لا تكن عدوَّ نفسك اللدود

كانت امرأةٌ جامايكية جميلة ذات بشرة سوداء فاتحة تجلس مع زوجها في متجر آيس كريم مزدحم على شاطئ البحر في ميامي، مع أنَّها لم تتحدث بصوت عالٍ ولم تحاول لفت انتباه أحد، فإنَّ الجميع لاحظوا وجودها.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "مارك كرنوف" (Marc Chernoff)، ويروي لنا فيه قصة معاناة صديقته وضرورة تجنُّب جلد الذات.

إنَّها تعرف لماذا ينظرون إليها؛ إذ قالت لزوجها: "إنَّهم ينظرون إليَّ لأنَّني لست بيضاء البشرة، ولأنَّنا من عرقين مختلفين، ولا يفهمون سبب زواجنا"، فتأوَّه الزوج وأغمض عينيه، ولم يستطع قول أي كلمة؛ لأنَّهم قد أجروا هذه المحادثة مئات المرات من قبل.

تتابع المرأة حديثها: "لم يعد عليَّ أن أشرح لمَ يؤلمني هذا كثيراً؛ إذ تُصوِّر وسائل الإعلام الإناث الشقراوات البيضاوات بوصفهم مثالاً للجمال والكمال، فإنَّ لون بشرتي ما هو إلا عيب وراثي"، وتتابع: "لا يهم ما إن كنت مخلصاً لي الآن؛ لأنَّ كل هذه التأثيرات المحيطة بك سوف تدفعك إلى التخلي عني والبحث عن شريكةٍ مناسبة".

كانت فتاة آسيوية، تبلغ من العمر 12 عاماً، تحدِّق في المرأة الجامايكية وتنهمر دموع صغيرة على وجهها وتسأل والدها: " لماذا لستُ جميلةً مثلها يا أبي؟".

وفي الوقت نفسه كانت ثلاث نساء بيض أنيقات في أوائل الثلاثينيات من عمرهن يجلسن على طاولة قريبة، لقد كنَّ جميعاً أصدقاء في الطفولة في دار أيتام محلية، لكن عندما وُضعوا في دور رعاية مختلفة، انقطع الاتصال بينهنَّ، وهذا هو اللقاء الأول بينهنَّ منذ ما يقرب من عشرين عاماً.

لقد سألت المرأة الجامايكية زوجها وهما يمشيان إلى سيارتهما: "هل رأيت هؤلاء النساء الثلاث عند الباب؟ إنَّ النساء البيض الثريات مثلهنَ لا يقدِّرن مدى سهولة حياتهن".

شاهد بالفيديو: 10 خطوات لاكتساب شخصية قوية حسب علم النفس

شعور النقص المنتشر بشدة:

لربما من الجريء أن يكتب رجل أبيض قصة عن امرأة جامايكية جميلة محطمة القلب ومعذبة من الداخل بسبب نظرتها السلبية إلى ذاتها، لكنَّ الأمر لا يتطلَّب الجرأة، فتلك المرأة هي صديقة عزيزة لي، وقد طلبت مني مشاركة جزء من قصتها.

لقد اتصلت بي الليلة الماضية باكيةً وشرحت لي معاناتها تحت وطأة صراعاتها الداخلية.

أخبرتني أنَّها كانت ضحية الأحكام غير العادلة وعدم الاحترام في الماضي البعيد، وأنَّها الآن تستعيد ذكريات تلك التجارب السابقة يومياً، قالت لي: "إنَّني تائهةٌ تماماً، أصبحتُ مهووسةً بشدة بالآراء السخيفة لأشخاص سابقين والتي لا تستحق أي اهتمام مني، وقد أصبحت أحكم على نفسي هذه الأيام بنفس أحكامهم، هكذا أفكر وهكذا أعيش، في حالة دائمة من الشعور بالنقص، لقد أصبحت عدوة نفسي الألد، وهذا الأمر يقودني إلى الجنون"، وبعد ذلك، طوال ساعتين تخلَّلتها لحظاتٌ من الصمت والبكاء، وصفت لي المشهد الحزين في متجر الآيس كريم.

يمكن تحليل قصة صديقتي بطرائق عديدة، ولكنَّني أريدك أولاً أن تفكِّر للحظة في المواقف المشابهة التي عشتها في حياتك؛ إذ يعاني كل واحد منَّا بدرجةٍ ممَّا تعانيه صديقتي، فلا يوجد بيننا شخص لا يملك مخاوف، لكنَّ بعضاً منَّا أفضل في التعامل معها، فإنَّنا نقلق بشأن آراء الآخرين بنا، ونقلق بشأن مظهرنا وما إذا كان الناس يحبوننا، كما نقلق من عدم تحقيق إنجازاتنا، ونقلق من الفشل، ومن عدم قدرتنا على تلبية توقعات الآخرين، ونقلق بشأن كل تلك الأشياء الحمقاء والطائشة التي قالها أحدهم عنَّا ذات مرة.

كما أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي بثقافتها التي تروِّج للحصول على القبول المستمر، من خلال تعبيرات الإعجاب والقلوب الافتراضية، إضافةً إلى المنشورات التي تعرض الأجساد الرشيقة، والرحلات المذهلة، تزيد من حدَّة المشكلة.

أظنُّ أنَّه بالنسبة إلى كثيرين منَّا، قد منعتنا مشاعر النقص هذه من:

  1. عيش مواقف اجتماعية يمكننا من خلالها تكوين صداقات، أو علاقاتٍ مهنية جديدة، أو ربما إيجاد حب حياتنا حتى.
  2. التحلي بالثقة عند التواصل مع الناس.
  3. تغيير وظيفتنا، أو تأسيس شركة، أو تأليف كتاب، أو ممارسة الفن، أو طرح أفكارنا الذكية أمام الناس.
  4. الالتزام بعاداتٍ يومية صحية، كتناول الطعام الصحي، وممارسة الرياضة؛ لأنَّنا فشلنا في الماضي.
  5. تعلُّم شيءٍ جديد رائع، كهواية، أو مهارة جديدة؛ لأنَّها تتطلب كثيراً من الجهد وقد نُحرج أنفسنا.

لقد عشت كل ذلك وأكثر في سنٍّ مبكرة، فعندما كنت طالباً مستجداً في المدرسة الثانوية وأكافح لشق طريقي، وضع شخص مجهول رسالة في خزانتي أحد الأيام؛ إذ كتب: "لا تدعهم يحطِّمون معنوياتك، فلست شخصاً مُملَّاً أو غريب الأطوار، إنَّك إنسانٌ متطور ومبدع وأذكى بكثيرٍ ممَّا تقوله كلماتهم الساذجة، كما أنَّك أيضاً أجمل بكثيرٍ مما تعتقد"، ومع أنَّني لم أكتشف مطلقاً من كتب الرسالة، فإنَّني ما زلت أحتفظ بها في درج مكتبي حتى يومنا هذا، وأقرؤها أحياناً عندما أحتاج إلى تذكير.

لقد بذلت قصارى جهدي الليلة الماضية لتذكير صديقتي بشيءٍ مماثل، لكنَّها أرادت معرفة المزيد؛ إذ سألتني: "كيف أتغلَّب على مخاوفي؟ كيف أتصالح مع نفسي مرةً أخرى؟"، وكانت الإجابة التي قدمتها بسيطة إلى حدٍّ ما، ولكنَّها ليست سهلة.

الرضى عن النفس:

قد يكون ذلك أصعب شيء علينا القيام به لأجل أنفسنا، فيجب ألَّا تكون نظرتنا إلى ذاتنا سلبيةً إطلاقاً، ولكنَّ ذلك يتطلَّب كثيراً من الممارسة، فعندما نريد الشعور بالرضى عن أنفسنا وعن مكاننا في العالم، فإنَّ العقبة الأكبر والأعقد التي يجب علينا تجاوزها هي أفكارنا بحدِّ ذاتها، فإذا تمكَّنا من التغلُّب على هذه العقبة، فيمكننا التغلُّب تقريباً على كل مصاعب الحياة.

يجب أن نقبل حقيقة أنَّنا لا نستطيع التحكم بأحداث الحياة تحكُّماً كاملاً، لكن يمكننا التحكُّم برد فعلنا تجاهها، وبرد الفعل هذا تكمن قوتنا وقدرتنا على النمو والمضي قدماً.

تخرجت إحدى المتدربات اللائي كنت أنا وزوجتي ندربهنَّ بدرجة الدكتوراه العام الماضي من إحدى الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة، وقد أصبحت الآن مديرةً تنفيذيةً لواحدة من شركات التكنولوجيا الأسرع نمواً في العالم؛ إذ كانت تعاني بشدة خلال المدرسة الابتدائية والثانوية من أحد أشكال عسر القراءة الذي صعَّب عليها القراءة والكتابة جداً، وقد أمضت دراستها منذ مرحلة رياض الأطفال وحتى الصف الثاني عشر في مدارس ذوي الاحتياجات الخاصة لتعلُّم اللغة، وفي أثناء مؤتمر للآباء والمعلمين، أبلغت إحدى معلماتها والديها أنَّه من شبه المستحيل أن تحصل على شهادة المدرسة الثانوية.

كيف نجحت إذاً؟ كيف دفعت نفسها للنهوض والتغلب على الصعاب؟ يكمن السر في تغيير العقلية، هذا ما أكَّدته عندما أجريتُ مقابلةً معها؛ إذ قالت: "إنَّ العقلية التي علَّمتموني إيَّاها، وجعلتموني مسؤولةً عنها، قد غيَّرت كل شيء؛ إذ تعلَّمتُ أن أقول لنفسي إنَّ هؤلاء المُشكِّكين كانوا مخطئين بحقي، وتوقفتُ عن التشكيك في نفسي أيضاً، لقد غيَّرت عقليتي وأصبحتُ أقول لنفسي بالضبط ما أحتاج إلى سماعه كل يوم، لكي أمضي بحياتي إلى الأمام".

نصائح لتجنُّب جلد الذات:

لا توجد طريقة واحدة تناسب الجميع؛ لأنَّ الجميع لديه قصص وتجارب سابقة فريدة، لكن توجد بعض النصائح الأساسية التي نرشد عملاءنا من خلالها، والتي تشمل ما يأتي:

1. انتبه لقصتك الشخصية:

لا بد أنَّ لديك قصة شخصية، أو ربما سلسلة من القصص، التي تذكِّر نفسك بها وتكرِّرها في ذهنك يومياً؛ إذ تقتصر هذه القصة على هويتك وسِماتك، ربما أنت بدين وبشرتك داكنة، وربما لست ذكياً، ولست محبوباً، ولست جيداً بما فيه الكفاية، انتبه لهذه القصة عندما تعيدها وعندما تشعر بالقلق تجاه هويتك الحقيقية؛ لأنَّها تؤثر في كل ما تفعله، فعليك أن تدرك أنَّ هذه القصة ليست صادقةً ولا تحدِّد هويتك الحقيقية؛ بل هي مجرد سلسلةٍ من الأفكار التي تستطيع إيقافها وإعادة صياغتها.

2. أعِد كتابة القصة:

يجب أن تحل قصة جديدة محل تلك القصة التي تكرَّرت يومياً في ذهنك، لكن يجب أن تصوغها بعنايةٍ هذه المرة، ركِّز أولاً على حقيقة أنَّك شخص جيد يتعلَّم ويسعى بجهد إلى أن يتحسَّن، ثمَّ اسأل الأشخاص الذين يحبونك ويحترمونك أن يخبروك لماذا يحبونك ويحترمونك.

استخدم أجوبتهم في صياغة قصتك الجديدة، ثمَّ املأ فراغات القصة بأحداث حياتك واللحظات التي تشعر بالامتنان لها، وحاول التركيز على الأشياء التي تدعوك للابتهاج والتي لم تقدِّرها حقَّ قدرها.

3. كرِّر أسطر القصة الجديدة:

عندما تجد نفسك تتذكَّر قصتك القديمة، توقَّف فوراً، واستبدل هذه السطور بسطورٍ من القصة الجديدة؛ إذ يتطلب ذلك كثيراً من الممارسة، لكنَّه يستحق هذا العناء، استمر في الممارسة فقط، وسامح نفسك إذا ما ارتكبت بعض الأخطاء.

شاهد بالفيديو: 10 عادات تُدمّر الذات والثقة بالنفس

4. لا تأخذ الآراء السلبية على محملٍ شخصي:

قد تحاول الآراء السلبية تشتيت انتباهك عن قصتك الجديدة، كالتعليقات السلبية من العائلة، ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وكثير من الأشياء التي يقولها الناس ويفعلونها، فتعلَّم أن تتجاهل هذه الآراء السلبية متى ما تعرَّضت لها، قل لنفسك: "هذه الملاحظة ليست مشكلتي، بل مشكلة من قالها".

تذكَّر أنَّ جميع الناس يعانون من مشكلات عاطفية مثلك تماماً، وقد تجعلهم متعجرفين ووقحين ولا مبالين في بعض الأحيان؛ إذ إنَّهم يبذلون قصارى جهدهم للتعامل مع هذه المشكلات، أو قد لا يكونون على دراية بها أصلاً؛ إذ يمكنك ألا تفسِّر سلوكاتهم على أنَّها إساءةٌ شخصية لك، بل هي مجرد إزعاج عشوائي يمكنك الرد عليه بلطف، أو تجاهله تماماً.

إذا كنت تحتاج إلى قليل من المساعدة لإعادة صياغة قصتك، فيمكنك الاستعانة بالمثال الآتي:

ربما قابلت شخصاً للتو وقال إنَّه سيتصل بك قريباً، لكنَّه لم يتصل في الموعد المحدد، ستظنُّ غالباً أنَّه نسي أمرك لأنَّك لم تكن في مستواه، فعندما تجد نفسك تفكِّر بهذه الطريقة، ذكِّر نفسك أنَّ اعتقادك هذا هو مجرد قصةٍ اختلقتها للتو في ذهنك، ثمَّ اسأل نفسك الأسئلة الآتية:

  1. هل أنت متأكدٌ تماماً من صحة هذه القصة؟
  2. بمَ تشعر وكيف تتصرَّف عندما تتذكَّر هذه القصة؟
  3. ما هي الاحتمالات الأخرى التي قد تكون إيجابية ولكنَّها صحيحةٌ أيضاً؟

يجب عليك أن تفكِّر في الأمر ملياً قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، وأُراهن أنَّك لست متأكداً من صحة القصة، ولا بدَّ أنَّها تجلب لك كثيراً من الإزعاج، كما توجد عدة احتمالات أخرى تسمح لك بالتفكير بعذر أفضل.

إقرأ أيضاً: مشاعر الدونية والنقص عند الطفل: أسبابها وآثارها وطرق التخلص منها

في الختام:

اسمح لي في الختام بتلطيف الأجواء بهذه القصة القصيرة:

قال الجرو: "هؤلاء الأشخاص الذين أعيش معهم يطعمونني ويحبونني ويوفرون لي منزلاً دافئاً، ويداعبوني ويعتنون بي كثيراً، إنَّني ممتنٌ جداً لهم".

أمَّا القطة فقالت: "هؤلاء الأشخاص الذين أعيش معهم يطعمونني ويحبونني ويوفرون لي منزلاً دافئاً، ويداعبوني ويعتنون بي كثيراً؛ وذلك لأنَّني أفضل منهم ويجب عليهم تقديري".

إقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع عدم الرضى عن الذات؟ وكيف تجعل منه أمراً يحفزك؟

ألا ترى الاختلاف؟

إنَّ قصص حياتنا هي إلى حدٍّ كبير نتاج أفكارنا؛ لذا يمكننا تغيير الواقع الذي نعيشه بتغيير عملية تفكيرنا اليومي، وعندما نصبح راضين عن أنفسنا، سوف نعيش حياةً أفضل على الرَّغم من جميع نقاط ضعفنا.




مقالات مرتبطة