لا تقرأ أي كتاب، لن تستطيع معرفة إن كان أحدهم يكذب

عبر الزمن والثقافات تم تقديم العديد من الادعاءات بشأن قدرتنا المفترضة على اكتشاف أكاذيب الآخرين، فقد كتب "سيغموند فرويد": "من لديه عينان ليرى وأذنان ليسمع قد يقنع نفسه بأنَّه لا يوجد إنسان يمكنه إخفاء سر، وإذا كانت شفتاه صامتتين، فإنَّه يثرثر بأطراف أصابعه؛ كلماته تتسرب منه، ومن كل مساماته".



كشف الكذب في الثقافة الشعبية:

وفقاً لنص هندي يعود تاريخه إلى 900 قبل الميلاد، فإنَّ الشخص الذي يكذب سيركض إصبع قدمه الكبير على الأرض ويرجف، ويفرك جذر شعره بأصابعه، وفي المسلسل التلفزيوني الأمريكي (Lie to Me) قام عالِم النفس "كال لايتمان" بمعرفة الكاذبين من خلال تفسير تعابير وجوههم، وفي الحياة الواقعية اليوم توجد الكثير من الاستشارات التي تقدم لك تدريبات لصقل كفاءتك في اكتشاف الكذب.

بالطبع تفتخر مواقع مثل (YouTube) ببرامج تعليمية لا حصر لها للكشف عن الكذب، وقد يكون لديك أنت وأصدقاؤك وعائلتك حدس خاص عن كيفية اكتشاف الكذب، لكن لا تحتاج إلى الاعتماد على الحدس، فقد اختبر جهد بحثي ضخم في علم النفس كل هذه التكهنات والادعاءات القديمة بشكل تجريبي.

دراسة الكذب من خلال سؤالين:

إنَّ دراسة الكذب عمرها قرن على الأقل، وقد تم نشر آلاف الأوراق العلمية، وركز الباحثون تركيزاً أساسياً على السؤالين الرئيسين اللذين أثارهما هذا الاقتباس من "فرويد" وتلك الحكاية من الهند، وهما ما هو مدى مقدرة الشخص العادي على اكتشاف الأكاذيب؟ وما هي العلامات السلوكية للكذب إن وجدت؟

للإجابة عن السؤال الأول عرض الباحثون على المشاركين مقاطع فيديو لأشخاص يروون قصة، وفي بعض الدراسات تكون مقاطع الفيديو من واقع الحياة، وفي دراسات أخرى تكون مصطنعة، لكن في جميع الحالات يعرف الباحث أيها يُظهر شخصاً يقول الحقيقة وأيها يقول كذباً، ومهمة المشاركين في البحث هي تحديد كل مقطع ما إذا كان الشخص يكذب أم لا.

دراسة كلاسيكية، هل يستطيع الناس تمييز الكذب؟

في دراسة كلاسيكية أُجريت عام 1991م عرض عالما النفس "بول إيكمان" و"مورين أوسوليفان" على المشاركين مقاطع لطلاب تمريض شباب يشاهدون مقطع فيديو (كان بعيداً عن نظر المشاركين)، بينما وصفوه بصوت عالٍ بأنَّه إيجابي، ووصفوا حالتهم العاطفية الحالية بأنَّها هادئة ومريحة، وفي الواقع بينما شاهد نصف الطلاب فيلماً عن المناظر الطبيعية الرعوية الجميلة، شاهد النصف الآخر مقطع فيديو مروعاً ومزعجاً؛ لذا كان وصفهم المصاحب كذبة.

لتعزيز تحفيز الطلاب أخبرهم "إيكمان" و"أوسوليفان" أنَّ القدرة على إخفاء مشاعرهم الحقيقية كانت مؤشراً جيداً للنجاح في التمريض، فقد لا يكون هذا صحيحاً تماماً، وفي الوقت نفسه كان المشاركون في البحث الذين كان عليهم الحكم على الطلاب الكاذبين والصادقين باحثين محترفين وقضاة محاكم وأطباء نفسيين ومحققين جنائيين، وعلى الرغم من خبرتهم المهنية، لم يكن المشاركون قادرين على التمييز بين طلاب التمريض الذين كانوا يخبرون الحقيقة عن حالتهم الذهنية، وأيهم كانوا يتلاعبون بها؛ إذ لم يسجلوا نتائج أفضل أو بالكاد أفضل مما لو كانوا قد خمنوا بشكل عشوائي.

شاهد بالفديو: 6 طرق لكشف الكاذبين من حولك

حتى الخبراء يفشلون في كشف الكذب:

فكر في الأمر كم مرة تكتشف أكاذيب من قِبل الآخرين؟ وكم مرة يتم الكشف عن أكاذيبك؟ لا يقتصر الأمر على الأكاذيب البيضاء الصغيرة التي تحرك عجلة التفاعل الاجتماعي، لكن أيضاً الأكاذيب الأكثر خطورة التي إذا تم الكشف عنها يمكن أن تقلب حياتك رأساً على عقب سواء كان ذلك في المجال المهني أم الشخصي، وإنَّ مثل هذه الأنواع من الخداع نادراً ما يتم اكتشافها (ما لم يعترف الكاذب)، والبحث المتاح يؤكد اعتقادنا.

لقد كان الباحثون مبدعين في توظيف سيناريوهات واقعية لإجراء أبحاث الخداع، لقد اختاروا المواقف التي يكون من الهام فيها تصديقهم، على سبيل المثال عند التعامل مع الشرطة، ومع ذلك عندما يشاهد المشاركون في البحث مقاطع فيديو لمشتبه بهم ينكرون أنَّهم يخفون أي شيء عن ضابط، فإنَّهم لا يتخطون نسبة المصادفة في التمييز بين الكاذبين وقائلي الحقيقة.

استفاد مسار آخر من البحث من حقيقة أنَّه عندما يتم الإبلاغ عن اختفاء أطفال أو شباب وعدم وجود أدلة جيدة للشرطة، فإنَّهم يطلبون أحياناً من أحد المقربين المشاركة في مخاطبة الجاني من خلال شاشة لمطالبته بالإفراج عن الطفل، ليتبين لاحقاً أنَّ قريبه كان هو الجاني، ومع ذلك لم يكن أداؤهم أفضل مما لو كانوا يخمنون بشكل عشوائي.

إقرأ أيضاً: كيفية كشف الكذب وطرق التعامل مع الشخص الكاذب

هل يمكن كشف الكذب من خلال ملاحظة علامات معينة؟

على الرغم من حقيقة أنَّ الثقافات عبر التاريخ كانت لديها أفكار ثابتة عن كيفية تصرُّف الشخص غير الصادق، يشير العلم إلى أنَّ الناس عموماً ضعفاء في اكتشاف الأكاذيب، إضافة إلى ذلك تشير الأدلة إلى أنَّ الاختلافات بين الأشخاص في قدرتهم على اكتشاف الكذب صغيرة، وتقول ادعاءات سابقة إنَّ مجموعات معينة من الناس - مثل القلقين أو السيكوباتيين - هم بطبيعتهم خبراء في كشف الكذب اتضح أنَّها غير صحيحة حتى من الناحية الإحصائية.

عموماً لا يبدو الكاذبون متوترين، ولا يتجنبون التواصل البصري أكثر من أولئك الذين يقولون الحقيقة، فلماذا يجد الناس صعوبة لمعرفة من يكذب؟ يوجد تفسيران محتملان؛ ربما لا توجد علامات سلوكية موثوقة للكذب والخداع، أو ربما توجد علامات خداع موثوقة، ولكنَّنا ببساطة لسنا على علم بها أو لا نستطيع التصرف وفقاً لها.

هل الكاذبون يقومون بحركات جسدية أقل أم أكثر؟

في العصر الحديث يخبرنا الفولكلور النفسي في جميع أنحاء العالم أنَّ الكذب ينعكس في علامات معينة مثل الاضطرابات الجسدية والعصبية وتجنب النظر، فهل هذه الأفكار صحيحة؟ وهل تتسرب الأكاذيب والسلوكات المخادعة بشكل منهجي إلى سلوك الكاذب؟

الجواب "لا"، فقد أظهرت تحليلات سلوك الكاذبين في نوع البحث الذي وصفناه أنَّ الكاذبين عموماً لا يتصرفون بشكل مختلف عن الأشخاص الذين يقولون الحقيقة، وهذا هو الحال في مواقف الحياة اليومية وفي الدراسات المختبرية وفي الحياة الواقعية وفي مختلف السياقات.

عندما جمع الباحثون العديد من الملاحظات عبر دراسات متعددة، لم يكن الكاذبون متوترين ولم يتجنبوا التواصل البصري أكثر من أولئك الذين يقولون الحقيقة؛ إذ إنَّهم يقومون بحركات جسدية أقل من تلك التي يقوم بها قائلو الحقيقة، ولكنَّ الحجم الصغير لهذا التأثير يعني عدم وجود طريقة لاستغلاله في الممارسة العملية.

مظاهر الكذب باهتة:

في مراجعة شاملة وكلاسيكية أُجريت قبل 20 عاماً خلصت "بيلا ديباولو" ومعاونوها إلى أنَّ "مظاهر وعلامات الخداع باهتة"، وفي مراجعتهم الأخيرة أيد "ألدرت فريج" وزملاؤه هذا الاستنتاج وأضافوا أنَّ "الناس يكتشفون الكذب بشكل أقل عندما ينتبهون للسلوك"، فالفكرة التي تم اكتشافها مؤخراً هي ما إذا كان بإمكاننا بطريقة ما اكتشاف الأكاذيب دون وعي (اكتشاف العلامات السلوكية دون إدراك ذلك)، لكن هنا أيضاً الدليل ملتبس في أحسن الأحوال، ولا يمكن تطبيقه عملياً في أي مكان.

إقرأ أيضاً: 26 إشارة من إشارات لغة الجسد تشير إلى أنَّك غير واثق من نفسك

الكذب في المسلسلات التلفزيونية:

أحد الاحتمالات هو أنَّ العلامات المفترضة للخداع أو الكذب معروفة جيداً لدرجة أنَّ معظم الكاذبين يختارون ببساطة تجنب مثل هذه السلوكات، على سبيل المثال من خلال اتخاذ قرار بالنظر مباشرة في عيون محاورهم في أثناء حديثهم، وقد دفع هذا بعضهم إلى التساؤل عما إذا كانت هناك علامات سلوكية لا يمكن السيطرة عليها بسهولة ويمكن أن تكشف كذبة بطريقة يمكن اكتشافها بواسطة التكنولوجيا أو الخبراء المدربين تدريباً عالياً؟ إنَّ المرشح لمثل هذا التلميح الدقيق والمعقد والكشف هو ما يسمى بـ "التعبير الدقيق"، وهو تقلص عضلي صغير وسريع للغاية للوجه ناتج عن مشاعر الشخص.

أشاع هذه الفكرة الكذب في المسلسلات التلفزيونية في أثناء التمثيل، فهذه الحركات يكاد لا يمكن اكتشافها من قِبل المراقبين العاديين، ومع ذلك فإنَّ البحث المتاح يبعث على الواقعية لدى المعجبين بفكرة أنَّ التعبيرات الدقيقة يمكن استخدامها لكشف الكذب، وتُظهر الدراسات التي تستخدم التحليل الدقيق لحركات عضلات الوجه في مقاطع الفيديو أنَّ الأشخاص في الواقع يُبدون عدداً قليلاً جداً من التعبيرات الدقيقة، والأكثر من ذلك أنَّها لا تظهر بشكل متكرر عندما يكذب الشخص.

في الختام:

إذا كان الأشخاص الذين تتضمن وظيفتهم الكشف عن الخداع غير مؤهلين لمثل هذه المهمة، فهل هناك أيُّ سبب لتوقع أن يكون المواطنون العاديون كذلك؟ كما اتضح من هذه الدراسة، نحن لسنا كذلك، وقد تم تأكيد النتائج العامة لهذه الدراسة من خلال عدد كبير من الدراسات مع أشخاص عاديين ومتخصصين في تقصي الحقائق بوصفهم مشاركين، وكلها تشير إلى نفس النتيجة؛ في المتوسط لا يستطيع الناس تمييز الأكاذيب من الحقائق بناءً على كيفية قيام الآخرين بذلك.




مقالات مرتبطة