لا تُطِع والديك!

لا شكَّ في أنَّ الطاعة مطلوبة في الكثير من مجالات الحياة لكي يعمل مجتمعنا وتسير حياتنا بهدوء، لكن بسبب قوة السلطة التي تفرض الطاعة من خلال التخويف من العقاب، قد يطيع الأفراد رؤساءهم بطرائق مدمرة وتتعارض مع قيمهم الأخلاقية الشخصية.



الطاعة في النظام الأسري:

كتبت "جوتا إيكاريوس" أستاذة في العلوم التربوية بجامعة "كولونيا" وخبيرة في مجال البحث التربوي دراسة تجريبية نوعية كبيرة عن التغيير في التنشئة الأسرية على مدى ثلاثة أجيال، وبالنسبة إلى (Jutta Ecarius) فهي لا تحبُّ عبارة "تحت السيطرة" أو "الطاعة" لأنَّها تذكرها بعصر الأبوة المستبدة ويجب ألا تكون موجودة اليوم.

تم توزيع القوة بين الوالدين والأطفال بوضوح، فأي شخص لا يتبع القواعد - التي وضعها الأب في الغالب - يُعاقب بالحرمان أو بالقسوة، وإذا لزم الأمر بالعنف الجسدي، وتقول "جوتا إيكاريوس": "يمتلك الآباء اليوم علاقة مختلفة تماماً مع أطفالهم"؛ إذ يعتمد تعليم اليوم على الثقة أكثر مما يعتمد على الطاعة أو السيطرة.

كيف يمكن تطبيق التربية المناهضة للطاعة بطريقة معاصرة؟

عندما يولد الطفل نريد أن نكون أفضل الآباء أو أفضل الأمهات، والسبب الوحيد وراء ذلك هو الرغبة في منح الطفل منزلاً محباً وتنشئة جيدة، لكن ما هو التعليم الجيد أو التربية السليمة؟ يوجد العديد من أشكال التعليم والتربية وأحدها هو التعليم المناهض للسلطوية والتربية المناهضة للطاعة.

في المقام الأول التنشئة المناهضة للطاعة ليست بناءً جامداً؛ بل هي أسلوب حياة، وفي الماضي كانت الطاعة واحترام كبار السن من أهم ركائز التعليم، أما التربية المناهضة للسلطوية هي بخلاف ذلك.

في حال أراد الآباء الصغار القيام بأشياء مختلفة عن والديهم وتربية أطفالهم على مبادئ مغايرة، فلا توجد أيَّة مشكلة، كما يمكن للآباء منح الفرصة والحرية للأطفال لاتخاذ القرارات، ويكون دورهم هنا هو تقديم النصح لأطفالهم دون إجبارهم على شيء.

الطاعة وإخلاء المسؤولية الفردية:

من خلال البحث المكثف عن هذه الفكرة الجديرة بالاهتمام، أكد الباحث "ستانلي ميلجرام" أنَّه عندما يطيع شخص ما أوامر لها عواقب سلبية أو غير أخلاقية يتم إلقاء المسؤولية أو اللوم النهائي على عاتق الرتبة الأعلى في سلم السلطة؛ وذلك لأنَّ الفرد ببساطة يطيع الأوامر، فهو لا يتحمل مسؤولية أفعاله.

النظام العسكري الشمولي وأعمال الإبادة الجماعية وعدم المساواة بين الرجال والنساء كلها منتجات سلبية للطاعة الجماعية؛ إذ يشرح "ميلجرام" في كتابه "طاعة السلطة" الآثار السيئة للطاعة التي تهدد استقرار حياتنا، فيقول: "لقد تم تدريبنا على ممارسة الطاعة، لكن من أجل أن يكون لدينا مجتمع مدني مستقر ومتحضر، يجب أن نتحمل المسؤولية الكاملة عن أفعالنا ونحاول التفكير بأنفسنا ولو كان ذلك صعباً في بداية الأمر".

شاهد بالفيديو: 13 أمراً لا يقوم بها أصحاب العقلية القوية!

تحقيق الطاعة يتطلب العزل:

تكون مناطق التدريب العسكري معزولة مكانياً عن المجتمع لضمان عدم وجود سلطات منافسة، ويتم تحديد المكافآت والعقوبات وفقاً لمستوى طاعة المرء لمرؤوسيه، وعادةً ما يتم قضاء أسابيع عدة في التدريبات البدنية القاسية والمنهكة، وعلى الرغم من أنَّ هدفها الظاهري هو تزويد الجندي بالمهارات البدنية العسكرية، إلا أنَّ هدفها الأساسي هو تحطيم أي وجود للشخصية الفردية أو النزعة الذاتية أو على الأقل عزلها عن الأوامر التي يتلقاها الجندي في الجيش.

نظراً لأنَّ المنصب أو السلطة يمكن أن يجعلا أي شخص يرتكب أفعالاً مشينة ودموية دون طرح أيَّة أسئلة على مبدأ "نفذ ثم اعترض"؛ إذ تدرب السلطة جنودها على الانصياع والتخلي عن أيَّة مبادئ أخلاقية شخصية قد تتعارض مع تنفيذ المهمة المطلوبة.

الطاعة والحرب العالمية الثانية:

كلنا نتذكر الجرائم البشعة وغير الإنسانية التي ارتكبها الجنود الألمان في الحرب العالمية الثانية، والنقطة الهامة هي أنَّ تلك الحرب اللعينة هي أجندة فرد واحد هو "أدولف هتلر"، وعلى الرغم من ندم العديد من الجنود على أفعالهم، ولكنَّهم عندما يكونون في أرض المعركة يصبح تنفيذ الأوامر مسألة حياة أو موت.

قد يؤدي العصيان أو التمرد إلى السجن أو الإعدام؛ وذلك لأنَّ العصيان يضعف من قوة الجيش في المعركة، ومن ثمَّ فإنَّ الحفاظ على الانضباط يصبح عنصراً أساسياً من عناصر البقاء على قيد الحياة ولا يترك للجندي أي خيار سوى الطاعة، فأولئك الذين اختاروا عصيان أوامر "هتلر" خلال الحرب العالمية الثانية تم اعتقالهم أو إعدامهم.

لماذا نفشل في كسر حلقة الطاعة؟

يؤكد فيلم (Bryan Singer) الأخير (Valkyrie) صعوبة إسقاط السلطة القوية التي تعتمد التخويف والترهيب؛ إذ يحاول الكولونيل "كلاوس فون شتاوفنبرغ" الذي يؤديه "توم كروز" القضاء على سلطة "هتلر"، وهنا يقول "ميلجرام": "يكمن الخطر الكبير في احتمال أن يقوم المنشق الوحيد بتحفيز الآخرين على ذلك؛ لذا يجب نفيه أو عزله أو معاقبته بشدة لترهيب كل من يفكر في التمرد".

لسوء الحظ بسبب انصياع الجيش لـ "هتلر" والخوف الدائم من التعذيب والإعدام، لم يجرؤ معظم العسكريين المشاركين في حملة "شتاوفنبرغ" على التمرد أو الخروج عن الطاعة.

لماذا تُعَدُّ الطاعة أمراً سهلاً؟

لماذا يكون من الأسهل طاعة حكم أو سلطة تأمرك بقتل الآلاف من البشر بدلاً من طاعة فرد يعمل من أجل السلام والأمن الاجتماعي؟ يستطيع الناس ارتكاب أفعال إجرامية عندما يُطلب منهم ذلك، ليس فقط لأنَّها مسؤوليتهم أو واجبهم، لكن بسبب عدم وجود عواقب لتلك الجرائم، فإذا عَدَّ الجندي تلك الأوامر غير أخلاقية فعادة ما تكون ثمة عقوبات قاسية ورادعة تحددها السلطة، وفي الحرب توجد عقوبات فقط لعصيان أوامر القادة وليس للقيام بأفعال غير أخلاقية وغير إنسانية.

مثال عن سلبيات الطاعة:

يعمل صديقي حالياً في قوات الجيش، فعندما سألته بتردد عما إذا كان قد قتل شخصاً ما، توقف قليلاً وقال: "قتل إنسان ما في الجيش يختلف عن قتل إنسان ما في المنزل"، فهو يعلم أنَّ ما يفعله خطأ، ولكنَّه يتجاهل ذلك ويهرب منه سواء بوعيه أم دون وعي، وبالنسبة إليه لا توجد أيَّة عواقب أو حساب لأفعاله؛ بل هي متوقعة ومعروفة؛ فإنَّها واجباته بكل بساطة، وقد تم تدريب هذا الجندي على طاعة الأوامر دون سؤال، ومن ثمَّ فقد نسي أخلاقه ومبادئه وحتى فطرته السليمة وحل محلها الطاعة والخوف من العقاب.

يمتلك كل إنسان ضميراً يعمل بدرجة ما على كبح النزعات أو الرغبات الداخلية في الإيذاء أو الإساءة إلى الآخرين، لكن عندما يندمج ضمن هيكل تنظيمي يصبح شخصاً جديداً ومتحرراً من عوائق وقيود الأخلاق والمبادئ الشخصية وعصياً على الكبح الإنساني الفطري، فلا شيء يوقفه أو يردعه سوى عقوبات السلطة.

الطاعة هي الراعي الرسمي لحفلات الإبادة الجماعية:

يموت آلاف الأشخاص يومياً بسبب لون بشرتهم أو طائفتهم أو انتمائهم السياسي أو حتى رأيهم، وتحدث أعمال الإبادة الجماعية في أجزاء كثيرة من العالم وتضر باستقرار المجتمعات، ففي كتاب "مشكلة من الجحيم: أمريكا وعصر الإبادة الجماعية" تحلل "سامانثا باور" أهوال الإبادة الجماعية وكيف أنَّ طاعة مجموعة واحدة لعرقها أو قبيلتها يمكن أن تقتل ملايين الأبرياء.

الناس الذين وقعوا ضحية للإبادة الجماعية أو تخلى عنهم المجتمع الدولي لن يصبحوا أناساً طيبين أو مسالمين؛ وذلك لأنَّ تعطشهم للثأر وقناعتهم بالعنف بوصفه وسيلة وحيدة لاسترجاع حقوقهم، قد ينفجر في أيَّة لحظة ونعود جميعاً إلى حمام الدم.

إقرأ أيضاً: قواعد سايكولوجية في تربية الطفل سيتفاجأ الأهل بوجودها

في الختام:

قد تتساءل عزيزي القارئ عن العنوان الغريب الذي قرأته "لا تطع والديك" وعلاقته بمحاور المقال، ولا شك في أنَّ طاعة الوالدين بمعنى الرعاية والعناية ورد الجميل والاحترام هي مسلمات لا يختلف عليها أحد، لكن ما قصدناه هو تجنب الطاعة العمياء التي ترتكز على تنفيذ الأوامر بحذافيرها دون إخضاعها للمحاكمة العقلية سواء بدافع الخوف من العقاب أم بدافع الطاعة المدفوعة بالحب.

إقرأ أيضاً: سيكولوجيا الطاعة: لماذا ننفذ الأوامر؟

لا شك في أنَّ صديقنا الجندي الذي يبرِّر القتل كان مطيعاً بشكل أعمى لوالديه ثم معلِّميه ثم رؤسائه، ولا شك أيضاً أنَّ الكولونيل "شتاوفنبرغ" كان متمرداً على والديه ومعلميه وأخيراً على رؤسائه، لكن تذكَّر أنَّه لقي حتفه في نهاية المطاف؛ لذا كن حذراً.




مقالات مرتبطة