفكرة الحصول على كل شيء تعني أنَّه لا يجب التخلي عن أي شيء.

وتُعزِّز التكنولوجيا هذا الاعتقاد من حيث السهولة التي يمكننا من خلالها شراء السلع والقيام بالكثير من الأشياء بضغطة زر، وفي الواقع نحن نحصل على الكثير من الأشياء التي نريدها دون بذل الكثير من الجهد، وتدعم أيضاً وسائل الإعلام إيماننا بأنَّ كل شيء ممكن وفي حال لم نحصل على كل ما نريده، فما علينا سوى بذل المزيد من الجهد.

إنَّها القوى التي تريدنا أن نصدق أنَّه يمكننا الحصول على كل شيء؛ إذ إنَّها تجعلنا نطارد الحلم ونسعى دوماً إلى اكتساب المزيد ونحقق ما لا يُحصى من الإنجازات.

في الواقع لا حرج في فكرة الحصول على كل شيء على صعيد الأعمال التجارية؛ بل هي فكرة مفيدة على هذا الصعيد؛ إذ يكون لتبنِّي فكرة معاكسة آثار كارثية في الأرباح.

لكنَّ المشكلة هي تبنِّي هذه العقلية في جميع جوانب الحياة، فمثلاً عندما أخبرتُ إحدى عميلاتي بأنَّها عندما تكون متاحة لأطفالها على مدار الساعة وطوال الأسبوع؛ فهذا قد يعني أنَّه لن يكون بمقدورها الوجود مع زوجها؛ الأمر الذي يمنعها من الارتقاء بالعلاقة إلى المستوى الذي تستمتع به، ولقد شعرَت عميلتي بالخيبة بعد هذه الكلمات وبدت غير مقتنعة.

إقرأ أيضاً: التعامل مع خيبات الأمل في الحياة

وعندما بينتُ لتلك الطبيبة الساعات التي تتطلَّب فيها مهنتها الوجود في المستشفى وقارنتها بالساعات التي تكون فيها ابنتها نائمة والساعات التي تكون فيها مستيقظة، فقد أصيبَت بالذهول وبدت كأنَّها تسمع هذه الأمور لأول مرة.

وبوصفها تعمل في مهنة ذات صفة علمية تطبيقية، فإنَّها حتماً تستوعب الرياضيات، ومن ثم يجب أن تكون مُدركة للحقائق التي تترتب على خياراتها.

الحياة ليست مثالية، ولكن من الغريب أنَّنا لا نستوعب هذه الحقيقة، على الرغم من أنَّ استيعابنا وقبولنا لهذه الحقيقة يجعلنا نتحرر من الوهم الذي نستمر بمطاردته ونجني الألم في النهاية.

عندما نعتقد أنَّه يمكننا الحصول على كل شيء ويجب الحصول على كل شيء، ينتهي بنا الأمر بالتوقف دون فعل شيء والتخبُّط بين الخيارات والتردد الدائم حيال أي شيء وعدم الاستقرار على خيار محدد؛ أي بسهولة لا زلنا غير مستعدين لقبول حقيقة أنَّ الاختيار ينطوي على الخسارة شئنا أم أبينا، ويحدث هذا في كل مرة نُقدِم فيها على اختيار شيء من بين أشياء عدَّة.

عندما نتشبث بمشاعر اللوم وتوبيخ أنفسنا وعَدِّ أنفسنا مقصرين لأنَّنا لم نتمكن من الحصول على كل ما نريد، فإنَّ الأمر ينتهي بنا دون الحصول على شيء؛ إذ يجب أن نعلم ونتقبل فكرة أنَّ الخسارة والربح متلازمان.

علاوةً على ذلك، فإنَّنا عندما نرفض حقيقة أنَّه يتعين علينا الاختيار بين شيئين نريدهما - أي أن نختار شيئاً دون الآخر - فإنَّنا نحرم أنفسنا من فرصة التعاطف مع الذات؛ إذ إنَّ قبول الخسارة التي تأتي مع الاختيار يعني أيضاً قبول المشاعر التي تأتي مع تلك الخسارة.

ومن ثم نجعل أنفسنا فريسة لمشاعر الخيبة والحزن؛ وذلك لأنَّنا حرمنا أنفسنا من الاستمتاع بالخيار الذي اتخذناه، فإنَّنا نكسب فرصة أو ميزة ونخسر بالمقابل فرصة أو ميزة أخرى عند كل خيار نتخذه، وضياع الفرصة أو الميزة هو تجربة يجب أن نستفيد منها ونتعامل معها بمرونة.

أقول دوماً للأشخاص الذين يستشيرونَني في مشكلات من هذا النوع: إنَّه عندما تختار شيئاً ما، فإنَّك لن تحصل على مزايا الخيارات التي فوَّتَّها.

ولكنَّني ألفتُ نظرهم إلى فكرة أنَّه كوننا غير قادرين على الوصول إلى طريقة نجمع بها بين خيارات عدَّة لا يعني أنَّ هناك خطب ما في شخصيتنا؛ ولكنَّ هذا يعني أنَّنا بشر ونعيش وفق حقيقة أنَّنا لسنا كاملين.

يوجد الكثير من الوقت والطاقة والاهتمام ببعض ما نريده وليس كل ما نريده؛ إذ إنَّ بعض الرغبات تقتضي بطبيعتها استبعاد الرغبات الأخرى، وعندما أُقدِّم للناس هذه الحقيقة بهذه الطريقة الواقعية، فإنَّهم يستغربون وأحياناً يستهجنون ما أقوله؛ وذلك لأنَّهم لم يفكرواً أبداً في هذه الحقيقة الأساسية.

لكن عندما نكون مستعدين لقبول فكرة أنَّ الحياة تتضمن قيوداً غير قابلة للتفاوض، فإنَّنا نشعر بقيمة الخيارات التي نتخذها، وأهمية عيش التجربة التي أقدمنا عليها بكل تفاصيلها.

إنَّ التصالح مع هذه الفكرة يجعلنا نرضى بما نحصل عليه ولا نندم بشأن ما قررنا التخلي عنه، وهذان الأمران يزيدان من شعورنا بقيمة وأهمية ما نملكه فعلاً؛ لذلك يجب أن تفهم أنَّه ليس هناك من خطأ كونك لا تستطيع الحصول على كل شيء تريده وأنَّ هذا ليس فشلاً؛ بل يكمن الخطأ في الفكرة التي تدَّعي بأنَّه يجب أن يكون بمقدورنا الحصول على كل شيء، إنَّها فكرة تُجمِّد طاقاتنا وتجعلنا نشعر بالتردد والندم؛ والنتيجة هي الكثير من المعاناة.

الوقت والطاقة والتركيز هي عناصر مرنة في جانب من الجوانب؛ بمعنى أنَّه يمكنك أن تستغل هذه العناصر بما يلائم رغباتك، ولكن في الجانب الآخر فإنَّ هذه العناصر محدودة؛ إذ إنَّها لا تستطيع تغطية كل الخيارات، فعندما تعطي شيئاً ما وقتك واهتمامك، فهذا يعني أنَّه لا يمكنك إعطاء الكثير من الوقت والاهتمام للأشياء الأخرى، والتي ربما ترغب فيها أيضاً.

شاهد بالفيديو: 6 نصائح لتحقيق الامتنان في حياتك

هذا ما يُسمى في الحياة بالقرار الصعب؛ إذ إنَّها التجربة التي يجب أن نمتلك فيها النضج والرصانة والإحساس الواقعي؛ إذ نَعُدُّ الخسائر التي تنتج عن الخيارات التي لم نتخذها هي ما يتيح لنا أن نعيش حياةً ذات مغزى عميق؛ أي حياة نملك فيها الهدف.

وبالتأكيد سنصبح وقتها أكثر امتناناً لما نملكه وللتجاربِ التي خضناها، فعندما نتوقف عن تشتيت أنفسنا بما يجب أن يكون لدينا والتفكير دوماً في الخطأ الذي يمنعنا عن الحصول عليه، فإنَّنا نواصل العمل لتحديد ما نريده حقاً، ويمكننا الاختيار بناءً على الأولويات؛ وذلك بتحديد ما يهمُّنا أكثر.

إنَّ قبول حقيقة الاختيار وما يرافقه من خسارة، يشجعنا على اكتشاف ما نريده حقاً في هذه الحياة وكيف نعيش كي نحصل عليه ونستمتع به.

المصدر




مقالات مرتبطة